ابن حزم الأندلسي .. كيف تغيرت حاله من الوزارة إلى النكبات وأحرقت كتبه ؟
بقلم/ محمد مصطفى العمراني
نشر منذ: 6 أشهر و 17 يوماً
الثلاثاء 07 مايو 2024 07:44 م
  

قبل عقدين من الزمان كان قد مضى على بدء طلبي للعلم عدة سنوات ، وأتذكر حينها أنني زرت أحد طلبة العلم ولشدة حبي للكتب وشغفي بالقراءة بقيت اتصفح عناوين مكتبته فوجدت كتاب " طوق الحمام في الألفة والألاف " للفقيه الظاهري ابن حزم الأندلسي - رحمة الله تغشاه- فنزعته من بين الكتب وبدأت أقرأ فيه ، وحينها أصيب هذا الطالب - وقد كان من المتقدمين علي بمراحل - بخجل شديد وأحرج وأسود وجهه ، وجعل يسوق لي مبررات عديدة لوجود هذا الكتاب " المشبوه " في مكتبته.! 

 

كنت كأنني ألقيت القبض عليه وهو متلبس بحيازة أفلام مخلة بالآداب ، وحين أدركت مدى خجله أعدت الكتاب وغيرت مجرى الحديث تماما .! 

 

اليوم أتذكر هذه القصة الطريفة وأنا أقرأ في كتاب " الإعلام بأعلام الإسلام " للشيخ محمد أبو زهرة - رحمة الله تغشاه - ، وهو من أجمل كتبه برأيي ، وقد كتبت عنه في فترة سابقة مقالا مطولا لمن شاء أن يرجع إليه .

لقد كان العلامة ابن حزم آية من آيات الله في الحفظ وتوقد الذهن ، وحدة الذكاء ، والقدرة على النقاش والجدال ، وقد تميزت مؤلفانه بلغة جزلة فخمة وبأسلوب رائع حيث جمع بين حجة العالم وإشراقة الأديب ، جمع فأوعى ، وأوتي قدرة عجيبة على طلب العلم وحفظه وفهمه رغم أنه قد ولد في بيت عز فقد كان أبوه وزيرا لبعض حكام الاندلس من الأمويين.

ورغم أنه نشأ بين الجواري الحسان اللواتي علمنه القرآن الكريم والأدب والشعر ، وهو يعترف لهن بهذا الفضل يقول : ( ولقد شاهدت النساء، وعلمت أسرارهن ، ما لا يكاد يعلمه غيري ، لأني ربيت في حجورهن ونشأت بين أيديهن، ولم أعرف غيرهم. فلم أزل باحثا عن أخبارهن، كاشفا عن أسرارهن، وكن قد أنسن مني بكتمان ، فكن يطلعنني على غوامض أمورهن ، ولولا أن أكون منبها على عورات يستعاذ بالله منها لأوردت من تنبههن في السر ، ومكرهن في، عجائب تذهل الألباب) .

 

وقد تولى الوزارة لثلاث مرات آخرها أيام هشام المؤيد بالله فيما بين سنتي (418-422) هجرية .

ثم تغير الحال مع بدء عهد ملوك الطوائف الذين نقموا عليه وعلى أسرته .

 

وقد حباه الله بقدرة استثنائية على الكتابة فألف 400 مجلد ، وهي مؤلفات ضخمة لم يسبق إلى مثلها فيما أعلم فقد قضى ابن حزم حياته كلها في الدراسة والتدريس والتأليف ، ونهض بعلوم جمة وفنون كثيرة ، واتفق أهل العلم على كثرة تآليفه وتفرده ، الا أن التعصب المذهبي من العلماء الذين سلقهم بلسانه الحاد ، ونقده اللاذع للمذهب المالكي وللإمام مالك إمام المذهب ، وكذلك نقمة الأمراء عليه لموالاته لبني أمية في الأندلس ، كما حمل على ملوك الطوائف حملة شعواء واتهمهم بالاستهتار بالدين والعقيدة فكرهوه وحرصوا على إبعاده عن أراضيهم ، ونفيه من مكان لآخر ، واستغلوا التعصب المذهبي من المالكية ضده ، فحرضوا عليه الجهلة والعوام ، كل هذه العوامل قد أدت إلى أن أمر المعتضد بالله بن عباد حاكم إشبيلية بإحراق مؤلفات ابن حزم فقال أبياته الشعرية الشهيرة: 

 

وإن تحرقوا القرطاس لا تحرقوا الذي 

تضمنه القرطاس بل هو في صدري 

يسير معي حيث استقلت ركائبي 

وينزل إذ أنزل ويدفن في قبري 

 

◾- أسباب حدة لسان ابن حزم: 

 

وقد قليل : ( لسان ابن حزم وسيف الحجاج شقيقان) فكان ابن حزم لا يترك خصومه من العلماء بل يذهب إليهم ويناقشهم ويناظرهم ، فكان يقسو على مخالفيه ويشنع عليهم ، وقد يتهمهم بالفسق والفجور والخروج من الدين في بعض الأحيان.! 

ولكن لماذا هذه القسوة الشديدة وهو من هو في العلم ؟! 

ولماذا هذه الحدة التي زادت عن الحد ؟! 

 

يعزو البعض ممن كتبوا عن ابن حزم هذه الحدة إلى ما أصاب أسرة ابن حزم من نكبات بعد نهاية عهد المنصور بن أبي عامر المعافري ، وبدء عهد ملوك الطوائف حيث تقسمت الأندلس الى 23 مملكة صغيرة كما عزل والده من منصبه وامتحن بالاعتقال والتشريد ونهبت دورهم وصودرت ممتلكاتهم ، يقول ابن حزم : ( شغلنا بعد قيام أمير المؤمنين هشام المؤيد بالنكبات ، وباعتداء أرباب دولته ، وامتحنا بالاعتقال والتغريب والاغرام الفادح والاستتار ، وارزمت الفتنة ، وألقت باعها ، وعمت الناس وخصتنا، إلى أن توفي أبي الوزير - رحمه الله- ونحن في هذه الأحوال بعد العصر لليلتين بقيتا من ذي القعدة عام اثنتين وأربعمائة ) .

وقد استمرت هذه الشدة ولم تنقطع وعمر ابن حزم حينها 18 عاما ، فقام بتحمل المسؤولية ، وتتابعت الشدائد حتى أخرجوا من قرطبة وقد كان لهم فيها الدور والقصور ، وعن ذلك يقول ابن حزم : ( وضرب الدهر ضرباته ، وأجلينا عن منازلنا ، وتغلب علينا جند البربر ، فخرجت عن قرطبة أول المحرم عام أربعة وأربعمائة ) .

وقد تنقل بعد ذلك بين مدن شتى من المرية إلى بلنسية إلى قرطبة مرة أخرى ثم إلى شاطبة ثم القيروان في تونس ثم عاد مرة أخرى وفي النهاية استقر في بلدة 

 

والحقيقة أن هذه النكبات لم تكن سبب حدة ابن حزم ، لقد روى بنفسه أسباب هذه الحدة والقسوة في طرحه ونقده لمخالفيه ، يقول في " طوق الحمامة " وفي رسالته الشهيرة " مداواة النفوس " أنه لم تنشأ معه هذه الحدة كطبع فيه منذ طفولته ، فقد كان هادئ النفس ، مشرق القلب ، لين الطبع ولكن بعد أن نزلت النكبات بأسرته أعترته الحدة لمرض أصابه فتبدل حاله وتغير طبعه ، يقول: ( لقد اصابتني علة شديدة ولدت في ربوا في الطحال شديدا ، فولد ذلك علي من الضجر، وضيق الحال ، وقلة الصبر والنزق أمرا حاشت نفسي فيه . إذا فكرت تبدل خلقي ، واشتد عجبي من مفارقتي لطبعي، وصح عندي أن الطحال موضع الفرح ، وإذا فسد تولد ضده) . 

 

يقول الشيخ محمد أبو زهرة في تعليقه على حديث ابن حزم ( هذا تحليل عميق لنفسه ، ولو أنه بين لنا التاريخ الذي أصيب فيه بهذه العلة لعلمنا من أي وقت ابتدأت حدته ، ولكنا نعلم أنه قضى أكثر شبابه وهو لم يصب بهذه العلة ، لأن رسالته " طوق الحمامة " تدل على نفس مشرقة هادئة راضية محبة للحياة ، وأنه يثبت من ثنايا هذه الرسالة أنه كتبها بعد أن تجاوز الثالثة والثلاثين ، بل ربما كانت كتابتها وهو في حدود الأربعين ، فالحدة جاءت وهو في حدود الأربعين ، وفي هذه المدة أنتج أكثر كتبه الإسلامية والتاريخية ، مثل كتاب " الفصل في الملل والنحل " ومثل كتاب " الإحكام في أصول الأحكام " و " المدونة الإسلامية الكبرى " ، وفي " المحلى " الذي يعتبر أعظم كتاب جامع لفقه السنة والآثار .والعنف في القول باد فيهما جميعا ، ولو ابعدت منها حدة القول ، بل الشتائم لكانت نورا مشرقا ). انتهى كلام أبو زهرة.

 

📚 - إمام كبير وجهود علمية عظيمة :  

 

وأقول : لقد كانت هذه الحدة هي ما يؤخذ عليه هذا الإمام الكبير ، وهي لمرض خارج عن ارادته. 

وهو ليس بمعصوم وقد قدم للأمة كل هذه الجهود العلمية العظيمة ، أما غير الفقهاء وطلبة العلم فيكفيهم كتابه " طوق الحمامة " فهو يغوص فيه في أعماق النفس البشرية حين كتب عن الحب وحلل أسبابه وأنواعه وبواعثه ودرجاته ، كل هذا وهو يورد القصص والأشعار ، ويحدث عمن يثق بهم ، ويذكر الكثير من القصص ويمتنع عن ذكر أصحابها سترا لهم ، ويسجل ما عاشه هو من تجارب ووقائع ، حتى لقد أعترف أنه كان يحب بعض الجواري وروى القصص التي عاشها في هذا الحب الذي لم يلوثه بمنكر ، يقول : ( كنت أشد الناس كلفاً وأعظمهم حباً بجارية لي ، كانت فيما خلا اسمها نعم.

 وكانت أمنية المتمني وغاية الحسن خلقاً وخلقاً وموافقة لي ، وكنت أبا عذرها ، وكنا قد تكافأنا المودة ، ففجعتني بها الأقدار واخترمتها الليالي ومر الدهر وصارت ثالثة التراب والأحجار .

 وسني حين وفاتها دون العشرين سنة، وكانت هي دوني في السن، فلقد أقمت بعدها سبعة أشهر لا أتجرد عن ثيابي ولا تفتر لي دمعة على جمود عيني وقلة إسعادها.

وعلى ذلك فوالله ما سلوت حتى الآن. ولو قبل فداء لفديتها بكل ما أملك من تالد وطارف وببعض أعضاء جسمي العزيزة علي مسارعاً طائعاً ، وما طاب لي عيش بعدها ، ولا نسيت ذكرها ، ولا أنست بسواها. ولقد عفى حي لها على كل ما قبله، وحرم ما كان بعده. ومما قلت فيها:

 

مهذبة بيضاء كالشمس إن بدت

وسائر ربات الحجال نجوم

إطار هواها القلب عن مستقره

فبعد وقوع ظل وهو يحوم

 

وحتى لا يتهم في دينه كان يقسم بالله أنه ما حل مئزره على حرام قط .

وكتابه " في مداواة النفوس " من أروع الكتب التي كتبت عن أخلاق الناس ، وفيه الكثير من القصص والخلاصات والوصايا والاستنتاجات، وهي عصارة خبرة طويلة في الحياة ، وخلاصة مشاهدات ورحلات وتجارب عديدة ، أنصح بقراءته والاستفادة منه . 

وقد كتب هذا الكتاب بعاطفة جياشة تلمس في كلماته حرارة الصدق وإخلاص النصيحة، وروعة الأسلوب وجمال اللغة وحسن العبارة وجمال الكتابة..

وبعد إحراق كتبه غادر إشبيلية إلى قريته منت ليشم في بادية لبلة غرب الأندلس إلى منزل ومزرعة كان يمتلكها ويتردد عليها، وظل بها يمارس التصنيف والتدريس حتى وافته المنية عشية يوم الأحد 28 شعبان 456 هـجرية الموافق /15 يوليو 1063م.

رحم الله ابن حزم وغفر له ونفعنا بعلمه . اللهم آمين.