دردشة في مقهى لندني
د. محمد جميح
د. محمد جميح
 جاء من عاصمة ما، وصل إلى لندن، اتصل بي: أنا في لندن، أريد أن أراك.
هذا الرجل لا يكف عن السفر، تشعثت روحه، وعلا قلبه غبار السنين وهو لا يمل من حمل حقائبه، من بلد إلى بلد. قلت له: على الرحب. والتقينا في المقهى ذاته، الذي يطيب لنا فيه احتساء بعض الوجع.
قال لي: أتابعك باستمرار. قلت، وأنا أسأل عنك دائماً. وعلى رشفات شيء من القهوة فتحنا علبة الأوجاع.
قلت له: ما الذي يجري؟
قال: صناعة الوهم. الأطراف المتصارعة في اليمن تحركها الأوهام. الحوثي موهوم بعالمية حركته، ومحكوم بالمؤدلجين الذين يتوهمون أن الله اصطفاهم من بين الناس لمهمة رسالية، وهم يتحركون في حالة من الخدر، وصلوا إليها بفعل تمازج تأويلاتهم للنصوص ونظرتهم للتاريخ ورؤيتهم للواقع. قال كذلك إن من مشاكل الحوثيين أنهم لم يعودوا محل ثقة لكثرة ما انقلبوا على التوافقات. أضاف: الرئيس السابق لديه وهم «العظمة»، يرى أنه الوحيد القادر على حكم البلاد وتوحيدها، والقادر على عقد الصفقات والسير في المنحنيات، والرقص على رؤوس الثعابين. صالح لديه وهم سلطته المتلاشية، ويتصرف من منطلق أنه لا يزال هو رئيس الجمهورية، وقد ابتدع له شرعية جديدة، هي «شرعية الصمود». قال كذلك: صالح في وضع متوتر ومزاج متعب، يروق أحياناً، ويتم الاتفاق معه على شيء، ثم بعد أن يغادر جلسة الاتفاق، يعود ليهجس بأشياء أخرى، غير ما تم التوافق عليه. أضاف: مشكلة هادي أنه يعيش في وهم كثرة أعدائه، هذا الوهم جعله يتوجس حتى من حلفائه، هادي فعل بحلفائه أكثر مما فعل صالح بخصومه، ولدى هادي قليل من وهم صالح حول نجاعة خططه التفكيكية للبنى السياسية والقبلية والحزبية التقليدية، ليبني على أنقاضها «اليمن الاتحادي» الذي يعــد مشروعه الذي يقاتل من أجله.
تناول ضيفي رشفة من القهوة، وواصل: مشكلة هادي ـ كذلك- أنه لم يستطع التخلص من كثافة الماضي في مخياله السياسي. أضاف من مشاكل الرئيس عدم تناغم صفه، الخلافات الموجودة بين بعض مكونات الشرعية، أكبر ـ أحياناً ـ من الخلافات بين هذه المكونات من جهة وتحالف الحوثي – صالح من جهة أخرى. قال محدثي: ليس من قبيل إذاعة الأسرار أن الأطراف المتناحرة تغلف مصالحها السياسية والشخصية ـ أحياناً ـ بغلاف المصلحة الوطنية العليا. في مسقط كان الحوثيون وصالح يعلنون التزامهم بالقرار الدولي 2216، باستثناء الفقرة التي تنص على العقوبات الدولية على علي عبدالله صالح، وعبدالملك الحوثي، في الوقت الذي يعلنون فيه قبولهم بالقرار حقناً لدماء اليمنيين، ونزولاً عند المصلحة الوطنية العليا.
قلت: من كان يحضر لقاءات مسقط؟
قال أمريكيون وبريطانيون ومن الاتحاد الأوروبي وضباط استخبارات سعوديون.
قلت له: أريد أن أفهم: من يُسيِّر من؟ صالح أم الحوثي؟
قال: صالح فتح لهم المعسكرات، وأنصاره وقفوا معهم، لكننا اليوم في مرحلة يصعب معها القول إن صالح هو الذي يتحكم في سير الأمور. هناك معسكرات يسيطر عليها الحوثي، وأخرى تتبع الرئيس السابق، ولم يعد ممكناً القول إن صالح هو المحرك الرئيس، وأن الحوثي مجرد قفازات يضعها صالح على يديه، كي لا تظهر بصماته على مسرح العمليات.
سألته عن الحل. قال: الحل صعب. قلت: لماذا؟ قال: لأنه يتطلب رحيل الوجوه التي أنتجت المشكلة. قلت: كيف؟ قال: صالح لم يعد بالإمكان قبول دوره في الحياة السياسية، وهادي يصعب تصور وجوده على رأس الدولة في صنعاء، والحوثي بعقليته وعنصريته غير مقبول لدى معظم شرائح المجتمع اليمني بمن في ذلك بعض من أيدوه لمصالح معينة. أضاف في المؤتمر الشعبي العام، ورغم ما يبدو من تحالف بين صالح والحوثي، إلا أن المؤتمريين يدركون تماماً خطورة التوجهات السلالية والطائفية لدى الحوثيين، وهناك خلافات عميقة حول الطرق التي يدير بها الحوثي الدولة، والفساد الكبير الذي بدأ يستشري تحت مظلتهم. قلت: أنت بذلك تسوق لتجمع الإصلاح؟ قال: لا. للإصلاح مشاكله الكثيرة. على الرغم من أنه شريك فاعل في العمليات العسكرية مع الشرعية، إلا أن هناك توجسات لدى بعض الأطراف الخليجية منه، ولدى بعض الأطراف داخل الشرعية التوجسات ذاتها، وهناك خوف لدى بعض القوى الدولية من تصدر الإصلاح للمشهد السياسي والعسكري خلال الفترة المقبلة.
ما الحل إذن؟ قلت.
قال: سعت مجموعة من السياسين الحزبيين والمستقلين إلى تشكيل «الطريق الثالث»، الذي يقوم على أساس استبعاد كل الأطراف التي شاركت في الحرب، والدعوة إلى حل على أساس الابتعاد عن الأدوات التي أنتجت الحرب، والدعوة لوقف إطلاق النار على هذا الأساس. أضاف: مشكلة الطريق الثالث أنه يمتلك «النوايا الحسنة»، إجمالاً، ولكنه لا يمتلك الأدوات التي تمكنه من إنفاذ رؤيته. وذكر أن هناك بعض القوى التي تتوجس من أن الطريق الثالث، هو إحدى حيل علي عبدالله صالح التي غلفها ليلتف على الأطراف الداخلية والخارجية، في طريق عودته إلى السلطة، على اعتبار أن الكثير من رموز هذا الطريق هم ـ في نظر بعض الأطراف ـ من المحسوبين على صالح.
قلت: أنت متشائم، كل أبوابك مغلقة. قال: بقيت نافذة واحدة، لم أذكرها لك. قلت: ما هي؟ قال: المجلس الرئاسي. قلت: ما حكاية هذا المجلس؟ قال: طرحت بعض الشخصيات السياسية – كحل لتصادم الرغبات لدى الأطراف السياسية ـ أن يُشكل مجلس رئاسي يكون برئاسة هادي، وعضوية أعضاء من القوى السياسية الكبيرة في البلاد كالمؤتمر وحلفائه والمشترك وشركائه والحوثيين والحراك الجنوبي، وهناك طرح بأن تكون عضوية المجلس الرئاسي على أساس الأقاليم الفيدرالية الستة، بحيث يكون لكل إقليم عضو يمثله في المجلس، وتكون قرارات المجلس الرئاسي توافقية، ويكون هذا المجلس انتقاليا، لحين إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية. أضاف: الرئيس هادي بالطبع يعارض فكرة المجلس، لأنه يراه يحد من صلاحياته، ويرى أنه فكرة الحوثيين والمؤتمرين الذين كانوا يتناقشون حوله مع بعض القوى السياسية في صنعاء، عندما كان هادي في حكم الإقامة الجبرية.
قلت: وهذه النافذة سددتها أيضاً.
ضحك وقال: بقيت جنيف 3، يجري الإعداد لها بشكل جيد هذه المرة، وقد تفضي إلى حل، ينبع من خلاصة الأفكار التي أجملتها لك، والتي لا تتعارض مع المبادرة الخليجية ومخرجات الحوار الوطني والقرارات الدولية ذات الصلة.
انتهت الدردشـــة، وتوادعنا على أن نلتقي مجدداً بعد عودته من تلك العاصمة، التي جاء منها، والتي يقضي فيها وقتاً طويلاً عل حلاً يلوح في الأفق.

في الخميس 10 مارس - آذار 2016 04:27:45 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://m1.marebpress.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://m1.marebpress.com/articles.php?id=42143