عمار الزريقي يلج القصيدة بكراً 6
د.عبدالمنعم الشيباني
د.عبدالمنعم الشيباني

هذه هي الحلقة السادسة من مقالة نقدية بعنوان (عمار الزريقي يلج القصيدة بكراً).. فاتحة هذه القراءة، ليس شاعراً من لا يحب وليس ناقداً من لم يقل الشعر ولم يعش الحب ولا معنى لقصيدةٍ وجدانيةٍ بغير قصة حب حقيقية واقعية من تجربة صادقة تم اختبار حقيقتها مصافحةً ومراسلةً ومشافهةً ومعانقةً والا ما معنى أن يكتب الشاعر قصيدة حب..! هل يكتبها للهواء أم للغبار؟ أم "لـلعضروطة أم الصبيان؟"....

المقالة هذه- والتي سلفت- من صميم النقد العلمي الأكاديمي، وأول مبادئ هذا النقد أن النص يعكس حقيقة في الواقع أو يعبر عن قضية عاشها الشاعر أو الأديب بشكل عام وعمار الزريقي "القباني" شاعر الحب أولاً ثم السياسة ثانياً، يجمع بينهما بتلازمٍ وتوازنٍ كما كان يفعل نزار قباني لأن واقع الشاعر بيئته الإجتماعية أولاً ثم نهد حبيبته المرأة ثانياً...

النص القوي المؤثر هو الذي عاش صاحبه تجربة في الحب أو السياسة أو المجتمع وشاعرنا " نزار الزريقي" عاش الحب قصصاً وأهوالاً وغزوات ووقائع واقعية ومشاهد تاريخية وحوادث وجدانية موثقة بمداد القلب ومعمدة بنبضات الوجد ..،وهو شاعر الحب بقصائد عربية بديعة من أجمل عيون الشعر لغةً وتقاسيماً وفوق كل ذلك تجارب حقيقية في الحب ولدت نصوصاً شعرية فريدة في كلماتها ومؤثرة في موضوعاتها ومحلقة في تصويراتها، حيث لا معنى لشاعرٍ في الحب لم يحب .. وللشاعر "عمار قباني" أكثر من ولادة وأكثر من لبنى وأكثر من رقية وذات الخمار الأسودِ والأزرقِِ ...

النقد العلمي هنا- بإيجاز- التحام قوة النص بقوة التجربة وتجربة الشاعر هنا مع امرأة عاشقة رمز لها بـ (العمودية) تشاغله ليل نهار بسيارها فهي ذات السيار وذات الشفاه القرمزية واللغات السحرية، شغلته عن دراسته وأرقت مضجعه وبعثرت أوراقه، وهزت مضامين الثقافة القديمة والجديدة بالحب وتفاصيله، بلغات متنوعة ومفردات جديدة ووسائل عشق حديثة لم تعرفها سلمى ولا أميمة ولا أم أوفى ولا أم جندب من قبل ...، لغات عشق ترسلها اليه ذات السيار العمودية، تنوعت أخبارها وتعددت مدارسها ومناهجها فهي عاشقة بمفردات كلاسيكية، ومفتونة بلغات رومانسية، ومنطقية بلغة الصحافة، وموضوعية بلغة تحليل الخبر، وحديثة بإيقاعات العصر،ومع ذلك هي سلفية بفتاوي نجدية كلها حرام ولا مكان للجائز ولا المستحب ولا المشروع فيها ...

ليس شاعراً للغرام من لم يعش الغرام حقيقةً ولم يكتو بناره حرقةً وإلا فما قيمة لنص يكتبه شاعرٌ ....للهواء؟ أم ليقرأه العفاريت !! والحب عند شاعرنا ليس جسدياً فهو شاعر سامٍ يسمو بالحب طاهراً عذرياً لا يتعدى المحظور العذري ولا يجاوز " الحدود السيادية للدولة " وإلا يصبح ليس عاشقاً بل (طالب ولد)—كما يقول بنو عذرة، ومن هذه القصة نشأ ما يسمى بالحب العذري أي الحب الذي لا يصل الى المحظور فهو عذريٌ بحريةٍ تسمح بالحب في أقاليم وأقانيم واسعة وفسيحة "سوى موضع الولد من المرأة" وهكذا ينبغي أن يكون الشاعر في حبه لحبيبته المرأة، مترفعاً نزيهاً لا يطلب الجسد بل الروح أولاً ...،إنها أشواق الروح لا أشواق الجسد...

 

قصيدة عمار الزريقي "قباني" بعنوان (العمودية) من درر عيون الشعر العربي الفصيح الكلاسيكي، ما قرأنا مثله الا أشعار ابن قيس الرقيات وجميل بثينة وقيس لبنى ومجنون ليلى... حبٌ جميل بذوقٍ رفيعٍ وشعرٍ أعز وأرفع وأجمل وأنصع، يصور التجربة صادقةً والحب حقيقةً والشوق ثورةُ ساميةً ونزعةً أصيلةً..، يحبها أكثر من حب أبي فراس لنجلاء الخالدية وأشد من حب ابن زيدون لـ ولادة بنت المستكفي وأقوى من حب المتنبي لأخت سيف الدولة في حلب وأعظم من حب نزار قباني لـ بقليس وزهراء إيقبيق والدمشقية..،يدعوها الشاعر عمار –وهو المتمرد على العادات والتقاليد-أن تدنو منه أكثر وألا تترد في أن ترمي كل أوراقها وأن تشهر كل أسلحتها الخفيفة والثقيلة على عتبات الحب..يقول نزار قباني في هذا السياق :-

إرمِ أوراقكِ كاملةً وسأرضى عن أي قرارِ

بيد أن " العمودية"- حبيبة الشاعر الزريقي- ذات تعززٍ وتمنعٍ،فهي ناسكة صوفية ومتبتلة روحية، نذرت نفسها للعلم والروحيات، وهي حازمةٌ على "محاربة الإنحراف العاطفي" بين الشباب-حسب زعمها وريائها باسم التسلف والتصوف، وهي في الحقيقة- التي تحاول إخفاءها- راغبة في الحب وهي أكثر اشتياقاً للشاعر غير أنها تعانده وتخادعه وتنافقه بتمنعٍ وتذرعٍ وتكلفٍ سلفيٍ مفضوحٍ من لغة عينيها ومكالماتها الهاتفية للشاعر عبر السيار، تتمنع وتتدلل عليه عناداً وهي الراغبة، تغلف هذا التمنع بفكرها النجدي المتشدد من غير برهانٍ سوى تسترٍ كاذبٍ تغلفه بالإستقامة والتنسك، وهي من تحت الحجاب راغبة، ومن تحت الحجاب أكثر تمرداً على تكلفها المعاند ، لأن الرغبة تسكنها والشوق يعتصرها وأنى لها أن تنكر ذلك !! :-

على بُعد عاشقةٍ في الزجاج المقابل يرصدني قمرٌ

كلما رحتُ ألمحه يتوارى وراء الكتابْ

وهل قمرٌ فارغاً للقراءةِ

أو مغرماً بالتذكرِ

أو مجهداً وقته بالحسابْ ؟؟!

أم الحبُّ نرسله من وراء السطورِ

وعبر الثغورِ

ومن خلفِ ساترةٍ أو حجابْ..!

(عبد المنعم الشيباني)

ومن قصيدة للشاعر العراقي معروف الرصافي :-

مزقي يا ابنة العراقِ الحجابا

مزقي فالحياةُ تبغي انقلابا

مزقيه وأحرقيه بلاريثٍ

فقد كان حارساً كذابا

قصيدة " العمودية" للشاعر "عمار قباني" ثرية بالعاطفة تجاه المرأة المحبوبة وغنية بالبلاغة والمعاني وتجربة عاطفية ضاربة في أعماق الواقع،والقصيدة مدرسة جديدة في الحب وأنموذج جديد ومتميز في كتابة الشعر...

 

أبرز خاصية تميز هذه القصيدة عمق التعبير وحسن اختيار المفردات بما يناسب مقام قصة الحب أو العتاب للحبيبة المتمنعة، يثيرها الشاعر بنداءات شعرية عاشقة من جانبه كمحب، وتعبيرات إطراء وصفية للمحبوبة، ومفردات حسية أحياناً ليحرك ويوقظ في المحبوبة مكامن الرغبة وكسر رتابتها الجامدة، فهي قصيدة روحية في ظاهرها وحسية جسدية في حقيقتها وهذا توازن لطيف في النص :-

النص

أنا المُعَنّى بإهداء القصيد إلى

 رقيقة الطبع ذات الشأن والشرف

 ظريفةٌ ذبت في فنجان قهوتها

لم تغن عني مهاراتي ولا حرفي

 يشدني نهر عينيها ويأسرني

بناء جسمٍ بديع الخلق مؤتلف

لو أنني حين تشنقني ضفائرها

أقضي لما قلت يا بنت الكرام قفي

يا نجمةً علقتني في أصابعها

وأشعلتني بلا زيتٍ ولا سعف

ما كان عندي بعلم الحب معرفةٌ

أميرتي – هل لهذا البحر من طرف؟

من يفهم الحب؟ لكن في الحنين له

سر اشتياق جفون الأرض للنطف

تخيلي يا منى عينيّ أمسيةً 

تضمنا في ربيع الشوق والشغف

تمر فيها فصول العشق ثائرةً

وأنت كالبدر يستلقي على كتفي

أنا المعنى غبار العصر أدركني

لما تمردت عن تيارك السلفي

لا أستحي منك في تعليل مشكلتي

ولا أبالغ في التعبير عن أسفي

ما كان هاتفك السيار يزعجني

لكن حوارك في أسلوبه الصحفي

تتابعين برفقٍ طيش أسئلتي

وترقبين بطرفٍ صامتٍ جلفي

أميرتي لست أرضى أن أراك هنا

رتيبة الفكر تأبى كل مختلف

تحرري من عرى التقليد وانطلقي

ونقبي عن جديد الحب واكتشفي

فليس من منطق الإنصاف سيدتي

أن تقبلي كل ما يروى على الصحف

أو تهدري الوقت في تقويم محترفٍ

يبدو على شاشة التلفاز منحرف

رشيقةٌ أنت فالْتفّي على عنقي

ورممي في كياني كل منعطف

وهدهدي قلب ريفيٍّ بساطته

في كونه فوضوي الحلم والهدف

تدخَّلي في مشاريعي مباشرةً

وعانقي لين أطرافي ومنتصفي

تدخَّلي ليس في دستور مملكتي

وساطةٌ بين حرف اللام والألف

ولو تملَّكتِ أوراقي بكاملها

جديرةٌ أنت أن تستوطني شغفي

فأنت لو جاز لي التشبيه سيدتي

قصيدةٌ لمسها نوعٌ من الشرف

 

يتبع الحلقة القادمة

شاعر وناقديمني

a.monim@gmail.com

 
في السبت 25 ديسمبر-كانون الأول 2010 12:52:17 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://m1.marebpress.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://m1.marebpress.com/articles.php?id=8599