الآل والأهل في المنظور القرآني (2-3)
بقلم/ عبدالله القيسي
نشر منذ: 10 سنوات و 8 أشهر و 30 يوماً
الخميس 27 يونيو-حزيران 2013 05:00 م

تكلمت في الحلقة السابقة عن مصطلح الأهل وأهل البيت في القرآن وفي اللغة مع مناقشة أهم الآيات التي تدور حول الإشكال الدائر في فهم المصطلح, وفي هذه الحلقة أناقش مصطلح ذي القربى في القرآن واللغة, كما أناقش أهم الآيات التي تدور حول الإشكال الدائر في فهم هذا المصطلح.
ثانيا: ذو القربى في القرآن:
القريب والقريبة ذو القرابة، والجمع من النساء قرائب, ومن الرجال أقارب, ولو قيل قربى لَجَاز، والقرابة والقربى الدنو في النسب، والقربى في الرحم، وهي في الأصل مصدر. (1)، وقد ورد لفظ القُربى ومشتقاته في القرآن الكريم 16 مرة, وكلها بمعنى القرابة في الرحم، والتي تشمل الخط الثاني للرجل بعد أهله، وهم أعمامه وأولادهم وأخواله وأولادهم وعماته وخالاته وأولادهن، وكل من بينه وبينهم رحم, أما لفظ الأقربين فصيغة تفضيل خص بمزيد من القرب, فالقربى تشمل القرابة القريبة والبعيدة ,أما الأقربون فلا يشمل إلا القرابة القريبة فقط. وما يتعلق بموضوعنا في هذا البحث هو ثلاث آيات نجد أن في تفسيرها ابتعادًا عن سياقها ومقصدها عند بعض المفسرين.
• الآية الأولى: المودّة في القربى
قوله تعالى: (قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى).. (الشورى/23).
وليس المقصود في هذه الآية ما قاله البعض بأن النبي (ص) يطلب من المؤمنين أن يودوا أقرباءه, لأن هذا المعني مليء بالعلل والإشكالات التي تستبعده تمامًا من فهم هذه الآية, ويبقى المعنى الصحيح للآية، والذي عليه الأكثرون، والذي يوافق سياق الآيات ويوافق اللغة, وهذا المعنى يدور حول مصدر القرابة بينه وبين قومه, سواء طلبه منهم أن لا يؤذوه في دعوته، وأن يحترموا القربى التي بينه وبينهم, أو كان بيانًا لهم بأنه يدعوهم ويستمر في تبليغهم حتى ولو آذوه؛ لأنه يحترم القربى التي بينه وبينهم، وعليه سيكون معنى الآية باختصار:
"قُلْ - أيها الرسول - للذين يشكون في الساعة من مشركي قومك: لا أسألكم على ما أدعوكم إليه من الحق الذي جئتكم به عوضًا من أموالكم, إلا أن تَوَدُّوني في قرابتي منكم, وتَصِلوا الرحم التي بيني وبينكم, أو المعنى الآخر: إلا أن أودّكم في قرابتي منكم وأصل الرحم التي بيني وبينكم". والمرجحات لهذا المعنى كثيرة، منها:
موافقته للغة:
فالآية من الأساس لا علاقة لها بالأشخاص: لأن كلمة (القربى) في لغة العرب معنى ذهني، هو القرب في النسب، وليس ذاتًا أو شخصًا. مثلها كمثل كلمة الشجاعة والعلم. فكلمة الشجاعة لا تدل إلا على معنى ذهنيِ، وكذلك كلمة العلم. ولا تدل - بأي حال من الأحوال - على شخص أو ذات خارج الذهن. فإذا أُريد التعبير بهذه الألفاظ عن الشخص، فإما أن تضاف إلى كلمة (ذي)، فيقال: ذو قربى وذو شجاعة وذو علم. وإما أن يتغير بناؤها الصرفي فيقال: قريب أو أقارب، وشجاع وعالم. وإلا بقيت معانيَ ذهنية لا علاقة لها بالتعبير عن الأشخاص أو الذوات.
إذًا لو أراد الله تعالى الحديث عن أحد بعينه لكان قد قال: (إِلا الْمَوَدَّةَ فِي ذوي الْقُرْبَى)، وليس (فِي الْقُرْبَى) مجردة. كما جاء ذلك في مواضع عديدة من القرآن. فجميع ما في القرآن من التوصية بحقوق ذوي قربى الإنسان، إنما قيل فيها (ذوي القربى)، ولم يقل (في القربى). فلما ذكر هنا المصدر دون الاسم، دل على أنه لم يرد (ذوي القربى).
موافقته للسياق القرآني:
فالنبي (ص) وسائر الأنبياء لم يكونوا يسألون على دعوتهم أجرًا؛ وذلك أمر مقطوع به بنَصّ الكتاب. يقول تعالى: (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا منْ الْمُتَكَلِّفِينَ).وإذا لم يكن النبي (ص) يسأل أحدًا على دعوته أجرًا إلا الله، بطل تفسيرهم لأنه مبني على أن النبي (ص) كان يسألهم أجرًا هو محبة قرابته. وهذا مخالف لما ثبت قطعًا في القرآن من أنه لم يكن يسأل على دعوته أجرًا. هذا من ناحية. وأما ما طلبه النبي من قومه في رعاية حق القرابة بينه وبينهم، وأن لا يؤذوه في تبليغ دعوته, ليس أجرًا على الدعوة، وإنما هو حق مشروع مترتب على القربى، لا قدح ولا عيب في سؤاله، أو المطالبة به؛ لأن سؤال الحق حق. ولأن مودة القربى وصلة الرحم واجبة على الأقارب وذوي الأرحام. وذلك ما لم تكن قريش ترعاه مع رسول الله (ص). وعلى هذا فإن الاستثناء هنا منقطع غير متصل: وهو الذي لا يكون المستثنى داخلًا ضمن المستثنى منه، كقوله تعالى: (لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلاَّ سَلاَماً) (مريم/62). والسلام (وهو المستثنى) لا يدخل ضمن (المستثنى منه)، وهو اللغو. فيكون معنى الآية: لا يسمعون فيها لغوًا، لكن يسمعون سلامًا. وكذلك (المودة) لا تدخل ضمن الأجر. ومعنى الآية: لا أسألكم عليه أجرًا، لكن أسألكم المودة في القربى. لأن النبي (ص) لا يسأل على دعوة أجرًا. فالاستثناء منقطع إما بناءً على أن المودة له عليه الصلاة والسلام ليست أجرًا أصلًا بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم, أو لأنها لازمة لهم ليمدحوا بصلة الرحم فنفعها عائد عليهم, والانقطاع اقطع – ممن قال بالاستثناء - لتوهم المنافاة بين هذه الآية والآيات المتضمنة لنفي سؤال الأجر مطلقًا.
موافقتها لسياق الآيات:
سياق الآيات يُبيّن أن الخطاب عام موجّه إلى المشركين بصفة خاصة، الذين يحاجهم القرآن، ويتهددهم بالنار، ويعرض لهم في مقابلها الجنة، وما يلقى المؤمنون فيها.. «أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْألُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى».
الآية مكية:
فالآية مكية باتفاق, وكونها مكية فإن هذا يرجح ما ذهبنا إليه, لأن أقارب النبي في بداية دعوته كان معظمهم على الكفر, فيعقل أن النبي يرى ياسر وأهله يعذبون ويُقتَلون، ويقول للمشركين أو لأتباعه المؤمنين أجري مودة قرابتي من أبي لهب الكافر، أو حمزة القوي المنيع، أو علي وفاطمة اللذين ما زالا صغيرين أو أبنائهما الذين لم يوجدوا بعد، إنه لأمر مستغرب!، فهذا الطلب (مودة أقاربه) لا يصح طلبه من المشركين لأنهم ما ودوه هو فكيف يودون أقاربه. ولا يصح الطلب من المؤمنين, لأن المودة فيما بينهم واجبة دون تخصيص فئة ما, فالمؤمنون كما يقول الله تعالى: «بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ».. وهم بهذا الولاء متوادّون، أو ينبغي أن يكونوا متوادّين..
وحبّ أقارب النبي المؤمنين يدخل ضمن الحب لكل مؤمن، ولا يحتاج إلى ذكر خاص.. ولأن النبي لا يطلب أجرًا على دعوته كما بيّنا, ولو أنه طلب شيئًا لكان ينبغي أن يكون لحساب الدعوة الإسلامية، لا لشخصه، ولا لذي قربى منه..
وأما من قال: إن الخطاب موجه للأنصار، فكون الآية مكية هو أقوى رد عليه, وأما ما ورد في ذلك من روايات تخصصها - في فئة بعينها - فقد ضعفها ابن حجر والسيوطي، وهي تناقض روايات أقوى منها ورودًا جاءت عن ابن عباس.(2)
• الآية الثانية والثالثة (سهم ذي القربى):
مَنْ المقصود بذي القربى في آيتي الغنائم والفيء؟، يقول تعالى: {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَإنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}..الأنفال(41).
ويقول تعالى: {مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}..الحشر (7).
قالوا في تفسير هذه الآية: إن المقصود بذي القربي أي أقرباء النبي ثم اختلفوا في مصير السهم بعد وفاة النبي: فأبو حنيفة قال ينصرف إلى مصالح المسلمين, والشافعي قال ينصرف إلى ذريته.(3)
ولكن المتأمل للآية يجد أن المعنيين المذكورين ابتعدا عن المعنى القريب لذي القربى في الآية, ولا أظن أن هذين المعنيين هما الموجودان تاريخًا فقط, وإنما هما - فقط - ما ورد إلينا, إذ إني على يقين بأن هناك معنى لِذي القربى في الآية كان معروفًا في الجيل الأول, والقرائن لذلك كثيرة, وسأحاول أن أبيّن ذلك المعنى بما سينده من سياق عام للفظ في القرآن, وسياق قريب للآية, وبما يؤيده من شواهد عقلية وتاريخية.
إن المتأمل للآيتين يجد أن عبارة ذي القربى ليست قطعية فيما يقولون, فهي لم تُصرّح بأنهم ذوي قربى النبي، وإنما جاءت عامة، وهذا يجعل تأويل الآية أو تفسيرها في منطقة المرونة لا الصلابة, بمعنى أن ذلك اللفظ العام لذي القربى يمكن أن يفسر بطريقة تختلف عما ذُكِر سابقًا, فلِمن يعود ذلك اللفظ, هل يعود للرسول أم لغيره؟، وفي رأيي أن ذي القربى في هاتين الآيتين ليسوا أقرباء النبي، بل هم أقرباء المقاتلين المخاطَبين بدلالة السياق في أول الآية، فقد خاطبتهم الآية بـ: "اعلموا أنما غنمتم من شيء...", وأَوْلى أن يعود لفظ ذي القربى إلى المقاتلين - جميعًا - بمن فيهم النبي (ص), هذا أولا. وثانيًا نلاحظ أن لفظ ذي القربى في القرآن ذُكر ثمان مرات سوى هذين الموضعين, وكلها كانت خطابًا لجميع المؤمنين تقرر فيه الآيات الإحسان لأقربائهم وإعطائهم حقهم من المال, - عدا موضعًا واحدًا كان في سياق بني إسرائيل - فكيف نستثني هذين الموضعين من هذا العموم، ونجعله خاصًا بأقرباء النبي فقط دون قرينة واضحة.
فأقارب المسلمين لهم حق في أموال من يقربهم، ذكرها الله تعالى في قوله: "وآتِ ذا القربى حقه", ولإعطاء أقارب المقاتلين نصيبًا من الغنائم فيه حكمة جليلة, إذ أن أقارب المقاتلين يرون الغنائم تُقسّم أمامهم ولا يصلهم شيء منها؛ لعدم مشاركتهم في المعركة لسبب من الأسباب المؤقتة أو الدائمة, وهذا قد يجعل في نفوسهم شيئًا, خاصة إذا كانت الغنائم كبيرة, لذا فإن أخذ نصيب ولو بسيط يُطيّب خاطرهم, ولأن لفظ ذي القربى يشمل فئة كبيرة من أقارب الرجل فإن عددًا كبيرًا سيصل لهم نصيب من تلك الغنائم, فتخيّلوا كم سيكون أقرباء كل مقاتل.. إن ذلك يعني أن أهل المدينة - جميعهم - ممن لم يشارك في القتال سيصلهم من هذا السهم، ولو بنسبة بسيطة.
ومما يؤيد هذا المعنى أن النبي (ص) وجميع الأنبياء قبله كان شعارهم في دعوتهم: {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} – الشعراء(109), بمعنى أنه لن يطلب شيئًا له ولأقاربه وقد علق الألوسي على الآية بقوله: "إنه لا يناسب شأن النبوة لما فيه من التهمة فإن أكثر طلبة الدنيا يفعلون شيئًا ويسألون عليه ما يكون فيه نفع لأولادهم وقراباتهم، وأيضًا فيه منافاة لقوله تعالى: {وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ}[ يوسف: 104]".(4)
ومما يؤيد المعنى الذي ذكرته أن آية الغنائم نزلت بعد "بدر"، في أول العهد المدني، كما يشير سياق الآيات, وكان أغلب أقرباء النبي (ص) في ذلك الوقت ما زالوا بمكة بعضهم مستضعف، والآخر شارك مع قريش في القتال كالعباس وعقيل, فإن قُلنا: إن السهم يشمل جميع أقرباء النبي كافرهم ومسلمهم فقد أعطينا مكافأة لمن قاتل النبي, وإنْ قُلنا: إنّ السهم فقط لأقرباء النبي المؤمنين الساكنين بالمدينة, فإن عددهم قليل جداً, وسيكون خُمس الخُمس (أي 4%) عند السُّنة, أو الخمس (أي 20 %)، كما يقول الشيعة زائدًا عليهم, وسنُخالف مقصدًا مهمًا في الإسلام في تقسيم المال، وهو أن لا يكتنز المال لدى فئة قليلة، يقول تعالى: (كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ), خاصة إذا كان هؤلاء الأقارب قد شاركوا في المعركة، وأخذوا نصيبهم من الأربعة الأخماس المتبقية التي للمقاتلين.
ومما يؤيد المعنى الذي ذكرته أن النبي (ص) مات ولم يُخلّف ثروة من المال, بل كانت حالته أقرب إلى الفقراء كما تروي كُتبِ السير, كما ثبت أنه كان يصرف سهمه لصالح المسلمين ولم يختلف على ذلك أحد, وإذا كان النبي يصرفه في مصالح المسلمين فلابد أن يعطي في أقاربه كونهم جزءًا منهم، وقد يعطيهم من باب صلة ذي القربى عملاً بالآيات التي تحض كل مسلم على إكرام أقاربه: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً}..الإسراء: 26.. فتصوروا معي إذا كان أقارب النبي سيحصلون على سهم خاص بهم إضافة إلى سهم المقاتلين منهم فوق ما يحصلون عليه من النبي, فإن معظم مال المسلمين سيذهب إلى أقارب النبي، وهذا ما لم يحدث, فقد روى لنا التاريخ دون مخالف أن معظم أقاربه مات فقيرًا, وعلى رأسهم علي بن أبي طالب الملقب لفقره بأبي تراب, رغم كثرة الغنائم التي غنمها النبي (ص) في غزوة حنين وغيرها, مما يعني أنه لم يكن هناك سهم خاص بأقارب النبي عليه الصلاة والسلام.
وإذا قارنا بين الرأيين المذكورين في كتب التراث فإن رأي الإمام أبي حنيفة - بأن هذا السهم لأقارب النبي (ص) في زمنه، وأنه بعد موته يسقط ويصرف بعد ذلك في مصالح المسلمين؛ لأن الذرية لا ينطبق عليهم أنهم ذوي قربى - سيكون أقل إشكالًا وعِللًا من رأي الإمام الشافعي الذي جعل هذا السهم في ذرية النبي بعد موته, لأنه - أي الإمام الشافعي - وقع في إشكالات وتناقضات كثيرة في رأيه، منها: أنه لم يفرّق بين الذرية والأقارب رغم اختلافها في اللغة. ومنها أنه جعل السهم بين فقير قرابة النبي وغنيّهم بشكل متساوٍ, وهذا يخالف مقاصد الإسلام في توزيع المال وتقريب الهوة بين الفقراء والأغنياء, ويخالف ما قالوه من أنها بديلٌ عن تحريم الصدقة عليهم, فإن قلنا: إنها تعويض للفقير فكيف تكون للغني.!!، ومنها أنه جعل للذكر مثل حظ الأنثيين, قياسًا على الميراث, رغم الفارق بين الميراث والغنيمة, إضافة إلى مخالفة عموم النص, ولذا خالفه الآخرون لعدم صحة القياس.
أما آية الفيء فإنها قد جاءت تخاطب المقاتلين الذين حصلوا على غنيمة من دون قتال, ومن ثم فلن يحصلوا على أربعة أخماسها كما في الغنائم التي جاءت بعد قتال. وعليه فإن توزيع الفيء سيكون على أسس مختلفة, إذ سيحصل المقاتل على نصيب يحدده النبي (القيادة)، ويوزع بقية الفيء على من ذكرتهم الآية من أقرباء المقاتلين وفقراء المسلمين واليتامى والمساكين وأبناء السبيل عملا بالآية: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}. فإذا قيل لِمَ لم يذكر سهم المقاتلين في الآية, قلنا: إن الأمر واضح لا يحتاج إلى ذكر مثلما لم يذكر - أيضًا - في آية الغنائم؛ لأن الخطاب - أساسًا - لهم بقرينة "كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ"، وقرينة: "وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا"، والآية تُبيّن فلسفة توزيع المال في الإسلام, وكانت كفيلة ببيان معنى آيتي الفيء والغنائم بدون تكلّف. ولو تأملنا سياق آية الفيء لوجدنا أن الآية تحاول تعويض المهاجرين - الذين تركوا ديارهم وأموالهم - من مالٍ لم يأتِ بدماء المقاتلين, وتحاول ترضية غير المهاجرين من مقاتلي وسكان المدينة المنورة (الأنصار), بإضفاء بعض الأوصاف المدحية عليهم فكأنما تقول الآية: إن هذا الفيء للمسلمين جميعًا, إلا أن فقراء المهاجرين تحديدًا أحق به, أما أنتم يا من تبوأتم "الدار والإيمان"، فقد علم الله فيكم أنكم تؤثرون غيركم وتحبونهم، ولا تجدون في صدوركم حاجة مما أوتي غيركم, وهذه صفات المفلحين.
كل تلك المؤيدات تُرجح المعنى الذي ذكرته لذي القربى بالإضافة إلى أنه يوافق روح الإسلام ومقاصده من العدل والمساواة بين أفراده وإعطاء كل ذي حق حقه, كما يدفع عن ديننا أية شبهة قد يستغلها أعداؤه بأنه يحابي أحدًا بدون حق.
ومما يتعلق بهذا الموضوع تحريم الصدقة على بني هاشم، فقيل فيه: وبرأيي إنْ صح أنه (ص) منعها عنهم في زمنه فسيكون تأويلها بأنهم لم يكونوا ممن يستحقون الصدقة, وحتى لا ننسى فإن ذلك الحكم جاء عن طريق خبر ظني منسوب إلى النبي، أما عموم الآيات فلا يدخل فيها هذا المعنى, إذْ رغّبت الآيات بالإنفاق والإطعام لكل الفقراء والمساكين, وتخصيص عموم الآيات بخبر ظني لا يعتمد عليه, خاصة إذا زادت العِلل على ذلك الخبر بمخالفته لمعاني الإسلام من العدل والمساواة, وتفسير حرمة الصدقة بحدّ ذاته يجعلنا نستبعد صدور ذلك الحكم من النبي (ص) ، فالرواية تبيّن السبب بتحريم النبي الصدقة عليهم بأنها "أوساخ الناس"، وهذا يطرح سؤالًا: إنْ كانت أوساخًا فكيف يقبل النبي (ص) تلك الأوساخ لبقية فقراء المسلمين, وهل جاء النبي لتطهير الناس جميعًا، أم تطهير فئة معيّنة من أقربائه, ولماذا تُسمّى - أساسًا – أوساخًا، وهي حق واجب على الغني, باعتبارها من مال الله لا ماله, أَلمْ يقُل الله: إن هذا حق للفقير والمسكين, وإن المال مال الله استودعه عندنا, وجعل جزءًا منه لهؤلاء, فكيف يقول نبيُّنا: إنها أوساخ, حاشا نبينا أن يقول ذلك.
ومن العجائب التي وجدتها تعصّبًا لهذه المسألة: أن المذهب الزيدي يُجوّز للهاشمي أكل الميتة عند الضرورة, ولا يُجوّز له الأكل من الزكاة, فيقدمون وجوبًا – للمضطر - أكل الميتة على الزكاة, رغم أن ثبوت تحريم الميتة بنصٍّ قطعي، وتحريم الصدقة بنص ظنّي، ولكنه التعصّب. ومن التناقض في هذه المسألة قول فريق كبير من الفقهاء بجواز الصدقة للهاشمي الفقير, وعدم جواز الزكاة عليه, والسؤال المطروح هنا: أَليست الزكاة يتم صرفها من الدولة، والصدقة من الناس..؟، أوَليس أخذهم من الزكاة أفضل من الصدقة, ثم كيف اعتبروا مال الزكاة أوساخًا، ولم يعتبروا مال الصدقة كذلك, رغم أن الرواية ذكرت لفظ "الصدقة" لا "الزكاة". كل هذه التناقضات تُبيّن أن هناك أياديَ خفيّة اصطنعت هذه التخصيصات لفئة ما. والله أعلم.
في الحلقة القادمة والأخيرة - إن شاء الله - سأُناقش مصطلح الآل والذُّرية في القرآن واللغة, كما شأناقش أهم الآيات التي تدور حول الإشكال الدائر في فهم هذا المصطلح, ثم أختم بذكر النتائج النهائية لهذا البحث.
..................................................
هوامش :
1. - لسان العرب ج1/ص665- تاج العروس ج4/ص7.
2. - انظر تفسير الآلوسي 18/263.
3. - انظر تفسير الرازي 7/404 .
4. - روح المعاني 18/265 .
5. - انظر تفسير الرازي 7/404 .