خراب يحدث دوماً (الجزء الثاني)
د.عبدالمنعم الشيباني
د.عبدالمنعم الشيباني

في الجزء الاول من دراسة قصيدة منى نجيب (خراب يحدث دوماً) عرفنا كيف ان العلاقة بين الهر والفأر غدت –في شارع الخراب-علاقة دافئة بالرغم من وحشتها:-

ولم يهاجم القط الأسود يوماً الفأرة البيضاء

...

كانت الوَحَشةُ دافئةٌ هناك

خصوصاً أن الصِبيةُ لازالوا يصرخون بفرح

و المصباح ما قبل الأخير

يجهشُ بالبكاء

وقرأنا في النص ان الصِّبية من انصار "ملِلك الخراب في شارع الخراب" يصرخون بفرحٍ كتعبير لحالة الفوضى المتناقضة والمضطربة والمخالفة لكل ماهو مألوف وطبيعي، كيف يفرحون وهم يصرخون! صاحب كرسي الخيزران في الشارع المهجور عمل على تعطيل السنن الكونية والقوانين الطبيعية وصنع له انصاراً مسخاً يصرخون وهم فرحون ويصفقون وهم غير فرحين حقاً، يؤدون ادواراً مشبوهةً لأوضاع مقلوبة بعد ان تعطلت الحياة من اصلها والا ماالذي يجمع بين المتخاصمين (القطط السمان والفئران البيضاء)؟ اليست الأوضاع المضطربة والقوانين الطبيعية التي عطلت عن مسارها الصحيح؟ وطن المتناقضات حصيلة طبيعية لتعطيل قانون العدل الكوني والنواميس الطبيعية في الحياة لدرجة ان الناس هجرت الهواء كعنصر اساسي للحياة، ولكن هناك مصباحٌ لم ينطفئ بالكلية، مصباح يسير وفق القانون الطبيعي للحياة، يجهش بالبكاء الماً لمايحصل من خرابٍ مستمرٍ في الاوطان:-

خصوصاً أن الصِبيةُ لازالوا يصرخون بفرح

و المصباح ما قبل الأخير

يجهشُ بالبكاء

هنا مقابلة بين صورتين، صورة الفوضى والخراب التي حلت بالناموس الكوني والعدل الإنساني يمثلها(الصِّبية الذين يصرخون بفرح وهم يصفقون لملِلك الخراب) وصورة لمصباح اومصابيح في الرمق ماقبل الأخير تجهش بالبكاء لما حلَّ بالوطن من خرابٍ وقتلٍ للحياة:-

و المصباح ما قبل الأخير

يجهشُ بالبكاء

من بكاء المصباح هذا يبدأ الحديث عن شارعٍ آخر لم يمت بعد وفيه بقية من حياة، سيظلُّ المصباح يجهش بالبكاء حتى يقضيَ اللهُ امراً، هذا شارع اسمه (شارع قادة الاصلاح والتغيير) شارع الادباء والمفكرين والشعراء وعشاق الحرية والعدل الاجتماعي والمواطنة المتساوية، شارع المصابيح في مقابل شارع الظلام وشارع التغيير في مقابل شارع التخريب والفساد وشارع الانسانية بمعانيها السامية في مقابل شارع الوحوش الآدمية المدججة بسلاح الإبادة للحياة، الشعراء في مقدمة قادة التغيير لأنهم يحسون بآلام المجتمع،هم المصابيح انْ اجهشت بالبكاء حزناً على اوطانٍ خربتها مخالب الوحوش والقطط السمان ثم الفئران كرمزية للخراب الذي خرَّب على الإنسان حتى الهواء يتنفسه وحرَّم عليهم الضحك –كماقرأنا في قصيدة الشاعرعبد الكريم الرازحي (انثى الضحك) حيث نقرأ في قصيدته عبارة (وكلُّ ضحوكٍ عدوُّ النظامْ) من قصيدة انثى الضحك للرازحي :-

هو الضحكُ جُرمٌ

فلا تستطيعُ

ولا أنا أقوى على الابتسام ْ

هو الضحكُ قلتُ الملاذ الأخير

وفي يمنِ القات والإكتئاب

كلُّ ضحكٍ حرامُ

وكلُّ ضحوكٍ

عدوُّ النظامْ

ضحكات ابتسام القصيدة تقنية واستراتيجية للشاعر لمواجهة استراتيجية النظام الذي يحرم الضحك ولكن للقصيدة قوتها تتشظى كالقنبلة النووية ولها انشطارات وتفرعات هل يقوى النظام على ايقافها؟..تحديات القصيدة ابتسام وضحكاتها العجيبة وتفرعاتها في الكون إبداعاً عجيباً (يطلق قمراً في الهواء..سرب يمام...ونافورةً من حمام..)، هكذا هو الشاعر كلما وقعت نظرته على الأشياء تنبعث فيها الحياة بقوتها وبهجتها.. في رواية الكاتب الروسي بوريس باسترناخ (دكتور زيفاجو) يصور البطل زيفاجو- الشاعر والطبيب- انه مصدر حيوية للكون والطبيعة، ينظر الى الأرض الجرداء فتستحيل رياضاً غنّاءة في مواجهة نظام القمع العسكري السوفيتي الذي يصم معارضيه بأنهم (ثورة مضادة يجب سحقهم) مشروع شاعرنا الرازحي هو البهجة والحيوية والإبتسامة، مشروع الضحك:-

هي أنثى الضحك

كلما ضحكتْ أبدعتْ

أطلقتْ قمراً في الهواء

سربَ يمام

ونافورةً من حَمَامْ

والآن تعالوا نجرِّب البكاء والهذيان من اجل الوطن:-

تُجرِّبُ كيف تهذي

حتى تضيقُ بروحكَ صدورَ الأمكنة

أن تتمنى لو أن قلبكَ كمفتاحِ بابكَ

منسيٌ في جيبكَ

و خيالكَ الشارد يرتكن إلى عامودِ كهرباء

آيل للسقوط

أن تكتشف أنك الشاسعُ الوحيد

الذي يُقدّر الكلابَ العوراء

و القطط العرجاء الشرسة

و الطيورُ التي توشكُ أن تطلق روحها بالهواء

الوحيد

الذي يقفُ احتراماً لعِشةٍ تأوي المتسول

-من تراقِصهُ فجراً من الشارعِ الآخر-

الذي تُلقِّم الوردةُ - التي تهددُ بالذبول-

الغفرانَ لاحمرارِها المُنحسر

و أنك من لا تنامُ ليلاً

كي لا تتركَ النجوم وحدها

ثمةَ شارعٌ لا يمرُ به أحد..!!

هذا شارعٌ يسكنه عشاق الحياة وانصارها ومريدوها وعشاق النجوم وانصارها وعشاق الفجر، يسكنه الشعراء ويسكنه عشاق الحرية وعشاق الصبح وعشاق السهر من اجل طلوع الفجر، شارع تسكنه خلاصة الانسانية بحبها للإنسان والكون والتغيير الى حياة افضل للإنسان، ضاقت الأمكنة بالشعراء من عشاق الفجر وممن يسهرون مع النجوم ويسامرونها، يتحسسون فلايجدون سوى (قلب شاعر) كان في الجيب منسياً، من هنا يبدأ دور المصابيح ظلال النجوم واصدقاء الفجر،عشاق للحياة للورود وللعشب ولكل مايدبُّ على وجه الأرض، بيدأ عشقهم للأشياء الصغيرة ثم ينمو هذا العشق، يتنامى ويتعاظم ويتسامى وصولاً للقضايا الكبرى التي تهم الإنسان والوطن، التغيير والتنوير قضية قضايا الشعراء، يسامرون النجوم من اجل قضايا انسانية كبرى، يرفضون (كل) كائنات الخراب التي تعيث في الارض من اشباه ( الكلاب العوراء والقطط العرجاء الشرسة والفئران البيضاء)، الشعراء مع النجوم ومع الطيور ومع الورود ومع الإنسان والحياة.. صورتان للنص، صورة الخراب والموت والفناء بقيادة (سادة القطط العرجاء) من ملوك الفناء والقبح السلطوي وصورة للحياة والطيور والورود يسهر من اجلها الشعراء والادباء وقادة التغيير من عشاق الفجر في شارع الفجر، شارع الحياة، هناك يحنو الشعراء-في شارع الحياة-على الوردة الذابلة والطائر المهيض والإنسان الجريح والعُشب الطريح، من هنا تعرج الإنسانية الى سموات الرحمة بالإنسان والسهر من اجل الإنسان،لاتنام حتى تغادر (القطط العرجاء) شوارع الوطن وحتى تزهر الحياة من جديد ليعود الشاعر الى وطنه ويعود الطائر المهدد بالفناء (ويعود الطائر اليمني) والورد المهدد بالسحق والموت، شارع الفجر لاينام حتى يطلع على الوطن فجرٌ جديد وشِعرٌ جديد.

الشاعر هو (مصباح ماقبل الأخير يجهش بالبكاء) وله قلبٌ كمفتاح بابه منسيٌّ في جيبه وخيالٌ شاردٌ يقف احتراماً ليس للإنسان فحسب بل للطيور والعُشب والفراشات والورود والكائنات لأنه شاعر وانسان يحسُّ بآلام الناس ويعشق الحياة ويكره الاستبداد والطغيان، شاعرٌ خياله شاردٌ لأن له قضية كونية تهم الإنسان والطيور والفراشات والأزهار والرياض، خياله يسابق النجوم ويحلق مع الطيور ويغني للحياة، خياله مع الطيور تطلق روحها في الهواء، كما عبر الشابي شاعر الحياة والحرية:-

خُلقتُ طليقاً كطيفِ النسيم*** وحراً كنور الضُّحى في سماهْ

اغرد كالطير انى اندفعتُ *** واشدو بما شاء وحيُ الالهْ

الشاعر يغني للحياة وللحرية هبات من الاله الواحد وليس من دكتاتور طاغية فالطاغية دائماً وابداً –كماعبر الشابي- (عدوُّ الاله عدوُّ الحياه):-

الا ايها الظالمُ المستبدُّ عدوُّ الالهِ عدوُّ الحياهْ

حب الشاعر للإنسان متعاظم (مصباح ماقبل الأخير يجهش بالبكاء)، وحبه للإنسان والكون يبدأ من اصغر الأشياء وابسطها، يبدأ من اصغر نبتة في الأرض، من العٌُشب الصغير، ثم يتعاظم وينمو ليشمل الحب للإنسانية كلِّها وهذه الفكرة عبر عنها الشاعر الأمريكي (وولت وايتمان) في مجموعته الشعرية (اغاني من اجلي انا) وعبرت عنه (منى نجيب) شاعرتنا العدنية الشابة في قصيدتها هذه، اليست هذه الشاعرة عالمية الفكر والابداع؟ الشاعر انسان عالمي، يعيش للإنسانية ويعبر عنها ويغني للحياة كلِّها... وهكذا يترأى لنا الجو في (شارع التغيير-شارع الشعراء والادباء والمفكرين والعظماء) مصابيح تبكي على الوطن مما فعله الديكتاتور(ملِلك الخراب وعدوَّ الحياة) تبكي بكاء من يحس بآلام الوطن ومن ينشد آماله في التغيير، يترأى لنا هذا الشارع (شارع الشعراء وقادة الفكر) حباَ واحساساً نبيلاً وعظمةً انسانيةً تغني للكون.. لستُ هنا في مهمةٍ لأشرح افكار النص ولكن نجحت الشاعرة نجاحاً كبيراً في تصوير شارعين في المواجهة: شارع اعداء الحياة وشارع انصار الحياة، المقابلة في التصوير بين شارعين او معسكرين او جبهتين او ضدين نقيضين مقابلة تُحسب للشاعرة، انظروا الى الفرق الشاسع بين (الكلاب العوراء والقطط العرجاء الشرسة) وبين شارع ( خيال شارد..طيور تحلق في الهواء..مصابيح تجهش بالكاء) انها مواجهة بين الوحشية البهيمية بكل اشكالها وصورها المرعبة وبين الانسانية الكونية النبيلة بكل ما اودع الله فيها من قلوبٍ رحيمة وخيالات متأملة في الكون والنجوم وطموحات محلقة مع الطيور وقلوب بيضاء تنشد الحب والسلام والتغيير السلمي بما يتناغم مع مواقع النجوم وفضاءات الطيور واخضرار العُشب، انها مواجهة بين اصوات الخرائب والاشباح برائحة الصدأ والمواسير المتآكلة وبين انوار مصابيح وترنيمات شعراء من اجل الإنسانية واصوات اغانٍ عذبةٍ للحياة (تشدو بما شاء وحيُ الاله).. لا اظن ان وظيفتي ان اشرح افكار النص ولكن النص نجح في تصوير مواجهة حقيقية بين شارعين: شارع الموت والخراب وشارع الحياة والتغيير، اوطاننا بين شارعين، بين شارع الموت بقيادة (صاحب كرسي الخيزران على الرصيف المهجور وادواته من الكلاب العوراء والقطط العرجاء الشرسة والفئران البيضاء) وبين شارع الحياة والغناء من اجل الإنسان والحياة ومن اجل التحليق في فضاء الحرية والسهر مع النجوم والعشق للفجر.. ماذا ينتج ملوك الخراب؟ مواسير متآكلة واعمدة كهربائية آيلة للسقوط وكلاب عوراء وقطط عرجاء وفئران بيضاء، هذه منجزاتهم وتلك معجزاتهم، وفي الصورة المقابلة ماذا تصدر المصابيح التي تجهش بالبكاء؟ تصدر بكاءً حاراً صادقاً من اجل الإنسانية، واحلاماً خضراء وخيالاً يسابق النجوم، صورة متكاملة للإنسانية بإحساسها النبيل وطموحها المحلق مع الطيور ومع الغناء للحياة، صورة متكاملة في خيالها وشاعريتها في مقابل الوحشية والهمجية المتوحشة للكلاب العوراء والقطط العرجاء كصور مرعبة للبلاطجية العدوانية ضد الغناء والحياة والتغيير ..قلتُ لستُ معنياً بشرح محتوى النص فليست هذه وظيفتي هنا ولكن نجحت الشاعرة في رسم ميدان المواجهة بين ادوات الخراب والموت في شارعٍ هجره السكان عنوةً وبين خيال الشعراء واحساس نبيل مجهش بالبكاء من اجل الانسان لقادة الفكر والتغييرمصابيح وظل نجوم تعشق الفجر والانسان والغناء.

ليس اخيراً

للقراء والقارئات والمتذوقين والمتذوقات اقول كما قال الدكتور عبد العزيز المقالح ان الذين يعيبون على قصيدة النثر او اي اي شكل من اشكال القصيدة انما وقعوا في فخ (الشكل) يبحثون عن الشكل، والمتعصبون للقصيدة التقليدية بالوزن والبحر يبحثون عن الشكل ايضاً، وجوهر المسألة ان نبحث عن (النص المبدع) حيثما وجد، الإبداع هو جوهر الحسم في المسألة وليس الشكل، ومن هذا المنطلق النص الذي بين ايدينا (خراب يحدث دوماً) للشاعرة الشابة العدنية منى نجيب من اجمل قصائد النثر كـ شكل ومحتوى فكري راقٍ بعيد المنال لشاعرٍ عاديٍ، هذا النص انتصارٌ جديدٌ لقصيدة النثر و(ضرورة ابداعية ملحة) بحسب تعبير الدكتور الناقد عبد الحميد الحسامي الذي قرأناه في مقدمة الحلقة الأولى من هذه القراءة وهو يتحدث بشكل عام عن قصيدة النثر وهل هي ضرورة لبيئتنا العربية ام تقليد وافد ... وملاحظة أخرى: قرأتُ القصيدة كموضوع سياسي ولو شئتُ لقرأتها كموضوع ديني محض او عاطفي محض او حتى (موضوع حسي اشتهائي محض) فليس للنص وجهةً واحدة بل اكثر من وجهة واكثر من قراءة.

النص

ثمةَ شارعٌ

لا يمرُ به أحد

كرسيُ الخيزران

يستقرُ على رصيفه

كهواءٍ مهجور

فيما البابُ يتثاءبُ أزيزاً

والصِبيةُ في الشارعِ المجاور يصرخون بفرح

يسحبون خلفهم الكراسي الدوّارة

كان لعلّية البناية الراكدة في آخره سقفاً من قصدير

وكان الهواء بارعاً في نشر رائحة الصدأ

المواسير المتآكلة تسكنها الجرذان

ولم يهاجم القط الأسود يوماً الفأرة البيضاء

...

كانت الوَحَشةُ دافئةٌ هناك

خصوصاً أن الصِبيةُ لازالوا يصرخون بفرح

و المصباح ما قبل الأخير

يجهشُ بالبكاء

...

تُجرِّبُ كيف تهذي

حتى تضيقُ بروحكَ صدورَ الأمكنة

أن تتمنى لو أن قلبكَ كمفتاحِ بابكَ

منسيٌ في جيبكَ

و خيالكَ الشارد يرتكن إلى عامودِ كهرباء

آيل للسقوط

أن تكتشف أنك الشاسعُ الوحيد

الذي يُقدّر الكلابَ العوراء

و القطط العرجاء الشرسة

و الطيورُ التي توشكُ أن تطلق روحها بالهواء

الوحيد

الذي يقفُ احتراماً لعِشةٍ تأوي المتسول

-من تراقِصهُ فجراً من الشارعِ الآخر-

الذي تُلقِّم الوردةُ - التي تهددُ بالذبول-

الغفرانَ لاحمرارِها المُنحسر

و أنك من لا تنامُ ليلاً

كي لا تتركَ النجوم وحدها

ثمةَ شارعٌ لا يمرُ به أحد..!!

***

شاعر وناقد يمني

a.monim@gmail.com


في السبت 31 مارس - آذار 2012 04:26:40 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://m1.marebpress.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://m1.marebpress.com/articles.php?id=14861