أغلاط الأخلاط الفقهية
بقلم/ د. محمد معافى المهدلي
نشر منذ: 17 سنة و أسبوع و 4 أيام
الخميس 15 نوفمبر-تشرين الثاني 2007 04:54 م

مأرب برس – خاص

كثير من مآسينا ونكباتنا المعاصرة تعود في مجملها إلى تلكم الخلطات الفكرية الخاطئة والسيئة، في شتى مسارات حياتنا الإنسانية، سواء على مستوى الأفكار والنظريات أو المعالجات الخاطئة لأوضاعنا وقيمنا، حين يحلوا للبعض أن يخلط قضايا السياسة بالعقيدة، ومسائل العقيدة بالسياسة، أو يخلط البعض الآخر الأحكام الشرعية بالرؤى الفكرية، أو خلط الاجتهادات الشخصية بالأحكام الشرعية ..وهلم جرا .

ففي الوقت الذي ضلّ فيه العلمانيون بزعمهم أن لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين، يخطئ إسلاميون آخرون حين يجعلون من قضايا السياسة قضايا عقدية، فيما السياسة من المعلوم أنها تقوم في تفريعاتها على الاجتهاد البشري، وفي أصولها العامة على الشريعة، وبالتالي فربط السياسة بالعقيدة ربط غير صحيح، لاختلاف صورتي السياسة والعقيدة، إذ العقيدة لا مجال فيها للاجتهاد البشري، وإنما تتلقى من الوحي المعصوم من لدن حكيم خبير، فيما السياسة الشرعية تقوم على الاجتهاد البشري، المحتمل للتقويم والتعديل والتصويب .

 ومثاله أيضاً:

خلط البعض بين مسألة عدم تحديد فترة زمنية للحاكم، كرؤية اجتهادية بشرية، بالشريعة، التي لا نجد فيها نصاً شرعياً ملزماً أو حتى غير ملزم بتأبيد الحاكم، أياً كان صلاحه ودينه، فمن الخطأ أن يرى البعض بأن تحديد مدة زمنية معينة لولاية الحاكم أمر غير جائز، وحرام، ويناقض الشريعة!! .

هذا الخلط أمر غير رشيد ولا حكيم، ذلك أن البشرية قد تواضعت على هذا المبدأ السياسي، أعني مبدأ تحديد ولاية الحاكم بفترة زمنية محددة، منعاً للاستبداد والظلم، وهذا القدر والمعنى لا يعارض الشريعة السمحة، القائمة على مراعاة المصالح ودرء المفاسد، ويشتد الإنكار أن يجعل البعض ولاية الحاكم مدى الحياة أمراً شرعياً لا غبار عليه، أو من مسائل الديانة السمحة، فيما المسألة سياسية صرفة راجعة إلى الأمة وظروفها وأحوالها وأوضاعها، حيث لا نص في المسألة يلزم الأمة بتأبيد الحكم بيد شخص إلى أن يتوفاه الله، أياً كان هذا الشخص، لأن الأصل في العقود التراضي بين الطرفين، ومثل هذا كثير في أبواب السياسة الشرعية .

مثال آخر لما نعانيه في واقعنا الإسلامي من خلطات فكرية خاطئة عكّرت علينا صفو الحياة وجمالها، اعتبار مسائل الفروع الفقهية من مسائل العقيدة، كمسألة المسح على الخفين، ورؤية النبي محمد صلى الله عليه وسلم لربه عز وجل في ليلة الإسراء والمعراج، والعمامة...حيث يعتبر البعض أن كل مسائل الدين صغرت أم كبرت من مسائل العقيدة، ولا يخفى على العاقل ما في هذا القول من مجافاة للشريعة السمحة ولصاحبها صلى الله عليه وسلم، وللأمة المحمدية التي خصها الله عز وجل بالوسطية والاعتدال .

إن هذا الخلط المغلوط بين مسائل الفروع الفقهية ومسائل العقيدة، جرّ أقواماً إلى تكفير أنفسهم ومجتمعهم، أو إلى التبديع والتضليل، وأودى بالكثير إلى العزلة الاجتماعية والنفسية والفكرية، وجنى على أصحابه كثيراً من الويلات والنكبات، ما كانت لتصيبهم لو أنهم وسعهم ما وسع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وسائر الصحابة الكرام، رضوان الله تعالى عليهم .

ولا يمنع هذا من الإشارة إلى الأكمل والأصلح والأقرب للسنة، وتعلم ذلك وتعليمه، لكن بقدره وحجمه الطبيعي، فقد جعل الله لكل شيء قدراً .

كذلك يخطأ بعض الساسة غير الحكماء، حين يخلطون قضايا السياسة بالعقيدة، كما تفعل الأنظمة الجائرة المستبدة، فتجدها تدندن حول مسألة طاعة ولي الأمر، وأنها من طاعة الله وطاعة رسوله... وهذا حق ندين الله عز وجل بأنه حق، لكنه حق يراد به في بعض الأحيان باطلا، وذلك من وجوه منها:

 أحدها: أنه لا معارضة بين طاعة ولي الأمر وبين مناصحته بشتى الوسائل الممكنة، كالمسيرات والاعتصامات والمهرجانات، وغيرها من الوسائل السلمية، حسب نظام كل بلد وقانونه، لأن كل هذه الأعمال داخلة في مسمى طاعة ولي الأمر، حيث تنص كل الدساتير الدولية على كفالة هذا الحق، مما يجعل هذه الحقوق ليست إسلامية فحسب، بل إنسانية، لا يختلف حولها اثنان .

الثاني: قد يخطأ الحاكم أو يرتكب بعض المخالفات الشرعية، كأي بشر غير معصوم، وربما انتقصت أو انتقضت أهليته للحكم، كأن يطرأ عليه مرض أو جنون، أو فسق أو هرم وكبر... فمن طاعة الله وطاعة رسوله أن يخلى بين هذا الحاكم وإرادة الأمة، لتختار من تريد من حكامها، ومطالبة الأمة لهذا الحاكم المنتقص أو المنتقض الأهلية بالتنحي عن الحكم، أمر مشروع لا يخالف كتاباً ولا سنة، إذا كان الأمر منضبطا ً بالضوابط الشرعية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .

وهذا ما نحسب ونظن أن ما يسمى بحركات الإسلام السياسي تنتهجه في مسيرتها، وإلى هذه اللحظة، فالإسلاميون في مصر واليمن وسوريا والمغرب والباكستان...لم نسمع عنهم تجاوزا للحدود الشرعية في الإنكار على الحاكم، ولا تزال لديهم الفتن الداخلية وشق العصا خطوطاً حمراء، لا يجوّزون تجاوزها، رغم أن أعدادهم بالملايين في بعض البلدان، ولو أرادوها فتنة لسالت الدماء أنهارا، وأحسب هذا أمراً رشيداً يحسب لحركات الإصلاح السياسي الإسلامي يشكرون عليه، وتجب الإشادة به .

ومن هنا فالنضال السياسي الرشيد لا يعارض أبداً طاعة ولي الأمر، بحال من الأحوال، ومن الخطأ والجرم الأكبر أن يخلط الفقيه بين مسائل السياسة والعقيدة، لحاجة في نفسه أو مصلحة في قلبه، قد لا تعلمها الله يعلمها .

إن الواجب على الأنظمة السياسية الإسلامية والعربية أن تنظر إلى حركات الإصلاح السياسي الإسلامي وفق هذا المنظار، أي أنها حركات سياسية غير دموية، كما يشهد لها تاريخها السياسي الطويل، وأن تعزز من دورها في المجتمع والأمة، لأن البديل لهذه الحركات السلمية، هي الحركات الدموية وجماعات العنف المسلح، كما أن وضع جميع الإسلاميين في سلة واحدة، يعد نوعاً آخر أيضا من الأغلاط والأخلاط الفكرية الجائرة والظالمة .

{وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَـؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ }النحل89 .

والحمد لله رب العالمين،،

Moafa12@hotmail.com