المخلَّص العظيم!
بقلم/ محمد العلائي
نشر منذ: 16 سنة و 8 أشهر و 28 يوماً
الجمعة 22 فبراير-شباط 2008 07:55 ص

كان الدكتور عبد الكريم الإرياني يمتلك ثروة سياسية منقطعة النظير. لكن الرجل (الداهية) الذي يكاد يسدل الستار على الـ74 من عمره، لم يتقشف كثيراً. فلطالما أغدق على الرئيس علي عبدالله صالح طيلة 30 عاماً، ما لذ وطاب.

على أن هذا الأخير لم يتجشأ بعد. ففي قاع جعبة الدكتور ثمة ما يمكن أن يشد من أزر الرئيس، على الأقل في أزمنة القحط السياسي المحدقة.

في 1983 ضرب زلزال طبيعي مدمر مناطق الجبال الوسطى (خصوصاً ذمار). وفي حين كان الإرياني قد ترك رئاسة الوزراء لتوه، فقد أخذ على كاهله إدارة كارثة لا تمت للسياسة بصلة: رئيس المجلس الأعلى لإعادة إعمار مناطق الزلازل.

ولسوف يتوجب على هذا التكنوقراط حاد الذكاء، مذاك، أن يتجشم المشاق في سبيل تسوية آثار زلا زل سياسية فتاكة أشد الفتك، والحؤول دون مطاولتها قصر الرئيس. ولقد أفلح الرجل أيما فلاح.

ولئن بدا الدكتور، الذي درس الكيمياء الحيوية وعلم الوراثة في الولايات المتحدة الأمريكية طيّعاً، وسهل المراس، بالنسبة إلى الرئيس، فإنه لا يبدو كذلك أبداً في نظر الخليجيين بالذات (لاسيما السعودية).

إنه لمحاور لبق في نظرهم. يتمتع بمزاج حاد وحس سياسي متيقظ على الدوام. (وإزاء هذا الأمر هناك من يؤوَّل تحجيم أدوار الإرياني بكونه إذعاناً لإملاءات سعودية).

لا ريب، الإرياني شخصية متقدة الذهن وواسعة الشهرة. بيد أنه مكتنف بالغموض، علاوة على أن حضوره غالباً لا يحمل سحراً خاصاً (كاريزما).

والقول إنه لم يفقد كاريزميته إلا منذ منتصف تسعينيات القرن الفائت، أي بعد أن عهد إليه بأمر إعادة إعمار ما رتبته حرب 94 من دمارين اقتصادي وسياسي فادحين، لا يخلو من صواب. ولا بد أن البعض يتذكر إلى أي مدى كانت كياسة الإرياني تثير الشعور بالفخر لدى غالبية الناس العاديين أواخر الثمانينيات ومطلع التسعينيات.

ما يشبه المؤكد هو أن المستشار السياسي حمال أوجه تبعاً لزوايا النظر المتفاوتة. فهو يرتبط في أذهان الاشتراكيين بأدواره الدبلوماسية الخارقة، التي حولت مجرى أحداث حرب 94 خارجياً.

وفي ذهنية الإصلاحيين هو ذلك الرجل العلماني قصير القامة، الذي لا ينفك يتناسل جرع سعرية كارثية كلما آلت إليه الأمور. أما في ذهن الرئيس فهو المخلَّص العظيم شخصياً. أو بالأحرى هو الدهاء السياسي (العلمي المكتسب) الذي يفتقر إليه الرئيس.

والحق أنها أفكار نمطية مجحفة تماماً. فضلاً عن كونها تميل إلى تجريد الرجل من إنسانيته، وبالتالي واحتجازه في بضع تصورات ذهنية غير دقيقة.

قلما يتذكر الرئيس مقولات معاونيه المعبرة في خطاباته. لكنه قبل بضع سنوات، اقتبس عبارة موحية تحض كبار السن على التورع في طلب المناصب: "رحم الله امرأً عرف قدر عمره". الملفت في الأمر أن الرئيس لم يكتف باقتباسها، كما هو المعتاد، دون ذكر مصدرها، بل أكد انتسابها إلى الدكتور عبد الكريم الإرياني، الذي كان حاضراً لحظتها على الأرجح. في تلك الفترة كان قد أشيع اعتكاف الإرياني في بيته، بعد وعكه مرضية شديدة، إلا أنه كان ما يزال أميناً للمؤتمر الشعبي العام. وهو المنصب الذي شغله منذ العام 1995.

ليس في أمثولة الإرياني تلك (لو صح انتسابها إليه) الكثير من العزاء. على العكس من ذلك، فهي تستبطن تعريضاً بالرئيس الذي لا يكبره الدكتور إلا بـ9 سنوات لا أكثر ولا أقل.

الآن الإرياني هو النائب الثاني لرئيس المؤتمر الشعبي العام. المنصب شرفي بالطبع، مثلما هو الحال مع المستشار السياسي لرئيس الجمهورية. غير أن الأمور لن تسير إلا على هذا النحو بالنسبة لأصدقاء الرئيس ومعاونيه الدهاة.

مطلع الشهر الفائت، طفا الإرياني على السطح السياسي مجدداً، عبر قضية ملتبسة بقدر ما وخطيرة: حرب صعدة. لقد سافر رفقة علي محسن الأحمر إلى الدوحة لتنشيط الوساطة القطرية، وفقاً للإعلام الحكومي.

وهنا يمكن للمرء أن يتساءل: أيشعر الرئيس أن في رأسمال الرجل الذي تولى رئاسة الوزراء أكثر من مرة في عهده، ثمة ما يستحق التعويل عليه. لا أحد يدري. إلا أن أمراً آخر ينبغي وضعه في الحسبان: الإرياني بات مقرباً من علي محسن صالح، فالشخصان (الأكاديمي البارع، والعسكري الأكثر قوة) أصبحا يتشاركان مركز منارات المستقبل للدراسات. فهل أثمرت هذه التقاربات بنود قطر؟

إذا كان كذلك، فالأمر يعني أن الرئيس لا ناقة له في اتفاق قطر (الأخير بالذات) ولا جمل. ويمكنكم الاستماع إلى اعتراضات نواب –شديدي الإخلاص للرئيس- على الكتمان الذي أحيطت به بنود الاتفاقية.

على أي حال، الإرياني اضطلع بأدوار غير عادية، كان من شأنها سد فراغات كثيرة في شخصية الرئيس.

والراجح أن الأخير لا يعرف كيف يظهر العرفان لموثوقيه. إنه يكتفي فقط بامتصاص رحيقهم حتى الثمالة، ثم يتوجب عليهم "تقدير أعمارهم" قبل أن يقدرها هو.

 * صحيفة المصدر