ضفاف لنشوان العثماني..قراءة في قصيدة النثر( 4-5)
د.عبدالمنعم الشيباني
د.عبدالمنعم الشيباني

في هذه الحلقة من قراءة النص النثري " ضفاف" لنشوان العثماني، سوف أحاول ان أقف على أمثلة للنص المعجٍز في ابداعيته في اشكال التناص والتناغم الكوني والفكري، سنقرأ هذا المثال مرة أخرى:

ثم أنني التَفِتُ يسارًا, فأجد غمامة ماطرة, وسحابة تكاد تلد, وترقصان,

وأسمع رعدًا يغني, وأرى برقًا يتسلق السماء,

وأقرأُ هذه اللوحة,

وماذا تعني؟

أتعلم؟

كانَ من الجميل أنني لا ألفت ناحية أخرى!

من التناص غير المتكلف ولا المقصود بتخطيط منظّم السحاب والغمام المحملة بالماء وهذا ورد كثيراً في الشَّعر العربي مثل الشطر الشعري (ان السماءَ تُرجَّى حين تحتجبُ) للمتنبي او لأبي تمَّام-لا اذكر- اقتبسها بعد ذلك الشاعر عبد الله البردوني:

الا ترى يا اباتمام بارقنا..." ان السماء تُرجَّى حين تحتجبُ"

السحاب السوداء المحملة بالمطر بارقة امل للغيث وللنصر والتغيير، وسطر شعري آخر يستحق لفتة في شكل ومعنى التناص(الاقتباس):

 كانَ من الجميل أنني لا ألفت ناحية أخرى!

تناص شاعري مع سيد قطب في قصيدة "لحن الخلود":

ولاتلتفت هاهنا او هنا ... ولا تتطلع لغير السماء

جيل التغيير لا يلتفت الى الوراء ولا يتطلع لغير السماء، شاعرية سيد قطب مع شاعرية النص-موضوع الدراسة-من سمات العبقرية الشعرية ولهذا صارت هذه النصوص خالدة ومسجلة في الذاكرة الفطرية والكونية عبر الدهور هذا هو لحن الخلود اذاً. ونقرأ في النص:

قال لي طاغور:

«حين رحل الجميع

بقينا، أنا وأنتَ، جالسين

نلعبُ بالمعنى وقصائد الألوان والفراشات

نلعبُ بحبّات الدموع

نلعبُ برموز الوهم حتّى دهمنا المساء

وألقى القبض علينا

بتهمة تسوّل المعجزات

عند ضفاف الأنهار المقدسة

بتهمة انتظار من لا يجيء أبداً,,»2

الشاعرهنا يتلقى مباشرةً ينابيع الحكمة من فيلسوف وشاعر الهند الاعظم طاغور (قال لي طاغور.....الخ)، عبقرية خلق النص معجزة لا يقدر عليها الا الفلاسفة الشعراء الذين (يلعبون برموز الوهم)، صناعة وهندسة وخلق النص على ضفاف الانهار المقدسة هو موضوع قصيدة "ضفاف" ومن هنا قلنا ان النص الذي بين ايدينا معجِز كالنص الخالد لـ سيد قطب وطاغور تماماً ولكن من يقرأ؟ يبحث الشاعر هنا عن القارئ الفيلسوف الذي يعرف قواعد اللعب برموز الوهم التي تصنع في النهاية اعجازاً في الخلق الشِّعري واعجازاً في التغيير على ارض الواقع-صناعة معركة الكرامة.

قال لي طاغور:

«حين رحل الجميع

بقينا، أنا وأنتَ، جالسين

نلعبُ بالمعنى وقصائد الألوان والفراشات

نلعبُ بحبّات الدموع

وطبقاً لقصيدة سيد قطب ("لحن الخلود"- اخي يا مقيمٌ ورا السدود... اخي انت حرٌ بتلك القيود) وقصيدة جبران (اعطني الناي وغنِّ فالغناء سر الوجود.. وانين الناي يبقى بعد ان يفنى الوجود) –يقصد بالغناء الشعر-فالنص لايفنى عندما يفنى الوجود والنص لايفنى بعد تحقيق النصر في معركة الكرامة او حتى عند الفشل في ذلك، يرحل الجميع ويبقى النص والشاعر ، هكذا قال طاغور وهكذا هي معجزة النص وهذا هو سر الخلود.. ومن المعجٍز اللعب بحبات الدموع في وجه اعداء النص واعداء الغناء واعداء الحرية لصناعة صبحٍ جديدٍ باسمٍ، ليس يحسن هذا اللعب غير الشاعر، تعالوا نعش هذا البيت من رائعة جبران خليل جبران

هل تحممتَ بعطرٍ وتنشفتَ بنور... وشربتَ الفجر خمراً في كؤوسٍ من اثير

سطر شعري خالد ومثال للشعر الرومانسي الجميل عبر العصور،الشاعر يحسن اللعب بحبات الدموع تارةً (طاغور) وحبات الأثير تارةً اخرى(جبران)، الشاعر المُعجِز هو من يخلق النص خلقاً بديعاً يبقى حتى بعد الفناء، "فطوبى لنا في ديار الخلود، من قصيدة سيد قطب المشار اليها. تعا لوا مرة اخرى الى شاطئ النص "ضفاف":

وعزمنا الأربعة على أن نصطحب رفاقنا على ضفاف تلك الأنهار, المرة القادمة,

وأن نصنع مركب الانتظار,

الرفاق يصنعون مركب الانتظار، يذكرنا الشاعر هنا بـ صلاح عبد الصبور احد ابرز رواد القصيدة الحديثة قال:

صنعتُ مركباً من المداد والورقْ

ربانُه اشهر من قاد سفيناً في خضمْ

وفوق قمة السفين يخفق العَلَمْ

حفظنا هذه القصيدة في مقرر النصوص الادبية لصف ثالث ثانوي-القسم الادبي،صلاح عبد الصبور ونشوان العثماني في تناص فكري وشعوري ولا يهمني من بدأ اولاً كتابة النص لأنني واثقٌ ان نشوان لم يطلع على قصيدة صلاح عبد الصبور حين كتب النص، انهار الشعر المقدسة تصب في مصب انساني وفلسفي وكوني واحد، مركباً من الورق يتحول الى مركبٍ من مراكب التغيير على ارض الواقع يصل بين الوهم والحقيقة هذا النص المُعجِز، الم اقل ان صاحب قصيدة "ضفاف" شاعر معجِز يعرف اسرار هندسة النص؟ كل هذه (الدَّوشة) في افكار ومعاني القصيدة ليس " الكرامة" بل كيف تكتب نصاً خالداً يلتقي مع نصوص كونية لرفاق من انهار مقدسة مختلفة (الهند-مصر-لبنان-اليمن)مثلاً.. التحدي هنا ليس كيف ينتصر رفاق التغيير في معركة الكرامة ولكن كيف نكتب نصاً خالداً باقياً..

النص

المعاني غادرت

والمقدّس الذي يكتبني, أكتبه,

يؤرشفني مصيري لأجله:

الكرامة.

فـ «ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان»1

***

ثم أنني التَفِتُ يسارًا, فأجد غمامة ماطرة, وسحابة تكاد تلد, وترقصان,

وأسمع رعدًا يغني, وأرى برقًا يتسلق السماء,

وأقرأُ هذه اللوحة,

وماذا تعني؟

أتعلم؟

كانَ من الجميل أنني لا ألفت ناحية أخرى!

***

قال لي طاغور:

«حين رحل الجميع

بقينا، أنا وأنتَ، جالسين

نلعبُ بالمعنى وقصائد الألوان والفراشات

نلعبُ بحبّات الدموع

نلعبُ برموز الوهم حتّى دهمنا المساء

وألقى القبض علينا

بتهمة تسوّل المعجزات

عند ضفاف الأنهار المقدسة

بتهمة انتظار من لا يجيء أبداً,,»2

ودخلنا السجن, ودخل معنا فتيان,

وعزمنا الأربعة على أن نصطحب رفاقنا على ضفاف تلك الأنهار, المرة القادمة,

وأن نصنع مركب الانتظار,

***

وقرأتها من زمن, وكتبتُ,

وسافرت روحي, وهي تستغيث,

وهجرتني أحلامي,

ثم تركوني هنا, شتاتًا,

وأشلائي تشكوني, وتهجوني,

وحين لجأت إلى شاطئ القصيدة, ومحراب الصبر,

رأيتني أفترش سجاد الفضاء, ولم أصرخ, بل صرختُ؛

«اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وأنْبَتَتْ»3

***

رأيتني, وأنا على جانبي, يلتهمني الوجع,

وحفلتُ بي, وقاومتُ,

واحتشدتُ لأقرأ كتابًا عن المجريات,

كنت أقرأه في وجوه الناس,

وألمس شغفًا أن أنظر في أعينهم معنى الشيء الذي يكتبني, يؤرشفني: الكرامة,

***

سادتي, انتظروني عند حافة المدينة المقدسة, عند شاطئ النهرين, وانتظروني هناك عند السد العظيم,

لن يأتي, أعرف ذلك,

انتظروني وفقط,

اِنتظروني سأقوله لكم,

...

...

...

اَنتظروني,

وأتيتهم,

اقتاتوا العزيمة من مثواي الأخير,

ولا أدري ما صنعوا,

أثق بهم,

الأمنيات لو كنت معهم. سأصلي.

_________________

1من «العهد الجديد».

2من قصيدة لـ «طاغور».

3من سورة «الحج».

**

يُتبع الحلقة القادمة

شاعر وناقد يمني


في الجمعة 16 مارس - آذار 2012 07:39:08 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://m1.marebpress.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://m1.marebpress.com/articles.php?id=14574