ظلوم و مظلوم
بقلم/ بسام بن علي الحامد
نشر منذ: 13 سنة و 10 أشهر و يومين
الثلاثاء 25 يناير-كانون الثاني 2011 09:14 ص

مما قرأت عن حاكم تونس المخلوع :(بن علي) ؛ أنه -وبعد إطاحته بسلفه (الحبيب بورقيبه) وتوليه الرئاسة مباشرة- أمر ببث أذان الحرم من مكة المكرمة عبر التلفزة الرسمية التونسية ، وكان هذا إجراء مخادع منه باعتبار أن (بورقيبة) قد أعلن حرباً على الشريعة الإسلامية وأحكامها كاعتبار الدعارة مهنة , وتجريم تعدد الزوجات إلى آخره إلى آخره ..

فاستبشر أناس بـ(بن علي) لهذا الإجراء (وهو بث الأذان) ؛ كونه جاء بُعيد الطاغية (بورقيبة) , فبادر شيخ جليل قد عركته الحياة وخبر أساليب الطغاة قائلاً : "لا تغتروا به فهو صناعة فرنسية ولن يكون إلا كسلفه إن لم يكن أشد منه" !! فكان كما قال الشيخ الجليل . فقد جثم بن علي على قلوب التونسيين ما يقرب من ربع قرن يكرس الاستبداد ويظلم العباد ويعيث في الأرض الفساد إلى ما قبل شهر أو يزيد حينما قام الشاب المظلوم المقهور :(محمد البوعزيزي) بإضرام النار في جسده إنكاراً على من ظلمه وصفعه وصادر عربته التي تعيله وتعيل أسرته الفقيرة في مدينته (سيدي أبوزيد) ..

فانطلقت المظاهرات المطالبة بالحقوق ، والمنددة بالظلم وبلغت أوجها عندما توفي (البوعزيزي) متأثرا بجراحه فعمت المظاهرات أرجاء تونس الخضراء وأدت في أقل من شهر إلى هروب الطاغية من بلده خفية يوم الجمعة: 14ـ1ـ2011م .

- ولابد لنا من وقفات عابرة ومختصرة مع هذا الحدث الكبير :

الوقفة الأولى : يقول الذي لايزول ملكه : { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ{4} وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ{5}} سورة القصص.

وفرعون -وهو ملهم كل حاكم ظلوم- مَثَل السَوء في الحكم المطلق المستبد المستخف بالشعوب فهو القائل :{ مَآ أُرِيكُمْ إِلاَّ مَآ أَرَى وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ....} والظلمة من الحكام يقولون ذلك بألسنتهم أحياناً أو عبر أبواقهم وإعلامهم دائماً ، وفرعون القائل :{مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي} والطغاة من الحكام يقولون بلسان الحال: ما علمت لكم من حاكم غيري وفرعون بلغ ما بلغ من محاربة دين الله و الإفساد والإرهاب في الأرض , وطاغية تونس بلغ ما بلغ من محاربته للإسلام واضطهاد المحكومين والتضييق عليهم وسجنهم ونفيهم وملاحقتهم ونهب ثرواتهم وإهانة كرامتهم . فكانت نتيجة ظلم وفساد فرعون : { فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} ومضت سنة الله في الظالمين ليلقى بن علي نصيبه منها ، وهي نهاية تتكرر على الظالمين كل حين .. فهل من مدكر ؟

الوقفة الثانية : في الخطاب الأخير والشهير لـ(بن علي) الذي بدا فيه مرتبكاً ركيكاً مرتجفاً ذليلاً قال فيه مكرراً : أنا فهمتكم , لا رئاسة مدى الحياة , وأن مستشاريه لايعطوه الحقائق كاملة .. إلى آخره إلى آخره ... آلآن يا بن علي وبعد ربع قرن فهمت شعبك ؟! .. أم أنها ساعة الخوف التي تجلى فيها كل ما حاولت إخفاءه من ظلمك وتسلطك وجبروتك ؟! يقول رب العزة والجلال : { بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} ، وهي الساعة ذاتها التي ارتجف فيها فرعون فأعلن إيمانه وهو يصارع أمواج البحر فقال الله عنه : {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ {90} آَلْآَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} سورة يونس.

الوقفة الثالثة : طائرة بن علي أمست هائمة على وجهها في الجو لاتلوي على شيء .. تبحث عن مطار تنزل فيه حمولتها لكنها لم تجد ! حتى فرنسا وهي من صَنَع بن علي ودعمه وأيده , وظل هو مخلصاً لها يطبق (فرنكفونيتها) حتى آخر لحظة من حكمه مع ذلك كله لم ترض له أن يطأ أرضها لتحط الطائرة أخيراً في جدة في العربية السعودية بعد أن منت عليه بذلك واشترطت , وأعلنت أنه في حكم المستجير !! 

فرنسا تتخلى عن أصدق أصدقائها من حكام العرب و تستكثر عليه حتى أن يقضي ماتبقى له من عمر في أراضيها !! , وهكذا الغرب يستخدمون هؤلاء كعملاء لتحقيق أهدافهم وحراسة مصالحهم ثم يتخلون عنهم وهم في أشد ظروفهم قسوة , وهو عين مافُعِل مع شاه إيران -من قبلُ- الذي كان شرطياً لأمريكا في المنطقة ، فلما خُلع ظل يستجدي الدول العظمى لتؤويه فرُفِض فقبلته مصر ومات فيها ، وهذا يظهر القدر الحقيقي للحكام عند الغرب فهل من معتبر ؟!

الوقفة الرابعة : لقد قضى الله وقدر أن يبقى بن علي حياً بعد خلع شعبه له لما في ذلك من العبرة والعظة له ولغيره من الظلمة الفاسدين , فحلاوة السلطة تتحول إلى مرارة بفقدها , فلا أشد على النفس من الذل والهوان بعد العز والسلطان , بالإضافة إلى ما يلاقيه من ألم وهم وغم من التغطيات الإعلامية المستمرة ، وما تكشفه من أسرار وفضائح تشيب لهولها الولدان , فبقاؤه حياً يجعله يتجرع كل ذلك عقوبة له في الدنيا ليذوق وبال أمره وما قدمت يداه ، كما أن في ذلك درساً لكل حاكم حذا حذوه ، واقتفى أثره فظلم شعبه ونهب ثروته ، وهذا يشبه -إلى حد ما- ماقضاه الله وقدره لفرعون لما أهلكه الله بالغرق فقالت بعض بني إسرائيل : إن فرعون لايموت ! فأخرج الله جثته ليتيقنوا موته ، وهو ما قال الله عنه في كتابه :{ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً}.

الوقفة الخامسة : وهي أن الشعوب والجماهير تُعجَب بمن يقدمون التضحيات ويبرزون البطولات بغض النظر عن دين أصحابها أو جنسياتهم أو ألوانهم ، فقد أُعجب الناس من قبل بالمحارب الثائر (تشي جيفارا) , والأمريكي (مارتن لوثر) لكفاحه ضد العنصرية , ونضال (نيلسون مانديلا) في جنوب أفريقية , وأُعجِب الناس قريباً بثبات القائد البطل (صدام حسين) -رحمه الله- أمام أمريكا والفرس والرافضة , وبمناكفات (تشافيز) -رئيس فنزويلا- لأمريكا ، والقائمة تطول عبر التاريخ القديم والحديث.

وأما اليوم فلا حديث للمظلومين إلا عن مُلهِمِهِم : (محمد البوعزيزي) ؛ الذي أضرم النار في نفسه فقضى متأثراً بجراحه , لكنه فجر ثورة الكرامة في بلد أبي القاسم الشابي . ومع ما حققته الثورة في تونس من إنجازات ومكاسب ـ حتى الآن ـ فهي رفض للظلم ونصرة للمظلوم وإنكار على الظلوم , والإسلام رغب إلى ذلك أيما ترغيب ففي الحديث : [سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب و رجل قام إلى إمام جائر فأمره و نهاه فقتله[ صحيح الجامع . و] أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر [صحيح الجامع .

ولكن الإنكار الذي رغب إليه الإسلام لا بد أن تكون وسائله شرعية , ووسيلة الإنكار بالانتحار وبالحرق بالنار غير مأذون بها شرعاً لتضمنها محظورين وهما :

الأول : الانتحار وهو كبيرة من كبائر الذنوب المتوعد صاحبها بالعذاب لقول رسول الله صلى الله علي وسلم : [ من قتل نفسه بشيء في الدنيا عُذب به يوم القيامة ] رواه البخاري ومسلم ، والمحظور الثاني هو : الحرق بالنار ، وهو عذاب الله ولا يجوز التعذيب بعذاب الله لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : [وإن النار لا يعذب بها إلا الله ..] رواه البخاري ، وقوله : [ لا تعذبوا بعذاب الله ..] رواه البخاري ، وحكم المنتحر -كما هو المذهب الحق مذهب أهل السنة والجماعة - أنه لايخرج من الإسلام بكبيرته وهو تحت مشيئة الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له ، وهذا مما يجب على العلماء والدعاة التنبيه إليه والتأكيد عليه فالغاية النبيلة والمقصد السامي لايبرر الوسيلة المحظورة .

وفي الختام ..

هنيئاً لتونس زوال طاغيتها ... وهنيئاً لتونس شجاعة أبنائها

رحم الله قتلاكم وشفى جرحاكم !

وأسعد الله أوقاتكم ..

Abuhamed1000@hotmail.com