الدولة الذليلة والشعب الخنوع
بقلم/ د.فيصل الحذيفي
نشر منذ: 15 سنة و 10 أشهر و 6 أيام
السبت 17 يناير-كانون الثاني 2009 08:52 م
- 1- دأب الخطاب الإعلامي العربي بتسمية مصر بالشقيقة الكبرى ومصر أم الدنيا والعظمة، وهي تسمية خاطئة غادرت زمن تسميتها إلى زمن التقزم والذل، نعم لقد ماتت مصر الكبرى منذ أن تخلت عن دورها الريادي الإقليمي والعربي والدولي، كانت مصر كبرى يوم كانت تمتد هيبتها وأثرها خارج الحدود. - مصر محمد علي الذي شكل خطرا على الاستعمار الغربي بامتداده إلى الشام والجزيرة وتحجيم الهيمنة العثمانية على العرب وتقوية مصر العظيمة التي لا تقبل أن تكون تابعة للباب العالي. - مصر عبد الناصر كانت كبيرة يوم كان نفوذها يمتد إلى حركات التحرر وتأسيس حركة عدم الانحياز - مع تيتو ونهرو - كقوة ثالثة بعيدة عن هيمنة المعسكرين الشرقي والغربي ، يوم كان عبد الناصر يشكل أرقا وقلقا دائما يقظ مضاجع القيادات الصهيوينة والأمريكية في المنطقة، يوم كانت مصر - على قدر الصعوبات والتحديات التي تواجهها على مستوى الداخل بعد ثورة يوليو - كانت تقف رأس حربة ضد الهمجية الصهيونية وكانت زعيمة العرب والمسلمين في الدفاع عن قضاياهم العادلة، بالرغم من ضعف الجيش المصري آنذاك الذي لم يكن مزودا بالأسلحة والعلم العسكري والتقانات الحديثة التي يمتلكها اليوم، ومع ذلك قرر بكل جرأة تأميم قناة السويس، وبناء السد العالي الذي حقق لمصر أمنا في الماء وأمنا في الطاقة واستقلالية في اتخاذ القرار والسيادة على أرضها، توجه ٌحقق للمصريين قدرا عاليا في التعليم والعدالة والمساواة، برغم كل الأخطاء فقد كان عبد الناصر زعيما كبيرا لمصر الكبيرة والعظيمة. -2- - مصر السادات كانت كبيرة لأنها سعت لتأديب إسرائيل وإهانة جيش العدو وكبريائه وعملت على قيادة العرب في حرب 73 بالرغم من الدعم اللامحدود من كل الدول الغربية لإسرائيل ، مصر كانت كبيرة حتى وهي تعقد - منفردة - معاهدة خداع وهدنة حرب لاستعادة أرض سينا ولاستعادة أنفاسها وبناء قوتها واقتصادها، إنما كان السادات يتأهب في ضميره لإعادة المحاولة مرة أخرى إلى ميدان الصراع ، إن السادات لو طال به العمر لفرض على إسرائيل حلا عادلا للقضية الفلسطينية مقابل إبقائه على معاهدة السلام معها، لم يكن السادات صغيرا ولا عميلا، بل كان كبيرا لمصر الكبيرة. لم يكن يحمل همَّ تملك السلطة وتوريثها لأهله وأسرته ، بل عين مبارك وهو من عامة الجند نائبا له وهو ربما خطاه الاستراتيجي الوحيد الذي تدفع مصر والعرب بما فيهم الفلسطينيون الثمن. -3- - مصر حسني مبارك استقالت من دور الزعامة والدور الريادي، وتحولت إلى دولة صغرى ذليلة لا تقوى على معارضة دولة إسرائيل اللقيطة التي لا يتجاوز عدد سكانها سكان المقابر في القاهرة، تجاوزتها كل الدول الصغيرة والهامشية ، تجاوزتها قطر في العظمة الريادية الإعلامية والعلاقات العربية- العربية، تجاوزتها سوريا في الدور المقاوم والدور الفني والدرامي الهادف، تجاوزتها الإمارات العربية في الدور الإداري والاقتصادي والتنمية المعرفية والاقتصاد العابر للقارات عبر المنطقة الحرة في دبي والمنطقة الصناعية في جبل علي ، تجاوزتها لبنان في الديمقراطية والتعايش والإنتاج الثقافي والمعرفي بنشر الكتب والترجمة ، تجاوزتها الكويت في المشاركة السياسية واستقلال المؤسسات الدستورية ، تجاوزتها تونس في التنمية والإدارة والتعليم والرياضة، تجاوزتها المغرب في النظام الدستوري والمشاركة السياسية المفتوحة والتعددية الحزبية وفي السياحة الراقية والعقل الفلسفي والإنتاج الفكري وعلماء المعرفة والدخول في المنافسة الثقافية للدار البيضاء في مجال النشر بلغات عالمية متعددة. مصر أصبحت الدولة الصغرى الذليلة أمام نفسها وأمام محبيها وأمام العالم، هي باختصار الدولة الشنيقة الصغرى، شنقها حسني مبارك باختياراته السياسية البرجماتية الساعية لـتأسيس سلطة التوريث على النهج السوري للأسف ، وبدلا من أن تكون موضع تجديد وموضع ريادة يحتذى بها، أصبحت دولة منحدرة تقلد الدول الأدنى منها، إذا: مصر التي كانت كبرى صارت تقلد الصغار في التوريث السياسي ، ماذا قدمت مصر الصغرى تحت حكم حسني مبارك غير الذل والهوان والتقزم ، وبث الكراهية في نفوس الناس لها واحتقار سياستها واحتقار حكامها وإذلال شعبها، وتجاهل تاريخها وعظمتها ؟... لقد خلقت مصر حسني مبارك بصغرها شعبا صغيرا خانعا يبلغ سكانه أكثر من سبعين مليون نسمة وفعلهم لا يتجاوز سرية عسكرية تغلق الشارع وتمنعهم من التحرك والتبول، إن المظاهرات التي تخرج في شوارع المدن المصرية بالمآت أو الآلاف على جانبي الشارع وعدد الجند أكبر من المتظاهرين من عساهم يمثلون غير النخبة الحرة الواعية، نخبة من المثقفين المتمردين والمستعصيين على العبودية والاستبداد وهم قليل ؟. خلقت شخصية مبارك شعبا مسخا وقزما بالرغم من تضخم الوطنية الزائفة لدى المجتمع المصري إنها وطنية أكذوبة لخلق عصبية الالتفاف حول السلطة الذليلة باعتبارها هي الوطن، إن مصر أصبحت دولة صغرى بكل المقاييس عندما أصبحت ضيعة وعزبة لبقايا عمدة من التاريخ الإقطاعي يتحكم بها. مصر العظيمة التي أنجبت عمالقة من العلماء والأدباء والمفكرين والمسرحيين وعلماء الدين ورجال الإصلاح انزاحت جانبا لتتقدم عليها أصغر دول العالم وأقلها حداثة في التاريخ الإنساني المعاصر ، ماليزيا ، تايوان ، سنغافورة ، كوريا الجنوبية ، وعلى مرمى حجر منها دولة الكيان الصهيوني، ومعظم دول أمريكا اللاتينية ، لقد كانت كل هذه الدول في حكم العدم لأنها لم تولد بعد مقارنة بمصر التي يتجاوز عمرها سبعة ألف سنة، وعندما ظهرت هذه الدول الناشئة في التاريخ المعاصر رسمت لنفسها طريقا جديدا للعظمة والصدارة، صارت عظيمة وذات أثر فعال على الساحة العالمية علميا واقتصاديا وسياسيا، يكفي أن نعلم أن أي من الجامعات المصرية لم يدخل ضمن الخمسمائة جامعة في العالم ذات الجودة والاعتماد الأكاديمي بينما دخلت جامعتين ماليزيتين، وجامعتين عبريتين لدولة اليهود المستحدثة في عام 1948 وهي في ظل حرب وعدم استقرار وصراع وجود وشعب لقيط لا يتجاوز ستة مليون وجغرافيا محدودة هي موضع تنازع. -4- إن مصر العظيمة بيدها الشيء الكثير لتعمله في دعم القضية الفلسطينية، إن مصر لو لوحت باستخدام القوة بجدية لتوقفت إسرائيل عن الاعتداء في الحال، لكن حسني مبارك باع نفسه لليهود والأمريكان مقابل دعمه في البقاء حاكما وتوريث ابنه من بعده ، وهنا تبرز تجليات الشعب الخنوع، إن مصر ليس مطلوب منها اليوم أن تلوح باستعمال القوة أو أن تحارب في ساحة القتال مع الفلسطينيين، المطلوب منها أن تسمح بدخول الدعم العربي والإسلامي بجميع أنواعه للفلسطينيين دون تحفظ، وهم أقدر على الدفاع عن أنفسهم وتحرير أرضهم، إن إسرائيل تدخل إليها المعونات العسكرية الأمريكية والأوروبية تستقبل جميع أنواع الدعم ، ومصر الدولة الذليلة الصغرى تعترض على دخول أقل من هذه المعونات بما في ذلك المعونات المدنية لإخواننا الفلسطينيين، المطلوب منها أن تقوي موقعها في دعم الفلسطينيين ليكونوا رأس حربة بيدها لحماية أمنها من إسرائيل العدوانية، كما تفعل إيران بدعم كل من سوريا ولبنان حزب الله وحماس وحركات المقاومة الجهادية في الأراضي المحتلة في فلسطين. إننا ننتظر من مصر العظيمة سياسة ميكافيلية تضمن لها وللعرب ولدورها التاريخي شيئا من بقايا كرامة، لا بأس عليها أن تصبح محايدة مقابل أن تغض الطرف عما يدخل للفلسطينيين من معبر رفح باعتبار هذا المعبر يخص سيادتها وأمنها القومي التي تهدده إسرائيل وليس المقاومة الفلسطينية ، لكن أن تصبح حارسا أمينا على مصالح إسرائيل وتقف علنا وبكل وقاحة ضد صاحب الحق والأخ والجار والمسلم الفلسطيني في خندق العدو والغاصب المحتل ، تصريحات مبارك وتصريحات وزير خارجيته والناطق باسم الحكومة والصحف المصرية التابعة للحكومة والفضائيات الرسمية خطابها كله مستفز، سياسة عمدية تخرج مصر من قلوب الناس والمحبين والذين يراهنون عليها في قيادة الأمة العربية الإسلامية. إن مصر اليوم دولة ً واقتصادا ومؤسسات وصناعات وجيش دولة قوية إلى الحد الذي تستطيع أن تفرض حضورها في صياغة سياسة المنطقة كلها برمتها وبالتالي أن تسهم في سياسة العالم ، ولكنها أرادت بقرار من حسني مبارك لتغادر دورها العظيم إلى الدور الحقير الذي يقتنع بالنخاسة والسمسرة على العرب والمسلمين ، لقد فهمتها حكومة تركيا والتقطت الدور الكبير من مصر الشنيقة الصغرى ، لقد ترجل العرب عن أي دور تاريخي من المسرح السياسي الإقليمي والدولي ، والتقطت الدولتان غير العربيتين في المنطقة وهما تركيا السنية الأعجمية ، وإيران الشيعية الأعجمية أيضا ، واللتان يحسب لهما ألف حساب ولا يستطع المجتمع الدولي فعل أي شيء بل يترجى أحداها ويلوح بالتهديد للأخرى لأنه أعجز من ابتلاعهما ، وعلى رأسهما قيادات عظيمة ، كم كان خطاب تركيا وإيران معبرا عن الإرادة والاستقلال والسيادة ، وكم كان الخطاب العربي معبرا عن التبعية والذل والخنوع والهوان والعجز بكل صنوفه وأشكاله ، وكأن الحكام العرب قد ورطتهم إسرائيل في قضايا مشينة ومثبتة بالصوت والصورة وتذلهم فيه بما في ذلك الشذوذ بجميع صنوفه. نخشى أن يعتدى على مصر يوما ما فلا تجد لها نصيرا وستفعلها إسرائيل والأيام بيننا. من حق مصر أن تبدي شروطها لكل العرب بالدعم المالي الفوري والسخي لها كما فعلوا مع صدام حسين عندما حارب إيران بالنيابة عنهم – خاصة عرب الخليج – وعلى الدول العربية مساندتها والتجاوب معها دون تلكؤ ، إذ لا يعقل أن نطلب من مصر أيضا أن تتبنى موقفا ايجابيا لتتولى تبني القضية وحدها بالنيابة عن بقية العرب الذين سيبقون على الحياد وربما يصبحوا وسطاء غير محايدين ضد مصر كما يفعلون الآن ضد الفلسطينيين، وأنا أدعو حاكم مصر أن يعلن تخوفه واشتراطه علنا للجميع ليظهر بجلاء من هو المتخاذل، لا ندري بالضبط ما هو دور دول النفط الخليجية التي تزداد علاقتها حميمية علنا وسرا مع الأمريكان والإسرائليين كلما اشتد الضغط على الفلسطينيين ، كيف تتبنى السعودية وتمول قناة العربية ومجموعتها لمعادة العرب والمسلمين وعلى رأس القضايا قضية فلسطين ، كيف توعز السلطة السعودية لعلمائها وقضاتها الأكثر جهلا بين البشر بأن يصدروا الفتاوى بأن مناصر الفلسطينيين يلهو عن ذكر الله ، ألم يكن اجتماع الناس خمس مرات في اليوم للصلاة، وكل أسبوع للجمعة، ويوم الحج هو نوع من التظاهر الديني ، ألم يكن انتقال الدعوة الإسلامية من السر إلى العلن خرجت بتظاهرة علنية يقودها عمر بن الخطاب وحمزة بن عبد المطلب حين خرجوا على رأس أربعين رجلا متظاهرين بجهر الدعوة وتحدي الباطل، ما هو دور السعودية التي تدعي أن دستورها القرآن ، وهل القرآن التي لديها يأمر بالصمت وخذلان المسلمين والتخلي عن نصرتهم، إنها تسخر مليارات من الدولارات للدعوة الوهابية التي تعلي من شأن الحاكم وعدم الخروج عليه هذا هو معنى الإسلام السعودي الرسمي ، أكبر دولة عربية لها ترسانة مسلحة هي السعودية بما في ذلك صواريخ بلاستية تصل إلى مدن الكيان الصهيوني ، السؤال هو لمن يشتري حكام السعودية الأعراب هذه الأسلحة – إن كانوا أعرابا ؟ ألا تعتبر إسرائيل أكبر خطر على الأمن القومي حتى من منظور علماني ، إن مصر والسعودية ترجلتا عن الدور الريادي للأمة إلى الدور الثانوي والهامشي لبلدانها، وإن هذا العدوان الغاشم على غزة سينتج نقمة اجتماعية عارمة على حكام العرب الحاليين ولن يسامحهم كل من برأسه عقل، ومع استمرار تطور الوعي فان ثورة شعبية عربية قادمة ستغير المنظومات السياسية المتهالكة حاليا ، ولن يجدوا ملجأ أو ذكرا حتى على هامش التاريخ، سينقرضون: إنهم لا يدركون ما يغلي ويعتمل في الشارع العربي الذي يتكون وينشأ من جديد في عالم تهاوت فيه الحواجز وتلاشت أدوات المنع الثقافي والمعرفي ولم يعد بوسعهم التحكم بالعقول وسلوك الأجيال. وإن غدا لناظره قريب. hodaifah@yahoo.com