أبشع أنواع القمار
بقلم/ محمد العلائي
نشر منذ: 13 سنة و 7 أشهر و يوم واحد
الخميس 28 إبريل-نيسان 2011 03:05 م

"أن ننتظر 30 يوم لهو خير من إزهاق روح أو سفك قطرة دم مقدسة". هكذا كتبت في صفحتي على الفيس بوك عندما كان وسائل الإعلام تتناقل خبر موافقة الرئيس على الخطة الخليجية التي تتضمن تنحيه بعد 30 يوم. وقلت يومها: سأجرؤ على الاعتقاد بأن هذا خبر سار لمكسب عظيم يستحق الاحتفاء به. فالمسألة ليست لعبة قمار حيث يقف مقامرون شجعان على طاولة روليت ويبدأون المزايدة وتقديم العروض التي تفصح عن حس المغامرة لديهم والإقدام وقوة الطباع. الساحات ليست نواد لممارسة أبشع أنواع القمار، القمار بالأرواح.

لا مجال للحديث عن الحسم الثوري، لا سلما ولا حربا. هذا إذا كان الحسم يعني خروج علي عبدالله صالح من السلطة. كم يجب أن نقول بأن للشارع في اليمن، وللفعل السلمي، وظيفة تختلف عن وظيفة الشارع في بلدان أخرى. للشارع في اليمن مهمة واحدة تتمثل في تقريب وجهات النظر واختصار المراحل. ترويض المجنون وزعزعة أركان حكمه، لكن من الصعب أن تسير الأمور في مسارات مشابهة لمسارات الثورة المصرية مثلا.

لا يمكن أن يحدث هذا في اليمن، ومن يعمل على الترويج لذلك، فهو مغفل أو مجرم، لا يدرك طبيعة الدولة اليمنية وتركيبة المجتمع اليمني ولا الكيفية التي انتهت بها التحولات التاريخية.

إخراج علي عبدالله صالح من السلطة، عن طريق الشارع وبعيدا عن أي عملية تفاوضية سياسية، مستحيل. إلا إذا كان الشارع مسنود بتواطؤ من داخل نخبة الجيش العليا المحيطة بالرئيس، والتي بمقدورها ممارسة الضغوط أو الانقلاب عليه وإجباره على مغادرة البلاد. وحتى هذا قد يبوء بالفشل، ففي اليمن هناك طريقة دائما للعثور على حلفاء من خارج صنعاء مثلما فعل الإمام البدر في ستينات القرن الفائت مع الفرق بين الحقبتين.

من يرفض التفاوض بالمطلق لا يمتلك بدائل عملية أخرى وينوء بإثم كل هذه الدماء. الذين يتحدثون عن الزحف ويدفعون بهذا الاتجاه يجازفون بتعريض حياة الناس للخطر والموت، وبالتالي يمكن اعتبارهم شركاء أساسيين في جرائم القتل، لأنهم إما جهلة بطبيعة اليمن وتركيبتها الاجتماعية وطبيعة النظام السياسي، أو أنهم مجرمون أقوياء القلب.

إن من يهلل في قرارة نفسه لسقوط شهداء، فقط لكي يحصل على نشوة إلصاق صفة السفاح بعلي عبدالله صالح، شخص غير سوي. وإذا كان اليوم يصنع من وجهه هيئة الغيور على دماء وأرواح الناس، فإنه غدا حينما يتمكن من أدوات العنف والإكراه، سيكون قاتل عديم الضمير، والتاريخ يوفر ما لا يحصى من الشواهد.

أصحاب "عقيدة الدم" لهم اليد الطولى في ما يحصل. يظن هؤلاء بان الدم هو الصمغ الذي به تتلاحم الحشود وتنمو الثورة وتنتعش الأحلام. هؤلاء يشعرون بالخمول، ونجوميتهم تصبح على المحك، إذا مضى أسبوع دون أن تراق قطرة دم.

إنهم يغامرون بتحويل الثورة إلى عملية نمطية ديناميكية تبعث على الفزع: بث مباشر لنعوش وأشلاء ودماء، ونداءات استغاثة، ومذيعين ومعلقين يحصون الشهداء والجرحى على طريقة المعلقين الرياضيين في إحصاء النقاط. يتحدثون بطريقة تنم عن احتقار همجي للحياة والناس، تبجيل للموت والشهادة.

على سبيل المثال: الليلة التي سبقت مجزرة الأربعاء كان يتردد في الساحات وفي بعض مواقع الانترنت بأن قيادات معارضة تدعو للزحف على مقرات حكومية. طرح هذا الموضوع في ساحة التغيير علنا، وقوبل بمزيج من الرفض والاستنكار والترحاب أحيانا.

مساء الأربعاء، خرجت مظاهرة كالعادة. لكن توجيهها إلى الشارع المحيط بالتلفزيون كان يعني الاحتكاك برجال في حالة ترقب واستنفار على خلفية دعوات الزحف، قتلة محترفين أعدتهم السلطة لهذا الغرض. ربما لم يكن أحد من الثوار ينوي مداهمة مقر التلفزيون، لكن البلاطجة ورجال الآمن لا يعرفون ما يضمره الآف المحتجين الغاضبين. وأعظم الحروب تنشأ عن سوء فهم في الغالب. باختصار كان الاقتراب من التلفزيون يعني سقوط قتلى.

بالطبع، لا شيء يبرر إزهاق الأرواح حتى لو اقتحموا التلفزيون، لكن هذا المنطق يمكن المحاججة به في سويسرا أو في الدنمارك مثلا، أما في بلد متخلف يعيش سكانه مع الموت والقتل بصورة شبه يومية، فالحساسية تجاه الموت والحياة لا تزال متدنية.

أستطيع أن أجزم بأن ثمة أطراف في صفوف السلطة والمعارضة تعمل بلا كلل لإفشال المساعي الخليجية، وإفشال المساعي الخليجية هو مقدمة إما لدخول البلاد في فوضى وسفك المزيد من الدماء أو لتسهيل مهمة النظام في إجهاض الثورة وتصفيتها.

الشارع اليمني ليس عائلة صغيرة تهب هبة رجل احد في وجه الطاغية. وإذا كان هناك من بلد يتطلب حالة من التوافق الدائم، وطاولات مستديرة تأسيسة، فهو اليمن. من يرفض المبادرة الخليجية بذريعة أن صالح لا يمكن أن يلتزم بها، فهو لا يعلم أن الثورة رابحة في كل الأحوال، سواء رفض صالح أو قبل بها.

ورب سائل يسأل: لكن ما معنى أن رفضها من قبل صالح أو النكث بها سيكون مكسب للثورة؟ أقول سيكون مكسب لأننا سنجرده من الغطاء الدولي ونستميل نصف العالم تقريبا (الاتحاد الأوربي أمريكا دول الخليج) إلى صف الثورة. سيجد نفسه في ورطة بلا خيارات، وبقليل من الضغط الثوري سينهار.

أما لو التزم وخرج بعد 30 يوم، فهذا نصر مجيد للثورة.

كونه مراوغ لا يعني انه يستطيع إعادة الأمور إلى ما كانت عليه قبل فبراير مهما امتلك من قوة ومن مواهب في الخداع والمكر. هذه تعهدات يقف وراءها العالم بأسره. تحركاته ستصبح مكشوفة في زمن الصورة، وألاعيبه ليست بذلك التعقيد. لقد سقط الرجل في يد الثورة إلى الأبد. لماذا لا نصدق ذلك؟

نحن نعرف أن تكتل المشترك كان على استعداد، قبل الثورة، لأن يوقع على خطة لتفكيك السلطة العائلية ولو استغرق تنفيذها سنوات. وها هم يفاوضوه الآن على شهر، والفضل يعود للحالة الثورية.

يخشى البعض من أن الحالة الثورية ستذوي وتتلاشى بعد القبول بالمبادرة الخليجية. هذا ضيق أفق مؤسف. الثورة ليست فقاعة. ثم إن علي عبدالله صالح ليس كل مشاكل اليمن، هو فقط حجر عثرة يحول بين اليمنيين وبين مواجهة تحديات مصيرية بالغة التعقيد. إزاحته عن السلطة هي الخطوة الأولى في درب طويل لثورة يجب أن لا تتوقف بعد شهر.

مشهد الستين يوم الجمعة قابل للتكرار سنة كاملة. لقد كان حشدا مهيبا يؤكد على مدى الإصرار والثقة "وضبط النفس والكرم". في المقابل بدا حشد السبعين ضئيلا ملفقا بائسا. الصمود في الساحات مع إجراءات تصعيدية محسوبة كفيل بتحقيق الغايات والأحلام النبيلة.

أعرف أن الفعل الجماهيري يقوم على اللاعقل والعاطفة المحضة، والذوبان وسط الحشود الغاضبة قد يعطل ملكات التفكير والنظرة الموضوعية للأشياء. الثورة ليست ظاهرة عمياء فوق إنسانية. لا يوجد عرف ثوري ثابت يتم إسقاطه على كل بلد بنفس المقاسات والتصاميم. الأمور تقدر طبقا لما يقتضيه الحال. ليست الثورات جلباب جاهز.