عودة السندباد
د.عبدالمنعم الشيباني
د.عبدالمنعم الشيباني

* المهداه إليه مصلوبٌ على أعواد قصيدةٍ مثخنةٍ بالوفاء، والشعر هو المخلِص لأصدقاء "تآكل وجهُ القصيدةِ تحت سنابكِ قسوتهم".

نظرية الخلاص معتقد ديني نصراني مفادها- حسب هذا المعتقد- أن معاناة السيد المسيح وآلامه على أعواد الصلب من قبل اليهود والرومان الوثنيين تطهير وخلاص وإنقاذ للعالمين، وأن المسيح قد تحمل بالنيابة عن البشرية هذه الآلام ليطهرهم وينقذهم ويخلصهم، فهو المطهٍر والمخلِص والمنقذ، ومن صدق به فقد دخل في زمرة المخلًصين (بفتح وتشديد اللام)...

وبعبارة أخرى تعرض المسيح لإساءة كبرى على يد أعدائه من الرومان واليهود وهي أذاهم وعنادهم ثم صلبه ولكنه تحمل كل ذلك حتى الموت ليطهر البشرية من شرورها تضحيةً و رحمةً منه بالإنسانية بالرغم من سوء هذه الفعلة وبالرغم من خذلان وخسة ولؤم من حوله... وعلى هذا الأساس سوف نقرأ قصيدة "عودة السندباد" للشاعر عبد الغني المقرمي والمهداة أصلاً للشاعر عبدالإله الشميري رداً على شكوى قصيدةٍ للأخير يشكو فيها من غدر وخسة أصدقاء له قابلوا الإحسان والندى بالإساءة، فكانت "عودة السندباد" مواساةً للشميري صاحب القلب الكبير وأنه لن يضيره خذلان وجحود وأذى من أحبهم واتخذهم أصدقاء مادام في الشعر متسعاً للعروج إلى سدرة المنتهى، مقام الشاعر السامي النبيل والجميل، وهو مقام عالٍ خاصٌ بالنبي، وتمضي القصيدة إلى أن عاقبة الحب والتضحية عاقبةٌ حميدةٌ وانتصارٌ أزليٌ للشعر ووسيلة خلاصٍ للناس وحتى الجاحدين منهم، ومعراج صعودٍ إلى مقامات العُلى.

وإذا سلمنا بالشعر معراجاً إلى سدرة المنتهى فقد أجزنا (بلغة النقد) أن الشاعر نبيٌ لأن هذا المقام لا يرقى إليه إلا النبي، وفي ثقافتنا المسلمة مقام سيد الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم... والشاعر نبيٌ، أي تفتح له الحجب ويتنبأ بالمستقبل، وهو نبيٌ يحمل رسالة (رسالة الشعر للإنسانية)، وهو نبيٌ يحمل قلب نبيٍ مشرقٍ يسع البشرية. وعلى هذا، فالمهداه إليه يشبه النبي، وتجربته مع أصدقاء الجحود واللؤم في مقابل ما منحهم من الحب والعطاء وما أهداه إليهم من رسالةٍ نبيلةٍ تشبه قصة السيد المسيح مكتوفاً على الصلبان ومثخناً بجراح إخلاصه ووفائه لمن لا يستحق، أحسن إليهم فرجموه وضحى من أجلهم فآ عتقلوه وأوثقوه مصلوباً يتحمل الإساءة في مقابل الإحسان.. ها هو النبي يتحمل شتى أصناف الأذى (اللفظي والفعلي) من قبل أعداء النور والحقيقة ووسط خذلان المنافقين، وهاهو الشاعر (المهداه إليه) مصلوبٌ على أعواد قصيدةٍ مثخنةٍ بالوفاء...،، يقول الشاعر المقرمي (صاحب الإهداء):

تناءى بكَ الزمنُ الغجريُّ إلى وجعٍ في أقاصي

القصيدةِ تستوقدُ البوحَ في ظل مثمرةٍ من

ألمْ

وتنسجُ من ذكرياتِكَ والأصدقاءِ مواويلَ

تمضي بها الريحُ... ترجعُها الريحُ... تمضي بها..

وتعودُ بها والمسافاتُ بينكَ والأصدقاء

الذينَ منحتَهمُ وردةَ القلبِ ثم مضوا.. برزخٌ

من سأمْ

لكَ اللهُ... ما زلتَ تسألُ كلَّ الأزقّةِ

عنهم، وما زلتَ تبحثُ بينَ قصاصاتِ أمسكِ

  عما

تيسّر من قطراتِ عواطفهم، ثم تأوي إلى خيمةٍ

مزّقتْها عواصفُهم مثخناً بالوفاءِ، وهمْ

تركوك بقارعةِ الحزنِ معتصماً بنثار حروفٍ

ومحتضناً لبقايا نغمْ

ومازلتَ رغمَ المواجعِ... مازلتَ تبحثُ بين

حُطامِ حرائقهم عن تميمةِ عشقٍ تعيدُ الفتى

السندبادَ إلى مدنٍ طمرتها رياح البلى،

وطواها العدم

إلى أينَ يمضي بكَ الشعرُ في الزمنِ الغجريِّ

إذا ما تآكلَ وجهُ القصيدةِ تحتَ سنابِك

قسوتهم، واختفتْ مدنُ العشقِ عنكَ وعنْ

عاديات المساءِ فلا القلبُ يسلو هواهُ ولا

الأصدقاء الذينَ مضوا يشرقونَ فضاءً بليلِ

الندمْ

إنظروا، الشاعر يمنحهم وردة القلب وليس القلب، بل أغلى مافيه، يمنحهم قصيدة شعر، ثم تعالوا نقرأ آلام الشاعر (النبي)، لا يصدر منه إلا كلُ مثمرٍ حتى في أقصى حدود الألم :(تستوقد البوح في ظل مثمرةٍ من ألم)، شجرة آلام الشاعر مثمرةٌ تساقط قصائد البوح الجميل المحمل بالحب للناس وللأصدقاء، تعفو وتسامح وتتحمل بالنيابة عنهم لتخلصهم وتطهرهم من قسوة إساءتهم وأشواك أذاهم (المقابلة الكلاسيكية بين الورد والشوك)، وبالمقابل إنظروا إليهم يأون إلى ظل جرداء قاحلة لا تثمر إلا الشوك يدمي لؤمها قلب النبي الشاعر، ألا ما أعجبهم يردون الكرم بالألم....، وبرغم هذا الألم المسيء يصر النبي الشاعر (المخلٍص) بتشديد وكسر اللام أن يرد هذا النشاز وهذا السأم وهذا الملل المسيطر بذكريات مووايل وأغانٍ علها تمحو ماعلق بالذاكرة من هذا السأم وذلك الألم.

يلتقي النبي (المصلوب) والشاعر (المغلوب) عند نقطة معاناة واحدة وهي إساءة الأعداء (عند الأول) وغدر الأصدقاء (عند الثاني) وأن كلاهما (المسيح والشاعر) "يستوقدان البوح في ظل مثمرةٍ من ألم"...، ثم لا يجد الشاعرما تحمله الريح ولو شيئاً يسيراً من ذكريات عواطف تشفع لأهل الغدر والقسوة والجحود، أي لا يجد وهو بحر الحب والعواطف الجميلة و بحر المواويل والأغاني النبيلة ولو "ما تيسر من قطرات عواطفهم"... إنظروا، هنا البحر بسعته وعظمته، لا تقابله ولو "قطرة عاطفة" من أرباب القسوة والغدر والكفران، ومثل هذه المقابلة شائعة بطول وعرض القصيدة، يلتمس الشاعر لهم الخلاص والعفو وهو تحت نيران الأذى، فلم يجد ما يشفع لهم من "بين حطام حرائقهم" ولو "تميمة عشق" واحدة لعلها تنسيه بعض قسوتهم، وبالرغم من ذلك لم يزل مصراً ليبتني من أجلهم مدائن آهلةً بالحب على أنقاض "حطام حرائقهم"، وهل خلًفت إلا الخرائب والأشباح، يريدهم أن "يكونوا " ويريدون له " البلى والعدم".

لستُ هنا لأشرح معاني كلمات القصيدة ولكن الأهم فيها أن الشعر المحلق هو زاد الشاعر ووسيلته في السمو الجميل والوفاء النبيل، وهو شمسٌ في وجه الظلمة، وقمرٌ في وجه العتمة، وهو أغنيةٌ سرمديةٌ تبعث الموتى من البلى، إنه الشاعر وله قلب نبي وهذا يجعله أبداً في عالم النور والوضاءة والإشراق والخلود، ولأنه يحمل بين جنبيه قلب نبي فهو يسمو بشعره إلى السموات العلى ويحاول أن ينتشل أصدقاء الغدر وأعداء القصيدة إلى تلك المقامات السرمدية وإلى "ربوةٍ ظلها دائمٌ"... ألا يشبه الشاعر بهذا المسيح الذي (طهر البشرية بالألم) حسب معتقد النصارى؟؟ ثم أليس الشاعر نبياً؟؟ (بلغة النقد الأدبي)، وانطلاقاً من هذه الأفكار كانت "نظرية البعث" ، بعث المسيح بعد صلبه بثلاثة أيام (حسب المعتقد) إعلان بشارةٍ أخرى للإنسانية ولمن اساوءا إليه وأنهم قد طهروا وكتب لهم الخلاص، يعود المسيح إليهم أكثر نظارةً وأقوى بشارةً يمد ذراعيه كنايةً عن عطاءٍ جميلٍ وحبٍ أبديٍ للبشرية، وتشرق "وردة قلب الشاعر" تمنح العطاء للأعداء والأصدقاء من غير مقابل..، يقول الشاعر المقرمي مخاطباً صديقه الشاعر:

أعدْ ما بدأتَ .. فللقلبِ حينَ يئنُّ

عناقيدُهُ المثقلاتُ.. وللروح حين يداهمها

اليأسُ متّسعٌ من عروجٍ إلى سدرة المشتهى

حيثُ يشتعلُ الشعرُ في صرحهِ الأزليّ، وتشدو

عرائسهُ للألى خرجوا من رماد الخوالي.. وجاءوا

إلى خيمة نسجتها السماء لكل الذين سموا في

فضاء الحقيقة متّشحين قصائدهم رغم هذا

الدخانِ... وهذا السكونِ.. وهذا الزمانِ الأصم

سلام عليكَ... وقد خبّأ الشعر في

  مقلتيكَ

شجونَ الفصولِ، ولمْلمَ أضواءَهُ قمراً

يتلألأُ في شفتيكَ، وآواكَ حينَ تنكّركَ

الأصدقاءُ إلى ربوةٍ ظلّها دائمٌ تتعانقُ

فيها القلوبُ التي طُهّرتْ بالألمْ

وهكذا يعود الفتى السندباد (الشاعر المهداه إليه والمصلوب على خشبات قصيدة الوفاء) كعودة المسيح، يعود بأكثر من صورةٍ وضيئةٍ للإنسان الشاعر "يتلألأ في شفتيه القمر"...، يعود وقد "تعانقت القلوب التي طهرت بالألم" وهذا هو كتاب الخلاص..

النص:

تناءى بكَ الزمنُ الغجريُّ إلى وجعٍ في أقاصي

القصيدةِ تستوقدُ البوحَ في ظل مثمرةٍ من

ألمْ

وتنسجُ من ذكرياتِكَ والأصدقاءِ مواويلَ

تمضي بها الريحُ... ترجعُها الريحُ... تمضي بها..

وتعودُ بها والمسافاتُ بينكَ والأصدقاء

الذينَ منحتَهمُ وردةَ القلبِ ثم مضوا.. برزخٌ

من سأمْ

لكَ اللهُ... ما زلتَ تسألُ كلَّ الأزقّةِ

عنهم، وما زلتَ تبحثُ بينَ قصاصاتِ أمسكِ

  عما

تيسّر من قطراتِ عواطفهم، ثم تأوي إلى خيمةٍ

مزّقتْها عواصفُهم مثخناً بالوفاءِ، وهمْ

تركوك بقارعةِ الحزنِ معتصماً بنثار حروفٍ

ومحتضناً لبقايا نغمْ

ومازلتَ رغمَ المواجعِ... مازلتَ تبحثُ بين

حُطامِ حرائقهم عن تميمةِ عشقٍ تعيدُ الفتى

السندبادَ إلى مدنٍ طمرتها رياح البلى،

وطواها العدم

إلى أينَ يمضي بكَ الشعرُ في الزمنِ الغجريِّ

إذا ما تآكلَ وجهُ القصيدةِ تحتَ سنابِك

قسوتهم، واختفتْ مدنُ العشقِ عنكَ وعنْ

عاديات المساءِ فلا القلبُ يسلو هواهُ ولا

الأصدقاء الذينَ مضوا يشرقونَ فضاءً بليلِ

الندمْ

همُ

  لقّنوا القلبَ أشواكهم.. زرعوا في روابي

القصيدةِ مقبرةَ، ومضوا أصدقاءً سكرتَ بهم

زمنَ البدءِ حتى الثمالةِ، ثم مضوا بعد مطلعِ

شمسِكَ غاشيةً من ظُلمْ

أعدْ ما بدأتَ .. فللقلبِ حينَ يئنُّ

عناقيدُهُ المثقلاتُ.. وللروح حين يداهمها

اليأسُ متّسعٌ من عروجٍ إلى سدرة المشتهى

حيثُ يشتعلُ الشعرُ في صرحهِ الأزليّ، وتشدو

عرائسهُ للألى خرجوا من رماد الخوالي.. وجاءوا

إلى خيمة نسجتها السماء لكل الذين سموا في

فضاء الحقيقة متّشحين قصائدهم رغم هذا

الدخانِ... وهذا السكونِ.. وهذا الزمانِ الأصم

سلام عليكَ... وقد خبّأ الشعر في

  مقلتيكَ

شجونَ الفصولِ، ولمْلمَ أضواءَهُ قمراً

يتلألأُ في شفتيكَ، وآواكَ حينَ تنكّركَ

الأصدقاءُ إلى ربوةٍ ظلّها دائمٌ تتعانقُ

فيها القلوبُ التي طُهّرتْ بالألمْ.

*عبدالمنعم الشيباني شاعر يمني وباحث في الأدب الإنجليزي

Abdulmonim2004@yahoo.com


في الثلاثاء 21 أكتوبر-تشرين الأول 2008 04:53:54 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://m1.marebpress.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://m1.marebpress.com/articles.php?id=4327