الذئاب وسياسة الغاب
بقلم/ د. حسن شمسان
نشر منذ: 14 سنة و 9 أشهر و 14 يوماً
الأربعاء 10 فبراير-شباط 2010 02:40 م

لا يختلف اثنان (مسلمان/ كافران) أن سبب الفساد في الأرض وراءه مطمعان: (الحرص على النفوذ والحرص على المال)؛ إذا فهي مطامع اقتصادية سلطوية بامتياز. والمتأمل في الواقع العالمي عموما والواقع الإسلامي على وجه الخصوص يتيقن من ذلك. فلم يعد هذا بخفي على الصغير والكبير والمرأة والرجل؛ بل العاقل والمجنون على السواء, لم يعد يخفى على هؤلاء جميعا أن شعوب العالم المقهورة تنزف دماءً وتتمزق أجسادها أشلاءً بسبب سياسة الغاب وتحول الرعاة في كل العالم إلى ذئاب - إلا من رحم ربي - فقد جعلهم حب التملك للمال والسلطة يفقدون المبادئ الإنسانية (أعني غير المسلمين) والمبادئ الإنسانية والإسلامية (أعني المسلمين). فلا إسلام يشفع، ولا إنسانية تدفع، وهذا يرجع إلى تغليب مصالح ذاتيه نهمة لا تشبع.

يرجع إلى تحكيم الهوى، يرجع إلى استبدال سياسة الدين، بدين السياسة، فسياسة الدين، تعني توظيف المال والملك فيما ينفع الناس، ودين السياسة، يعني تكيف مقاصد الدين بما تريده الأطماع والأهواء. بما يعني توظيف المال والسلطة لحسابات خاصة ضيقة، وليس هذا فحسب بل يتم من خلالها قوقعة الأوطان في حدود مساحات ضيقة لا تتسع سوى لأقلية سواء تمثلت في قبيلة أو حزب أو جماعة أو نظام، أصبحت حدود الوطن تقاس بفضائها مهما كان ضيقا.

وهذه المقاصد والأهواء من أكبر دواعي فصل الدين عن السياسة، أو تطويعه بما يتماشى مع السياسة بالاستعانة بعلماء السياسة وقد كان الأصل أن تطّوع السياسة بحسب مقاصد الدين، ولا أقول تطوع فهي مطواعة مع مقاصد الدين لأن الدين كله جلب مصالح ودرء مفاسد ومن أهم قواعده : درء المفاسد مقدم على جلب المصالح فسياسة الدين لا تحتاج إلى ترويض. فهي تتواءم مع مصالح الناس والعباد والبلاد.

وهكذا أصبحنا نعيش في عوالم شتى؛ منها: (عالم) سياسة بدون دين، وعَالَم آخر يدعو إلى فصل السياسة عن الدين، وعوالم أخرى تسعى جاهدة إلى تطويع الدين بحسب متطلبات السياسة التي تقدم المصلحة الذاتية على المصلحة العامة، السياسة التي تختصر الوطن الإسلامي الكبير والصغير وخيراته في أفراد أو أنظمة أو جماعات؛ وما أشد أن يتقوقع الوطن لينحصر في فئة صغيرة، قد لا تتجاوز نسبتها 5% من مجموع شعوب العالم التي تعيس في هامش الوطن، وإذا ما فكرة الشعوب يوما وطالبت أن تدخل في حيز الوطن طُعنت في ولائها وفي وطنيتها لا لشيء إلا لأنها حاولت أن تتجاوز الهامش لتدخل في صلب الوطن؛ وهكذا أصبحت خيرات الأوطان ومساحاتها العريضة في حمى الأقليات في كل شعوب العالم ، ومن حاول أن يحوم حول الحمى يتهم ثم يلتهم. 

وقد كانت سياسة الدين في عصر الفاتحين والراشدين، تجعل (الراعي) يخشى على دابة لو عثرت في العراق؛ يخشى سياسة الدين ومحاسبة رب العالمين (لِمَ لَمْ تُصلح لها الطريق يا عمر) !!، والآن سياسة الغاب جعلت العراق (الدم) في شوارعه مهراق ودفاق. هذا الحاصل والفاصل بين سياستين وحالين ووضعين، راعي يخاف على بغلة أن تتعثر في طرق العراق؛ لأن الدين كان من يقود زمام السياسة ويوجه مسارها في ظل حكمه، ورعية آخرون معاصرون تمتلئ بهم طرق العراق وتسيل من دمائهم. فتلك سياسة عمر الفاروق، الذي لخصت سياسة الدين بشهادة الأعداء الوافدين (حكمت فعدلت فأمنت فنمت يا عمر). فالذي يخشى على حال بلغة أن تتعثر كيف سيكون اهتمامه بحال البشر؟.

إن سياسة الدين أمنها لم يقتصر على البشر؛ بل تجاوزت ذلك إلى باقي المخلوقات والكائنات؛ فهي من جعلت النملة الصغيرة غير المأبوه بها والتي تدهس بالأقدام تشعر بالأمن والآمان في ظل عدل الإسلام؛ قال الله تعالى – على لسانها مخاطبة بني جنسها: (حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (النمل:18) النملة فهمت عدل الإسلام، فأمنت حينما قالت (وهم لا يشعرون) فالتمست العذر لو حصل دهس لها ولبني قومها من قبل جيش سليمان فإنه سيكون من غير قصد؛ فوادي النمل والحفاظ لم يغفله الدين الإسلامي، وإلا ما الحكمة في سوق هذا الآية، ليس ثمة شك أنه ملك سليمان وشأنه بيد أن هذا لا يمنع من أن النملة نعم حتى النملة تتمتع بالعيش الكريم، في ظل سياسة الإسلام، وليس النملة وفقط. فإننا إذا ما انتقلنا من عالم الحشرات (النمل) إلى عالم الطير، فسنرى أن الطير شملته عناية وحمة الدين أيضا

ورد في المستدرك للحاكم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في سفر و مررنا بشجرة فيها فرخا حمرة فأخذناهما قال: فجاءت الحمرة إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و هي تصيح فقال النبي صلى الله عليه و سلم: من فجع هذه بفرخيها ؟ قال: فقلنا: نحن قال: فردهما. ذلك الطير فهم عدل الإسلام وسياسة الإسلام فجاء مسرعا وحصل على حقه. هل رأيتم دينا رحيما وسعت رحمته كل شيء كل شيء. وكلنا يعرف قصة ذلك الجمل عندما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكى شاكيا لها ظلم صاحبه والقصة مشهورة.

إذا لِمَ نصر على فصل السياسة عن هذا الدين العظيم ؟ وماذا تعني لنا سياسة لا يأمن فيها الإنسان على نفسه، ولا على ماله ولا على أهله، ولا تأمن فيها كل الأحياء والكائنات؟ ماذا تعني لنا سياسة ذلك الذي تولى، بمحض إرادة الشعوب وبما جنته أيديهم، (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الروم:41) متى يحصل ذلك الفساد ؟ إذا تلوى الظالمون جثموا على رقابنا: قال تعالى: (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ) (البقرة:205). وحينها نفهم دلالة قوله صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري – عندما مُرَّ عليه بجنازة: (مستريح ومستراح منه) . قالوا يا رسول الله ما المستريح والمستراح منه ؟ قال (العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا وأذاها إلى رحمة الله والعبد الفاجر يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب).

إننا عندما ندقق في آيات القرآن الكريم، ونتدبره سنعرف أن حل مشاكلنا كلها تكون في اتباع سياسة الدين، وجعل القرآن دستورنا الذي تنبثق منه منابع سياستنا، فعندما تكون السياسة منابعها متصلة بالقرآن تكون مشرقة عادلة ناصعة، وعندما تفصل عن الدين وعن الدستور الرباني يخفت بريقها فتكون سوداء مظلمة تظلم بها الشعوب فتتخبط وتعم الفوضى. فمتى يدرك بني قومي أين يكمن حل المشكلات وحلحلتها ؟ أتظنهم يدركون فينتهون عن غيهم أتظنهم يفقهون ويرجعون إلى صوابهم ؟؟.