17 عاماً من العبودية، اللحم الميّت لا ينبض
د.مروان الغفوري
د.مروان الغفوري

مساء ال20 من سبتمبر 2014 نزح الرئيس اليمني هادي من قصره في شارع الستين إلى القصر الرئاسي في السبعين. أصبحت أسرته، أيضاً، واحدة من الأسر النازحة. رأت صحيفة واشنطون بوست إن ما حدث في اليوم التالي، 21 سبتمبر، كان انقلاباً على الرئيس هادي بموافقة ودعم الرئيس نفسه. هذه الواقعية السحرية التي أشارت إليها الصحيفة المرموقة تتطابق مع نكتة متداولة في المكلا منذ ذلك اليوم. ما حدث كان غريباً بالمعنى التاريخي، والسياسي. فقد نفذ الحوثيون انقلاباً أسقط الدولة وأبقى على الحكومة، هيمنوا على العاصمة وتركوا قصر الرئيس. أما هادي فقد أصبح أول رئيس نازح في تاريخ اليمن.

نزل هادي السلّم الرئاسي كأنه واحدة من الشخصيات الفولكلورية الهزلية لروايات القرن التاسع عشر. الدرجة الأولى: محاولة انقلاب. الدرجة الثانية: مؤامرات. الدرجة الثالثة: مؤامرة. الدرجة الرابعة: صنعاء سقطت لكنها لم تسقط. الدرجة الخامسة على لسان سكرتيره الإعلامي: سنخرج الحوثيين من صنعاء بالقوة. أما الدرجة السادسة فعبر كتفي مستشاره الاستراتيجي: صنعاء أسقطت الحوثيين عبر تحويلهم إلى جماعة سياسية.

قبل سقوط صنعاء سقطت عمران. وقبل سقوط عمران بأسابيع قدم اللواء القشيبي، قائد اللواء 310، استقالته إلى الرئيس هادي قائلاً: صوناً للدماء والممتلكات أرى أن تتصرف أنت مع اللواء، وتقبل استقالتي. لكن هادي، لأسباب لا تزال حتى الآن غير مفهومة، رفض الاستقالة بإصرار. "لا يمكن للحوثي أن يتصرف كما يشاء" قال هادي. عاد القشيبي إلى المعسكر، وقتل بعد أيام. "أعطيت أوامري للوحدات العسكرية بالتحرّك لإنقاذ اللواء 310 لكن صالح أوقفها" قال هادي لأولاد القائد المغدور. لكن وزير داخليته احتفظ برواية أخرى قدمها لمجلس الوزراء. الطيران الذي حلق فوق عمران لحظة اقتحام اللواء 310 تلقى أوامر بالعودة.

هذه الواقعة تشبه تماماً ما رواه جنود اللواء الرابع حماية رئاسية، صنعاء. فقد نقلت صحيفة المدينة، السعودية، عن الجنود رواية محيّرة. ذلك أنهم اشتكوا لوزير الدفاع هروب قائد اللواء وقادة الكتائب من المواجهة فرد عليهم الوزير بالقول: هؤلاء عندهم رؤية وبعد سياسي ثاقب. ثم أمرهم بالفرار وترك السلاح.

عاش هادي 17 عاماً إلى جوار صالح والجنرال محسن. تعرّض لاضطهاد مزمن تسبب في سحق كرامته. ربما تسببت سنوات العبودية الطويلة، بأسواطها المعنوية القاسية، في انسحاقه من الداخل، وانهياره كلّياً. لقد حدث قبل حوالي عامين أن قال علي ناصر محمد لجماعة من الإعلاميين في لقاء غير رسمي "هادي كان عسكري عندي". ستصل هذه الجملة عبر طريق قصير إلى هادي، وستنتهي علاقة الرجلين إلى الأبد. مسّت كلمات ناصر الحقيقة النارية التي دفنها هادي منذ عشرات السنين. لقد كان "تابعاً" لكل الذين يحكمهم الآن. إنه مرتبك، ويرتجف. ينتقم من أمرائه ليس كسيدٍ لهم بل كخادم ماكر، كأنه يضع لهم السم في الطعام بدلاً عن أن يلقي عليهم القبض. تقول علوم الإدارة: يستنكف المرء عن لعب أدواره الجديدة إذا ما وصل إليها فجأة، ويعيش دائماً في أدواره السابقة. للسفيرة البريطانية تعليق مشابه: هادي لا يزال نائباً للرئيس. 17 عاماً من العبودية شكّلت هادي على هيئة خادم ماكر، حتى عندما أصبح رئيساً لكل سادته القدامى ذهب إلى القبو ووضع السم في طعامهم، كما يفعل العبد.

التقته سفيرة بريطانيا في صنعاء قبل السقوط. طمأنها هادي: صنعاء محروسة بثلاثة أحزمة. عدد أحزمة الحماية أمام السفيرة، ثم استدعى آخرين. اتفق مع الإصلاح على تشكيل لجان شعبية. اتفق مع الجنرال على دعم الفرقة المدرعة بآليات جديدة، وطلب من سكان صنعاء حمل السلاح. قال لهم: سأخاطب المجتمع الدولي بالحقيقة الكاملة، وأعلن التعبئة العامة. اقتحمت الميليشيات صنعاء، فتلقى هادي سيلاً من الاتصالات الدولية. قال للعالم الخارجي: إنها حرب الجنرال محسن والحوثي. ثم أعطى أوامره للجيش بالبقاء في ثكناته. استجمع ما بقي ما لديه من شجاعة ونزح مع أسرته إلى قصر السبعين.

يقول الأحمدي، رئيس جهاز الأمن القومي، للسياسة الكويتية إن سيارتي مسلحين حوثيين تتحكمان بالقوات الخاصة كلها "ثلاثة آلاف فرداً بعتاد عسكري نوعي وحديث". بالنسبة لهادي فهذا وضع اعتيادي. هو شخصيّاً عاش حياة مشابهة اقتربت من عقدين من الزمن. ليس في الإهانة ما ينقص من العمر، يفكّر هادي. ماذا تعني "الروح الوطنية" للجندي؟ ما معنى القيمة الذهنية للعسكرية؟ أنا رئيس جمهورية، يقول هادي لنفسه، رغم أني عشت سنين طويلة جندياً مع علي ناصر، وعلي صالح.

نجح الحوثيون في استمالة قلب هادي. تلك الجماعة الصمّاء فككت نفسيته المعقّدة وخاطبت الجزء المعذّب من نفسه: العبد المسحوق، ففازت به. لم يتنازل خطاب الحوثيين مرّة واحدة عن لقب "فخامة الرئيس". حتى وهو ينزح مع أسرته إلى القصر الرئاسي كان الخطاب الحوثي وفيَاً معه

الرئيس الذي يوزّع بطاقات العزاء على الجمهورية اليمنية عجز عن إصدار بيان واحد، حتى الآن، حول ما يجري في صنعاء. اثنان من وزرائه التقوه بلا كارفتات. نهبتها الميليشيات ضمن كل شيء، تقريباً. سيتذكر التاريخ اليمني أمراً مثيراً. أعلنت جماعة الحوثي انتصار الثورة، لكنها لم تقل من المهزوم. وأعلن هادي عن مؤامرة لكنه نسي أسماء الفاعلين. كل اللصوص لا يزالون في صنعاء بمن فيهم اللصوص الجدد، أنصار الله. لقد نهب هؤلاء الأخيرون ما يفيض، مئات المرّات، عن منهوبات كبار اللصوص، بمن فيهم هادي.

يعتقد هادي أنهم يحتقرونه. لا يقول من هم، لكنه يعتقد أنهم يفعلون. يروي وزير مقرّب من هادي أن الأخير كان "نكتة التخزينة" في عهد صالح. كان يتقبّل الإهانات بروح رياضية. في مرّة استوقفه طقمان عسكريان في شارع الرقّاص، واحتجزاه لأكثر من ساعة. حدث ذلك في العام 2008، إذا لم تخنّي الذاكرة. لقد سحقوا كرامة البدوي الطيّب بضراوة. طوّعوه، نزعوا جلده على المدى الطويل. عندما استخرجناه كان قد فقد كل شيء. عثرنا عليه في مكان ما في صنعاء بلا ملامح. كنتُ من الذين كتبوا: مع هادي ذلك أفضل. اعتقدنا أن كرسي الرئاسة ملعون، وأنه أصبح مناسباً أن نلقي بهادي في الكرسي الملعون كقربان مقدّس. لكن اللعنة سرعان ما صعدت من الكرسي وحلّت في هادي. اختفى كرسي الرئاسة الآن وبقي هادي يحمل ملامح ذلك الكرسي. صورة شبيهة بالنهاية الدرامية لرواية دوريان غراي لأوسكار وايلد.

حوّلت السلطة صالح بسرعة إلى ديكتاتور. لكنها انحرفت بهادي بعيداً. فشلت السلطة في أن تصنع من هادي ديكتاتوراً، لأنه وصلها متأخّراً. كان يفتقر إلى أبسط عناصر الديكتاتور. كان قد تشيّأ وتحوسل، تحول إلى وسيلة، على مدى سنين. في النهاية فازت السلطة وخلقت منه سفيهاً. ففي نهار صافٍ صرخ رئيس الوزراء في وجه وزير المالية: ماذا يعني هذا؟. لم يجد الوزير جواباً. تساءل الأول وهو يضع الورقة على الطاولة: رئيس جمهورية يرسل شيكاً لرئيس الوزراء بمبلغ 5 ملايين ريال كعيدية، كيف يفكّر هذا الرجل؟

التقى الأمانة العامة للمؤتمر الشعبي العام وفاجأهم على طريقته. قال لهم إنه مصدوم، فقد اتفق مع الحوثيين على حصار عمران من جهتين لكنهم خانوه واكتسحوها. خانوه مرّة أخرى واحتلوا صنعاء. الخونة، وعدوا هادي بالسيطرة على الفرقة وجامعة الإيمان فقط، وصدّقهم. هادي يشعر بالخذلان فهو يفكّر بأمر جاد هذه المرة. قال إنهم لن يصدق الحوثيين بعد ذلك، ولن يثق بوعودهم. التقى سفراء الدول العشر عشرات المرّات. مع مرور الأيام شعر السفراء بالملل. في اللقاء الأخير أرسل السفير الفرنسي من ينوب عنه. أما سفير الإمارات فقد توقف عن حضور لقاءات هادي منذ زمن. قال إنه لم يعد بمقدوره احتمال نواح وأنين هادي. أصابهم بالخذلان حتى إن سفير دولة عظمى شبّهه بحيوان ما. قال إنه لا يمكن أن يكون الرئيس شخصاً عاقلاً وهو يرى واحدة من أهم المدن تسقط في يد الميليشيا ولا يصدر حتى بيان صغير حول ما يجري. كان يتحدث عن عمران.

الأحمدي، رئيس جهاز الأمن القومي، قال للسياسة الكويتية إن هادي أعطى أوامره للجيش بالدفاع عن نفسه! كان هادي حازماً، يرى الأحمدي. مسألة الدفاع عن النفسي أمر مصيري لكنه مع ذلك بحاجة إلى تعليمات من هادي. تنشأ الجيوش لتدافع عن الأوطان، لا توجد مهمة أخرى للجيوش. لدى هادي تصور خاص: بل لتدافع عن نفسها شريطة أن تصلها الأوامر بذلك. يعتقد هادي أن ما حدث كان مؤامرة. بالطبع لديه كوكتيل اعتقادات، لكن مفردة المؤامرة هي الأكثر بروزاً في أحاديثه. مؤامرة! لدى الأحمدي إضافة مهمة في هذا الشأن: اكتسح الحوثي صنعاء بحوالي 20 ألف مسلّح، فضلاً عن آلاف المسلّحين المتواجدين في صنعاء. بوضوح كريستالي تقول الوقائع إن ما حدث كان حرباً من طرف واحد. ثمّة جيش جرار، بآلات عسكرية ثقيلة حاصر العاصمة لأسابيع، أعلن عن نيته اكتساحها، ثم اكتسحها أمام شمس صنعاء الجبانة. لا مكان للمؤامرة فيما حدث. كانت حرباً مكتملة الشروط استسلم فيها هادي بعد 11 دقيقة.

 

بعد ستة عقود من "بناء القوات المسلّحة" اكتشف الشعب اليمني أن القدرة القتالية لجيشه لا تتجاوز 11 دقيقة. وهي فترة أقل من متوسط الزمن المطلوب لإنجاز عملية جنسية بين طرفين أحدهما مصاب بسرعة قذف.

لم يخن هادي بلده، ولا القسم. لم يخن القوات المسلّحة، ولا المواطنين. هادي كان على الدوام "لا أحد". لم نجلب بطلاً إلى الرئاسة عندما صوتنا له. كنا فقط نشتري حارس كرسي. قبل أشهر قال الشاعر طه الجند "إن هادي الذي يتحدث غير هادي الذي يحكم". حتى ذلك الوقت كانت هذه الملاحظة لا تزال ذات معقولية. يتجلى هادي الآن على مستويات أكثر عمقاً. داخل هادي، في أعماق هادي، يوجد هادي الحقيقي. ذلك المنكسر، المسحوق، المُطَوّع، الذي سحقت سنوات العبودية الـ 17 صفاته وشيّأته. لقد عاش في أسوأ الأوقات، وأكثرها نيلاً من كرامته. تعايش مع الذل، مع العبودية، ونما، كبُر، وتقادم به السن. ها هي الميليشيات تخاطبه بفخامة الرئيس وتنهب كرافتات وزرائه، ومنزل رئيس جهاز الأمن القومي. لا بأس، يفكّر هادي، فقد عشتُ أياماً أسوأ من هذه الأيام. كنتُ نكتة التخزينة و"سلّومه الأقرع". أنا فخامة الرئيس، هذه هي الحقيقة، ولتشتعل الحروب في الشوارع، لا يهم. كم بقي من العمر، ينظر هادي في ساعته، ويأخذ نفساً عميقاً.

17 عاماً من العبودية كانت كافية لتغيير كل شيء. واللحم الميّت لن ينبض.

  
في الأربعاء 01 أكتوبر-تشرين الأول 2014 04:38:34 ص

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://m1.marebpress.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://m1.marebpress.com/articles.php?id=40419