خراب يحدث دوماٌ (الجزء الاول)
د.عبدالمنعم الشيباني
د.عبدالمنعم الشيباني

هذه القصيدة الثانية للشاعرة الشابة العدنية منى نجيب محمد اقرأها بعد رائعتها "بين الشقوق ثمة حياة"..لم اكن مبالغاً كثيراً ان منى نجيب "رائدة قصيدة النثر في اليمن" لما شملته قصيدتها " بين الشقوق ثمة حياة" من ابداعية شعرية حقيقية تعيد الاعتبار لقصيدة النثر التي كثر الجدل حولها ولما شملته من افكار نسوية عالمية تؤرخ لنضال المرأة في مجتمع الذكور، للفائدة اعيد من جديد عرض المقالة النقدية المنشورة على صفحات موقعنا القشيب مارب برس بعنوان "منى نجيب رائدة القصيدة النثرية في اليمن".

بين الشقوق.. ثمة حياة لـ منى نجيب محمد : قصة نملة من الكوميديا السوداء

قرأتُ كثيراً شعر ما يسمى " القصيدة النثرية" وممن قرأت لهم علي المُقري ومحمد عبد الوهاب الشيباني ومن الشباب الشعراء ريان نجيب ورمزي الخالدي.. سألتُ الدكتور الناقد عبد الحميد الحسامي ( الناقد الذي يشبه القط) عن رأيه في القصيدة النثرية فأجاب قائلاً: (أما ما يسمى بقصيدة النثر فهو موضوع آخر يجسد ما يسميه بعض النقاد بالمرحلة الثانية من مراحل الحداثة الشعرية العربية بعد مرحلة الأربعينيات المتجسدة بحداثة الشعر الحر إذ جاءت دعوات على يد أنسي الحاج وأدونيس وغيرهما من المتعصبين لفكرة قصيدة النثر ولا شك في أن قصيدة النثر التي ظهرت في فرنسا خصوصاً وكتبت عنها سوزان برنار في كتابها قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا كانت مدعاة لأن يتسابق هؤلاء في اقتباس مقولاتها والتبشير بها على أنها آرائهم الجديدة وقد كتب الشاعر العراقي سامي مهدي كتابه ( أفق الحداثة وحداثة النمط – قراءة في مجلة شعر ) وجلى فيه كل اقتباسات أدونيس وأرجعها إلى مصادرها الأساسية لدى سوزان برنار وأكد بالنصوص الواضحة والقطعية اختزال واختلاس أدونيس لهذه الآراء بمعنى أنها أي قصيدة النثر تنظيرياً وإبداعياً لم تكن نابعة من صميم الحاجة الإبداعية التي تقتضيها الذات العربية في تحولها المعاصر بل كانت مجتلبة من الآخر الغربي ونحن لا نعارض أن تكون هناك قصيدة بشكل من الأشكال لكننا نعارض إقحام أي شيء من خارج الذات ومحاولة فرضه قسراً على الذائقة العربية مدعوماً بتوجهات مراكز معينة ، إننا ندعو إلى أن يترك الإبداع نهراً يشق طريقه بنفسه كما شق طريقه في الأندلس وكتب الموشحات الأندلسية لحاجة إبداعية اقتضتها التحولات الذائقة ولم تفرض من خارجها ـ إن كثيرا من النقاد يرون أن قصيدة النثر لم تتخلق في صلب التجربة الإبداعية العربية ـ وأنها تشبه أطفال الأنابيب ، وهذا هو السر الذي جعل قصيدة النثر تتعثر منذ خمسين عاماً ولم تستطع أن تقوم على ساقيها.....)

بين الشقوق .. ثمة حياة

النص

لعلي سأتفرغ لكتابة مذكرات نملة

تكيّفتْ ورائحة المبيدات الحشرية

خلقتْ علاقة بينها وبين الحائط الذي تصعده كل يوم

وسّعتْ الشِّق الذي تدخل وتخرج منه بخطواتها السريعة

عرفتْ أين تجد الخُبز المُهمَل

والبسكويت منتهي الصلاحية

وعلبة عصير التفاح المثقوبة

طوّرت قرون استشعارها لتعرف أين خبّأ الناس قوارير العسل

وأين يجمعون علب المرطبات الفارغة

سأكتبُ عن شجاعتها وحسها الاستكشافي الجريء

فلم تعد تخشَ أقدامهم

سأكتبُ عن ضرب النمل الباقيين لها في صغرها

ورفضهم اللعب معها

وتركها وحيدةً تجوبُ أرجاءَ المطابخ

عن بذرةِ الرمان التي حملتها وحدها و لعبتْ بها مع حائطٍ كتبوا عليه " ممنوع الاقتراب أو التصوير"

سأكتبُ عن مراهقتها كيف كانت خاوية

وأن رسالة الحب الوحيدة التي تسلمتها كانت من نملةٍ انتحرتْ مقلوبةً وملتفةً حول نفسها

سأكتبُ عن محاولتها الانتحار هي أيضاً

عن تسلقها جدران العمائر الشاهقة..لتقفز دون أن يصيبها شيء

سأكتبُ عن حلمها أن تتحول إلى فراشةٍ أو نحلةٍ

عن توبيخ والدها لها حينما تأخرتْ بالعودة مساءً

وعن نصائح أمها لها بألاّ تعبث بيدها تحت ملابسها الداخلية

سأكتبُ عن أول حبٍ لها وقد كان نملةً أيضاً.. ولكن من نوعٍ آخر

سأكتبُ عن بكائها كل مساءٍ حينما حمل آخر كسرةِ خبزٍ و رحل إلى مستعمرةٍ أخرى

عن دموعها الكثيرة بعده ..التي أغرقتْ بيوض النمل الباقيين

سأكتبُ عن إعلانها العصيان و حقيبتها التي حملتها على ظهرها وغادرت وحيدة إلاّ منها

سأكتبُ .. عن آخرِ نعلٍ دهسها ولم تعش بعدها

***

بين ايدينا نصٌ شعريٌ من ضرب القصيدة النثرية لشاعرة يمنية شابة منى نجيب محمد،شاعرة رابطة جدل الأدبية اليمنية ، وعنوان النص ( بين الشقوق .. ثمة حياة) .. قرأت النص عشرين مرةً على الأقل أحسستُ أن الشاعرة سبقت الدكتور الحسامي في مبررات وجود القصيدة النثرية.. وبعبارة أوضح ليس النص من نوع ( نصوص الأنابيب ) ولا ( نصوص كيكوز – نيدو تقليد)، للنص النثري المشار إليه حاجة تاريخية وضرورة اجتماعية ولهذا أجبرني أن أقول أنه نصٌ مكتمل الولادة، طبيعيُ الإرادة والإبداع، نصٌ مكافحٌ قادرٌ أن يقف بثقةِ على قدميه وهذا يدعم رأي الناقد الحسامي الذي يرى أن التطور الأدبي لا يأتي من غير ضرورة ماسةِ أو حاجةِ حقيقية تبرره وضرب لنا مثلاً بالموشحات الأندلسية التي جاءت تطوراً طبيعياً للبيئة الأندلسية.

"النسوية" صوت شعري جديد من اليمن

دعوني- ومن غير مجاملات- اقول هذا النص للشاعرة منى نجيب محمد يضاف إلى ابرز النصوص النسوية القوية تحت لافتة مفهوم " النسوية"

والنسوية حركة اجتماعية وأدبية عالمية ظهرت في الغرب وصار لها صدىً في الشرق، والفكرة العامة لهذا المفهوم حشد كل الآراء والنصوص والأعمال الداعية إلى حق المرأة في التعبير عن نفسها..، ولا أتفق كثيراً مع آراء غربية وافدة علينا وعلى ثقافتنا لكني مع كل نص جميل وعمل إبداعي يعبر عن الأنثى .. ومن هنا أرى أن النص ( بين الشقوق .. ثمة حياة) من أجمل النصوص المنثورة للقصيدة الجديدة التي قرأتها، وقد قرأتُ كثيراً مما كتبته الدكتورة والشاعرة الأميرة سعاد الصباح- من أهم الأصوات النسوية في الوطن العربي –ووجدتُّ ان منى نجيب محمد في هذا النص تضاهي سعاد الصباح تعبيراً نثرياً أو شعرياً عن الأنثى.

قصة نملة

خلد القرآن الكريم نملة: (قالت نملةٌ يا أيها النملُ ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمانُ وجنودُه وهم لا يشعرون)- سورة النمل

يروي النص ( بين الشقوق ..ثمة حياة) مذكرات نملة ، والنملة تضر ب مثلاً للناس بكفاحها وحكمتها وعملها الدؤوب من غير استسلامِ أويأس.. من مذكرات النملة في النص- كما تروي الشاعرة ( راوية القصة) نتعلم أنها مكافحة من خلال جملة من الأفعال:-

تكيفتْ ورائحة المبيدات الحشرية

خلقتْ علاقة بينها وبين الحائط الذي تصعده كل يوم

وسًعتْ الشق الذي تدخل وتخرج منه بخطواتها السريعة

عرفتْ أين تجد الخبز المهمل

والبسكويت منتهي الصلاحية

وعلبة عصير التفاح المثقوبة

طوًرتْ قرون استشعارها لتعرف أين خبأ الناس قوارير العسل وأين يجمعون علب المرطبات الفارغة

الراوية في النص تروي قصصاً عجباً عن شجاعة النملة وكفاحها حتى الوصول إلى غاياتها فيأخذك الإعجاب بكفاحها وشجاعتها ثم تجعلك تسكب شعور التعاطف معها لما تواجهه من مشقة وعنت في المحيط من حولها وغربتها في( مملكة النمل الإجتماعية) ومقاطعة بعض النمل لها.

التحول من صيغة الماضي الى المستقبل

وللغة دورها الأساسي في النص وهو دور المترجم للتجربة ( تجربة النملة)..، لا حظوا عبارة ( سأكتب عن ...) تكررت في النص ثمان مرات والغرض إعطاء أهمية في الرتبة لمن ستكتب عنها راوية النص( الشاعرة) وبطلة النص هي ( النملة المكافحة) .. وفي صدر القصيدة كانت صيغة الفعل الماضي هي المسيطرة( تكيفتْ.....خلقتْ....وسًعتْ....عرفتْ....طورتْ...) والآن حدث تحول إلى صيغة ما يستقبل به من الزمان. ( سأكتب ....) ..، قصة النملة التي بدأت في الماضي لماً تنته بعد ولن تنتهي بانتهاء " دهس آخر نعلٍ لها" وستظل قصة كفاحها وأحلامها دورةً تاريخيةً مستمرةً من الماضي الى المستقبل ثم تعود دورة التاريخ وهكذا من غير نهاية زمنية، ستظل قصتها ومذكراتها حديث الماضي والحاضر والمستقبل من غير نهاية

التكرار في النص موفق ومفيد

كأن الراوية تقول لنا بفصيح العبارة:

سأكتب عن قصة كفاح النملة

سأكتب عن جرأة وشجاعة النملة

سأكتب عن أحلام النملة

سأكتب عن دموع النملة

سأكتب عن النهاية الحزينة للنملة

مشهد درامي مصور من نوع الكوميديا السوداء

أنت أمام مشهد درامي مصور لسيرة النملة المتمردة (شجاعة،كفاح،جرأة،دموع،أحلام،تمرد،ثم نهاية حزينة)... يتدرج النص معنا بالعواطف تجاه النملة تدرجاً درامياً، إعجاباً بكفاحها وجرأتها ثم تضامناً معها في محنتها، ثم مباركةً منا لأحلامها وآمالها، ثم مشاطرةً لدموعها المسفوحة ثم تقديراً لتمردها وأخيراً أسفاً على نهايتها المأساوية تدرجاً عاطفياً مصحوباً بتدرجِ لغويِ منسجمِ وغير منبت ولا منقطع ولا منفصم ، نصٌ يروي قصة النملة ( قصة شعرية) من أولها إلى آخرها.

ابداعية النص- من و جهة نظري قارئاً ناقداً أو متذوقاً- في شكله البنائي ومحتواه الساخر والتراجيدي الكوميدي في آنِ واحد ، حيث نجح النص في كسب تأييد الجمهور لقضية " النملة" ، النملة التي ناضلت حتى آخر " دهسةٍ"..، مشاهد القصة الشعرية متسلسلة بشكل منطقي ودرامي ،وهي من نوع " الكوميديا السوداء " اتجاه جديد في النقد يقول ليس دائماً معنى الكوميديا أن تضحك بل يجعلك أحياناً تبكي ، ومعنى آخر للكوميديا يقول " هي التفاؤل والأمل والإقبال على الحياة وبهجتها وكيف تكون إيجابياً في الحياة.

**

والنص النثري الجديد لـ منى نجيب هو "خراب يحدث دوماٌ" من روائع الشعر السياسي لقصيدة النثر، القصيدة بين شارعين، شارع الفساد المستبد المهجور وشارع الفجر حيث يسهر الشاعر(ة) لمحاورة النجوم حتى مطلع فجر الحرية، ابداعية النص النثري لـ منى يوحي ان الوطن بين شارعين، شارع الخراب السياسي والاجتماعي وشارع " الشعراء وعشاق النجوم والفجر" قصيدة من الرمزية السياسية كقراءة اولية او كوجهة نظر من بين اشكال متعددة لقراءة النص اذ لايصح في عالم الشعر والرواية ان يقال ان المقصود بالنص هو كذا او كذا، فالنص مفتوحٌ ومحملٌ بالمعاني الكثيرة ولكل نص اكثر من قراءة، ومع ذلك ليس المطلوب ان نفهم معاني النص فـ "الشعر يُكتب ليُتذوق لا ليُفهم" كما عبر اساطين النقد الادبي، نقول فقط مجازاً وتبسيطاً للقراء ان النص من ضروب الشعر السياسي ومن ارقى تعبيراته الرمزية.

عودتنا الشاعرة (منى نجيب) خلق النص النثري البديع في الشكل والرفيع في المعنى والمتعدد في الطرح الشعري والجمالي وهكذا تسجل الشاعرة العدنية الشابة(منى) نجاحاتٍ جديدةٍ لقصيدة النثر على مستوى الموضوع السياسي هذه المرة كما سنرى في النص..، ولكن من المهم التأكيد مرة اخرى وثالثة ورابعة هنا على ان النص-اي نص-له اكثر من قراءة واكثر من شكل ومعنى للفهم والتذوق ولايصح ان يقال ان النص او القصيدة-اي نص واي قصيدة-موضوعها كذا او معناها كذا او تصوِّر كذا... والاصل في الشعر-كمايقول عملاق القصيدة العربية المعاصرة عبد الله البردوني " لُيتذوَّق لا ليُفهم".. وهكذا يرى اساطين النقد فالشرح احياناً او غالباً يصيب جمال النص في مقتل وهكذا نحتاج ان نتذوق فحسب جمالية النص للقصيدة المنثورة.. نقرأ في النص مايلي:-

ثمةَ شارعٌ

لا يمرُ به أحد

كرسيُ الخيزران

يستقرُ على رصيفه

كهواءٍ مهجور

فيما البابُ يتثاءبُ أزيزاً

والصِبيةُ في الشارعِ المجاور يصرخون بفرح

يسحبون خلفهم الكراسي الدوّارة

كان لعلّية البناية الراكدة في آخره سقفاً من قصدير

وكان الهواء بارعاً في نشر رائحة الصدأ

المواسير المتآكلة تسكنها الجرذان

ولم يهاجم القط الأسود يوماً الفأرة البيضاء

ماذا ترى؟ شارعاً لا يمرُّ به احد، شارعاً طارداً للسكان والحياة، شارعاً تسكنه الاشباح..ماذا ترى؟ وطناً مهجوراً ليس فيه الا كرسيُّ الطاغية، كرسيٌّ من الخيزران يتوسط الرصيف المهجور، كلُّ شيئٍ مهجورٌ في الوطن حتى الهواء هجره الناس ولم يعد يتنفسه احدٌ في شارع الديكتاتور صاحب الكرسي على الرصيف المهجور، ترى وطناً من غير شعبٍ ومن غير حياةٍ ومن غيرهواءٍ ومن غير وطنٍ، وفي شارع الديكتاتور "يتثاءب البابُ ازيزاً" كـ صوتٍ مخيفٍ للأبواب المحطمة والنوافذ المكسورة ايضاً اذ كل شيئٍ غدا محطماً ومكسوراً او مهجوراً، هذا هو شارع الديكتاتور الذي اخلاه من السكان حيث "يتثاءب الباب ازيزاً" كرمزيةٍ مرعبةٍ للوطن المهجور تسكنه الاشباح او الوطن الذي هُجِّر شعبه عنوةً، ترى اشباحاً وخراباً وتسمع اصوات خوفٍ واشباحٍ لمدن مهجورة يسكنها الخراب والفساد والعسكر، ولكن هناك صبيةٌ يلعبون في الشارع المجاور لشارع الخراب (شارع الديكتاتور بكرسيه المصنوع من الخيزران يستقر على الرصيف المهجور من السكان والحياة) " الصبية يصرخون بفرح" حتى فرحة الصبية غريبة وغير طبيعية، كيف " يفرحون" و"يصرخون" في الوقت نفسه؟! اصواتٌ غريبةٌ غير منسجمةٍ ولا مألوفةٍ ولاطبيعية، في الشارع المجاور:"شارع الشبيحة" فرحٌ مصحوبٌ بصراخٍ مؤذٍ وهمجيٍّ بليدٍ، يسبحون باسم صاحب الكرسي الذي هجَّر شعباً بأسره، "يسحبون خلفهم الكراسي الدوَّارة" موظفون تحتهم كراسي دوَّارة مكافأة لتصفيقهم وابتذالهم كـ "شبيحة" محترفين للتصفيق والصراخ والفرح الكاذب، في الشارع المجاور قصورٌ خربة يسكنها "الشبيحة" ازلام الديكتاتور، سقوفها من قصديرٍ اي قصور من ورق وهمية وواهية اشبه بـ بيت العنكبوت، المواسير متآكلة وليس الا رائحة الصدأ، اشباح وهمية و"شبيحة" تحترف الخراب تسكن قصوراً خربةً مكافأة لتصفيقها وصراخها وهتافها لصاحب الكرسي على رصيف الشارع المهجور، وهنا براعة فائقة وتجديد حقيقي للشاعرة حيث عادةً تكون قصور ارباب الفساد والنهب السياسي فارهةً ومنقوشةً من (المرمر الآدمي) كما عبر الدكتور المقالح، لكن الصورة في النص مخالفة للصورة التقليدية لقصور ارباب الفساد والدجل في الاوطان المهجورة تفوقت وتميزت بها شاعرتنا في هذا النص وهذا يُحسَب لها، ليست سوى قصور من القصدير بمواسير خربة متآكلة تنبعث منها روائح الصدأ... المواسير الخربة والمتآكلة ورائحة الصدأ تقود ابداً في الصورة التقليدية الشعرية الى ذكر الفئران حيث هذه هي بيئتها وموطنها، غير ان التجديد هنا مدهشٌ ومفاجئ للقارئ حين تعلم ان الفئران والقطط السمان تعيش في ودٍّ واتفاقٍ وانسجامٍ مخالفٍ لما عرف عنها من عداوةٍ تقليديةٍ، جمع بين القطط والفئران نهب الوطن والتصفيق والصراخ للديكتاتور في الشارع المهجور (ولم يهاجم القط الأسود يوماً الفأرة البيضاء) تجديد للصورة التقليدية عن العلاقة بين الهر والفأر.. من نص للدكتور عبد العزيز المقالح:-

امشي على قلقٍ بأصابع روحي

وادنو على حذرٍ من جراح بلادي

لست الطبيب ولا صاحب الأمر

لكنني اتعذب حين ارى طفلةً ترتمي

عند باب المدينة

باحثةً عن بقايا طعام

او امرأةً تتسول خبزاً لاطفالها

وارى الموسرين وقد جمعوا من دماء البلاد

ومن بؤسها

واقاموا قلاعاً من المرمر الآدمي

حتى وان تصورنا انها قصورٌ مشيدةٌ هي في الأخير مسكونةٌ بالخراب لأنها قامت على انقاض حياة آدمية عددها بالملايين من البشر.. ثم قلنا كسرت الشاعرة في هذا النص الصورة التقليدية عن العلاقة بين الهر والفأر(شدة العداوة) فاجتمع الخصمان في تحالفٍ غير طبيعيٍّ لأول مرة ضد الوطن وتصفيقاً "بلاطجياً قبيحاً في الشكل والصوت والفعل" من اجل الديكتاتور الكريه. من الصور التقليدية للعلاقة بين الهر والفأر-- على الأقل--ماورد في رائعة الشاعر العظيم عبد الله البردوني (بشرى النبوَّة) وهو يخاطب (صاحب المبدأ الأعلى، محمد بن عبد الله):-

ياصاحبَ المبدأ الأعلى وهل حملتْ ** رسالةَ الحقِّ الاروحَ مختارِ

فكيف تذكرُ اقواماً مبادؤهمْ ** مبادئ الذئبِ في اقدامه الضاري

يبدون للشعب احباباً وبينهمُ والشعبِ مابين طبع الهرِّ والفأرِ

اكاد اسخر منهمْ ثم يضحكني ** دعواهمُ انهمْ اصحابُ افكارِ 

ونجحت الشاعرة في تقديم صورة جديدة للعلاقة بين الهر والفأر مغايرة لما قدمه الشاعر احمد مطر(صورة تقليدية للعلاقة القائمة على مهاجمة القطط للفئران بعداوة ازلية):-

في الفخ تلهث فأرتانْ

  تتطلعان الى الخلاصٍ على يد القطط السمانْ

  فبأي آلاءِ الولاة تكذبانْ!

الصورة لـ احمد مطر تصور الوضع المأساوي لشعب مغلوب (فئران) تستغيث فلا تجد امامها الا عدوها اللدود (القطط السمان-رمزية لأرباب الفساد)، واجدها فرصة ان ابيِّن ان ارباب الفساد السياسي من النهابة لخيرات الوطن على حساب قوت المواطن الكادح يمكن تصويرها بـ "الخنازير السمان" بديلاً عن "القطط السمان" كمافعل الروائي البريطاني (جورج اورويل) في روايته الشهيرة (مزرعة الحيوانات)،الرواية نقد سياسي لطواغيت الحزب الشيوعي السوفيتي الحاكم، سبعون عاماً من الاستبداد والنهب والفساد والسحل باسم " المساواة بين المواطنين".. في الحلقة القادمة سنقرأ –ان شاء الله-ماذا يدور في الشارع المضاد او المقاوم ومن هم ابطاله وكيف ابدعت الشاعرة كرائدة حقيقية–بكل علمية متجردة-لقصيدة النثر في موضوع سياسي.

النص

ثمةَ شارعٌ

لا يمرُ به أحد

كرسيُ الخيزران

يستقرُ على رصيفه

كهواءٍ مهجور

فيما البابُ يتثاءبُ أزيزاً

والصِبيةُ في الشارعِ المجاور يصرخون بفرح

يسحبون خلفهم الكراسي الدوّارة

كان لعلّية البناية الراكدة في آخره سقفاً من قصدير

وكان الهواء بارعاً في نشر رائحة الصدأ

المواسير المتآكلة تسكنها الجرذان

ولم يهاجم القط الأسود يوماً الفأرة البيضاء

...

كانت الوَحَشةُ دافئةٌ هناك

خصوصاً أن الصِبيةُ لازالوا يصرخون بفرح

و المصباح ما قبل الأخير

يجهشُ بالبكاء

...

تُجرِّبُ كيف تهذي

حتى تضيقُ بروحكَ صدورَ الأمكنة

أن تتمنى لو أن قلبكَ كمفتاحِ بابكَ

منسيٌ في جيبكَ

و خيالكَ الشارد يرتكن إلى عامودِ كهرباء

آيل للسقوط

أن تكتشف أنك الشاسعُ الوحيد

الذي يُقدّر الكلابَ العوراء

و القطط العرجاء الشرسة

و الطيورُ التي توشكُ أن تطلق روحها بالهواء

الوحيد

الذي يقفُ احتراماً لعِشةٍ تأوي المتسول

-من تراقِصهُ فجراً من الشارعِ الآخر-

الذي تُلقِّم الوردةُ - التي تهددُ بالذبول-

الغفرانَ لاحمرارِها المُنحسر

و أنك من لا تنامُ ليلاً

كي لا تتركَ النجوم وحدها

ثمةَ شارعٌ لا يمرُ به أحد..!!

***

شاعر وناقد يمني

a.monim@gmail.com


في الأحد 25 مارس - آذار 2012 05:45:25 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://m1.marebpress.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://m1.marebpress.com/articles.php?id=14761