كوسوفا بين تعنت موسكو ومزايدات واشنطن
بقلم/ أحمد الظرافي
نشر منذ: 16 سنة و 11 شهراً و 3 أيام
الثلاثاء 27 نوفمبر-تشرين الثاني 2007 07:53 ص

مأرب برس - خاص

أصبحت قضية استقلال إقليم كوسوفا المسلم عن صربيا ، وقضية نشر منظومة الدرع الأميركية المضادة للصواريخ في أوروبا ، من أهم القضايا الخلافية بين واشنطن وموسكو خطان أحمران وهاتان القضيتان تواجهان بالرفض القاطع والتهديد المتكرر من قبل الدب الروسي ، وهذا موقف مبدأي وثابت في السياسة الخارجية الروسية – في الوقت الراهن على الأقل - ويعتبر الروس هاتين القضيتين خطين أحمرين ينبغي الوقوف عندهما وعدم تخطيهما ، وهما غير قابلين للتفاوض أو للتنازل بالنسبة لموسكو ، فكل منهما – من وجهة نظر كبار المسئولين الروس - تمثل تهديداً حقيقياً للأمن القومي الروسي ، بل وللنظام العالمي برمته والذ ي يحاول الروس فرض أنفسهم ليكونوا شركاء رئيسيين في المحافظة عن أمنه واستقراره الاستراتيجي - بجانب القطب الأمريكي الأوحد – وهذا ما يؤكد عليه كبار المسئولين والقادة الروس في كل مناسبة معتبرين أن هذا الإقليم جزءا لا يتجزأ من أراضي صربيا ، ويربطون مصيره بمصير صربيا ككل ، ويكررون مناشدتهم للمجتمع الدولي باحترام " سيادة ووحدة أراضي صربيا " مؤكدين على أن هذا المبدأ – وليس مبدأ منح الاستقلال للإقليم - هو الأصل الذي يجب أن يُحترم ، وأن تكون له الأولوية في المباحثات ، ومعتبرين العمل وفق هذا المبدأ هو صمام الأمان لضمان استتباب عملية السلام وإنهاء حالة التوتر في أوروبا ، وهذا ما ورد على لسان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نفسه، ردا علي اقتراحات لمنح الاستقلال للإقليم ، جاء ذلك خلال احتفال في الكرملين ، أقيم في 29/7/2007 ، والذي قال فيه أيضا: '' اليوم يدافع شعب صربيا عن سيادته ووحدة أراضيه " مشيرا إلى أن " السلام في أوروبا لا يمكن أن يقوم دون أن توضع في الاعتبار مبادئ القانون الدولي الأساسية''•

حلقة مفرغة

وباعتبار روسيا من الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن، تمتلك حق النقض ( الفيتو ) فإن المسئولين الروس يلوحون دوما باستخدام سلاح الفيتو هذا، والذي سيشل أي مشروع قرار دولي يمكن أن يطرح لصالح استقلال الإقليم عن صربيا. وباستخدام هذا الحق – المعروف بحق النقض - تمكن الروس من إجهاض العديد من مشاريع القرارات الدولية حول تقرير مصير كوسوفا في الوقت السابق – والتي لم تحظ بالقبول من جانب حليفتهم التقليدية صربيا -.

ومن العجيب الغريب أن موسكو تصر على أن يكون القرار النهائي – المتعلق بمسألة تقرير مصير إقليم كوسوفا – عائدا إلي مجلس الأمن ، التابع للأمم المتحدة – الذي ضمن لها- أصلا - حق النقض ( الفيتو ) – وهذا معناه في حقيقة الأمر أن لا حل لمسألة كوسوفا ، إلا إذا وافق عليه الروس ، وهم لا يوافقون على أي حل ، إلا إذا وافقت عليه بلجراد ابتداء ، وهذه الأخيرة طبعا لن تفعل ذلك إلا إذا كان الحل حسب هواها - بمعنى أن يظل الإقليم تحت سيادتها – وهذا ما يرفضه ألبان كوسوفا رفضا قاطعا – وهي عملية أشبه ما تكون بالدوران في حلقة مفرغة ليس لها نهاية ولا تؤدي إلى أي نتيجة – وبصورة تشبه المفاوضات بين الفلسطينيين والصهاينة - 

رسالة سياسية مزدوجة

ويزعم المسئولون الروس أن منح الاستقلال لإقليم كوسوفا سيكون سابقة خطيرة من شأنها إشعال العديد من الصراعات والأزمات على أساس أن أي توتر في كوسوفا لا ينحصر أثره داخل حدودها وإنما قد يمتد – ليس إلى أوروبا أو البلقان فحسب ، وإنما إلى أماكن مختلفة من العالم أيضا، وبما يؤدي إلى زعزعة السلام الأوروبي والعالمي ، والإخلال بالأمن والاستقرار .

وهذا تعبير سياسي دبلوماسي مبطن لا يعبر عن المضمون ، وهو عبارة عن مزاعم تجافي الحقيقة، إذ أن هدف الروس من إحباط الجهود الرامية منح الاستقلال لإقليم كوسوفا – علاوة على ما سبق - هو الحيلولة دون إضفاء طابع شرعي علي طموحات مناطق وقوميات أخري لها نفس هذا المطلب. ومثل هذه المناطق والقوميات كثيرة ، ومتعددة في روسيا ، أي أن ما يخشاه الروس – في الواقع - هو أن يتزعزع أمنهم هم، وليس السلام العالمي كما يدعون ، نظرا لوجود العديد من الشعوب والقوميات المقهورة، التي يهيمن عليها الروس، ومنها شعوب إسلامية مثل الشيشان والأنجوش في القوقاز– قد يشكل استقلال كوسوفا بالنسبة لها – في حال إقراره – نموذجا يتبع في المستقبل، وقد يشجعها ذلك ، لتحذو حذوه ، وتزيد – بالتالي - من مطالبتها ونزعتها القوية نحو الانفصال عن الدولة الروسية. وعلى هذا يمكن تفسير الموقف الروسي المتشدد من قضية إقليم كوسوفا بأنه ليس فقط رسالة للخارج وإنما هو في الأساس رسالة للداخل الروسي وبالتحديد لتلك الشعوب المتحفزة في داخل روسيا للاستقلال عنها ، مفادها عدم الجنوح لتبني فكرة الاستقلال أو الانفصال عن روسيا التي تراودها أو التي تعمل من أجلها ، بل وأن تصرف النظر عنها نهائيا ، لأن دون ذلك الأهوال وخرط القتاد، وأن عليها القبول بالأمر الواقع الذي هي فيه – وهو البقاء تحت هيمنة الدب الروسي في إطار روسيا الاتحادية –

ويعتبر الروس أن أي خطة توضع لفصل إقليم كوسوفا عن صربيا بدون موافقتها يعتبر إخلالا بمبادىء القانون الدولي المزعوم ، وتدخلا في الشئون الداخلية الصربية ، وهذا تقريبا هو نفس موقف الحكومة الصربية والتي يُعتبر الروس من أبرز الداعمين لها أمام الضغوط الأوروبية والأمريكية والدولية ، ومن هنا - ربما – وأيضا تمشيا مع الموقف المتعنت لحليفتهم الإستراتيجية في منطقة البلقان الحيوية ، صربيا والموالية لهم تاريخيا - يأتي رفض موسكو تطبيق صيغة الأمم المتحدة لفصل الإقليم والرمي بها عرض الحائط .

خطة اهيتساري

والمقصود بخطة الأمم المتحدة هي الصيغة التي طرحها اهيتساري - المبعوث الأسبق للأمم المتحدة – في ابريل 2007 - رغم أن هذه الصيغة والتي يرى المبعوث الأممي ، بأنها " الحل الوحيد للأزمة " ووصفها بأنها " صيغة عادلة ومشرفة للجانبين – أي الألبان والصرب- لا تحقق مصالح الألبان في نيل الاستقلال الكامل عن صربيا، وإنما تتحدث عن منحهم استقلال ظاهري أو شكلي ، بحيث يظل الإقليم عمليا تحت المراقبة والوصاية الدولية‏ وتحديدا من قبل الاتحاد الأوروبي أو قوات حلف الناتو – وهذا خلافاً لما ينبغي أن يكون عليه وضع الدول المستقلة ذات السيادة - وهذه نقطة يٌجمع عليها الدبلوماسيون الأوروبيون بشأن وضع إقليم كوسوفو عندما سيحصل علي استقلاله في المستقبل .

التفاوض من أجل التفاوض

والبديل الذي يطرحه الروس لحل هذه المعضلة هو التفاوض بين ألبان كوسوفا والحكومة الصربية هذا مع العلم بأن المفاوضات مستمرة بين الطرفين منذ عام 1999 وحتى اليوم ، ولم تفض إلى أي اتفاق أو نتيجة ، مع استمرار بلجراد في اختلاق المشاكل ووضع العقبات التي تحول دون تحقيق أي نجاح يذكر في هذا المجال، ودون تطبيع العلاقات ، ففي أواخر شهر أكتوبر 2006 أقرت الحكومة الصربية دستورا جديدا يقضي برفض استقلال كوسوفا ويعتبره جزءا لا يتجزأ من صربيا ، وهذا تصعيد خطير في الموقف الصربي وقد فسر على أنه رسالة إلى المجموعة الدولية مفادها عدم التنازل عن إقليم كوسوفا أبدا . ومع ذلك – وبرغم نفاد صبر ألبان كوسوفو من انتظار انفصالهم نهائيا عن السيادة الصربية وتعارض الموقفبن الصربي والكوسوفي - لا زال الروس – وكذلك الصرب - يصرون على المفاوضات، ويطالبون الأمم المتحدة والمجتمع الدولي بتوفير ما سمي بـ " حوافز كافية لكلا الطرفين لإجراء مفاوضات جديّة" – ومعتبرين أن المفاوضات والمحادثات المباشرة بين بلجراد وبريشتينا – شريطة استبعاد خطة المبعوث الدولي - هي الحل الوحيد لمستقبل إقليم كوسوفو . وليس في نيويورك أو بوتسدام أو أي منتدي آخر. وكأن مفاوضات السنوات السابقة لم تكن كذلك –

وإلى أن يتفق الطرفان على صيغة الحل النهائية لمستقبل الإقليم – وهذا مستبعد طبعا لعدم وجود قواسم مشتركة بين موقفي الطرفين - يقترح الروس أن يبقي الإقليم علي وضعه الحالي ، وأن يظل الألبان المسلمين تحت رحمة " جلاديهم " الصرب !.الذين لا يرعون لهم إلا ولا ذمة، وقد وصُفت هذه الخطوة الروسية المعرقلة بأنها ضربة قاضية لجهود الأمم المتحدة ، وإجهاض لخطتها بشأن استقلال إقليم كوسوفا المسلم . وهو الأمر الذي قد يتسبب في زيادة نسبة احتمال سقوط الإقليم في دائرة العنف وعودة الاقتتال الصربي الألباني. وإتاحة الفرصة للصرب - المدججين بترسانة من الأسلحة الحديثة - لارتكاب مجازرهم وانتهاكاتهم ضد المسلمين مرة أخرى

التمادي في موقف موسكو

والواقع أن عملية نشر الدرع الصاروخي في شرق أوروبا من قبل الإدارة الأمريكية ، ورفض الجانب الروسي ، قد جاءت لتزيد التعقيد والغموض في المصير المرتقب لقضية إقليم كوسوفا – ولتوسع الفجوة بين الموقفين الأمريكي والروسي ، ففي حين أدت هذه العملية إلى إضعاف موقف واشنطن الذي يتجه لمنح الاستقلال لإقليم كوسوفا - دفعت الروس إلى التشدد في مواقفهم الخلافية مع واشنطن – ومن ذلك موقفهم القاضي بعدم استقلال الإقليم - بل أنه – ونتيجة للإخفاق الأمريكي في العراق – قد شجعت الرئيس الروسي على التمادي والتصريح بالنقد العلني اللاذع للإدارة الأمريكية. كما شجعت الإدارة الروسية على " تعليق التزامها بمعاهدة القوات التقليدية في أوروبا في خطوة أرجعتها لأسباب من بينها الدرع الأمريكي " .

وقد فتحت هذه العملية الباب واسعا أمام موسكو للحصول على تنازلات أكثر من الجانب الأمريكي لحلفائهم الصرب في قضية كوسوفا ، يمكن أن تنال من حق الألبان المسلمين في تقرير مصيرهم ، وفي حكم أنفسهم بأنفسهم ، وذلك في مقابل حصول واشنطن على تنازلات – أو على الأقل تخفيف حدة الموقف الروسي - بالنسبة للقضية الجديدة وهي قضية الدرع الصاروخي . وفي المجمل فإن هذه القضية من شأنها إفساح المجال – إن عاجلا أو آجلا - أمام لعبة التوافق الدولية ، والتي قد يذهب شعب كوسوفا المسلم ضحية لها ويدفع ثمنها غاليا .

إذ أن ما يهم كل طرف من الأطراف الدولية ذات العلاقة – في نهاية المطاف - هو تحقيق مصالحه الذاتية – بغض النظر عن تحقيق مصالح الطرف صاحب القضية - وفقا لقاعدة " المصالح قبل المبادئ " التي تهيمن على العلاقات الخارجية بين الدول في الوقت الراهن ، وهذا أمر وارد وغير جديد في تاريخ هذه الدول وقد حدث ذلك بالنسبة للعديد من القضايا الأخرى السابقة والمماثلة لقضية كوسوفو ، سواء في البوسنة والهرسك ، أو الشيشان ، أو فلسطين، ولاسيما إذا علمنا أن الاهتمام الأمريكي والأوروبي بقضية استقلال كوسوفا لم يكن حبا في ألبان كوسوفو المسلمين أو من أجل سواد عيونهم ، أو انتصارا لحقهم في تقرير مصيرهم – وهو حق مشروع وعادل – وإنما من أجل مصالحهم الخاصة ومن ذلك التحكم بالحل النهائي الذي يحول دون قيام دولة إسلامية في أوروبا ، ولكن قيام دولة علمانية ، منقوصة السيادة أولا ، وذات طابع غربي ودائرة في الفلك الأمريكي ثانيا ، وبحيث يمكن للولايات المتحدة بسط نفوذها وسيطرتها علي دول أوروبا الشرقية من خلالها وبحيث يمكن توظيفها لخدمة المخططات والمصالح الأمريكية في إطار تصفية باقي حساباتها مع روسيا ومساعيها الرامية لتقزيمها ، وإحباط مخططاتها وإضعاف شوكتها والحيلولة بينها وبين النهوض من جديد – وهذا طبعا غير خافٍ على موسكو ولذا فهي تتشدد في موقفها حمايةً لأمنها القومي ولمصالحها في البلقان