الحرب السودانية.. قراءة في الدوافع والتداعيات في ضوء الخارطة الاقليمية الجديدة
بقلم/ د.عمر ردمان 
نشر منذ: سنة و 7 أشهر
الخميس 27 إبريل-نيسان 2023 04:49 م
 

لا تمتلك الحرب الدائرة في السودان من العوامل الموضوعية على المستوى المحلي ما يكفي لتسويغ اندلاعها المفاجئ بين قوات الدعم السريع وقيادة الجيش السوداني منذ نحو أسبوعين، وهذا يؤكد أن لهذه الحرب ارتباطات رئيسية بالسياقات الخارجية في ظل التشكلات الجديدة في المنطقة

والتغيرات الحاصلة في المعادلة الاقليمية والدولية، ولا تعدو الخلافات السياسية بين القوى السودانية خلال الأشهر الماضية سوى قنطرة عبرت عبرها الأطراف الخارجية ذات المصلحة لإعطاء إشارة البدء وإذكاء الحرب لتحقيق مصالحها عبر أدواتها المحلية على حساب السودان أرضاً وإنساناً في المقام الأول. وفي هذا التحليل نحاول الكشف عن حقيقة دوافع ومصالح الأطراف المختلفة ومدى تأثيرات الحرب المستمرة دون أفق واضح للنهاية على أكثر من ملف في المنطقة، خصوصاً مع ابتداء الدول في إجلاء رعاياها في السودان في إشارة إلى أن تقديراتها للحرب تتجه نحو التصعيد، وأنه ما زالت هنالك مدة طويلة أمامها وربما بمستويات أكثر تعقيدا مما هي عليه الآن. اشتعال مفتعل لمواجهة سياسات التهدئات منذ مطلع العام الجاري تعاونت عدة قوى إقليمية مع سياسات التهدئة التي تنتهجها المملكة العربية السعودية في الملفات الملتهبة في محيطها على المستوى السياسي والأمني،

كتوجهاتها في ترميم العلاقات مع أغلب دول الخليج، وتعزيز العلاقات بين دول منظمة التعاون الإسلامي، وإعادة العلاقات السعودية الإيرانية، وجهود التهدئة في ملفات اليمن وسوريا، وهذه التوجهات يبدو أنها تندرج ضمن استراتيجيات جديدة تتعلق بأولوية تموضعها في المعادلة الدولية التي تتشكل على نحو مختلف وبشكل متسارع، بالإضافة إلى أولويات كل منها في الحد من استنزاف صراعاتها وتمتين اقتصادها وتطويعه لمصلحتها في التشكل الجديد الذي تشهده المنطقة، وتحقيق التوازنات التي تفرضها التغيرات الحاصلة في بنية النظام الدولي. ومع ظهور الملامح الأولية لنجاح

استراتيجية التهدئة في ملفات الشرق العربي (الخليج ومحيطه) اشتعلت الحرب في السودان على نحو مفاجئ بما يمثله من نشاز عن قاعدة التهدئة ومسارعة تبدو غير بريئة لتأجيج ملفات الصراعات في المغرب العربي المتواجدة أصلاً في محيط ملتهب، لتمثل المعادل الموضوعي القادر على إفساد طرفي المنطقة العربية معاً. وهذا يعني أن الأطراف التي تقف خلف إذكاء الصراع هي بعض القوى الدولية التي تتخادم معها أدوات وظيفية

طامحة، باعتبار كل منها أطرافا متضررة من التحالفات الجديدة، ومتضررة أيضا من تهدئة بعض الملفات في منقطة الخليج ومحيطها، ومن حضور الدور الصيني فيها. اختلال رمانة التوازن الفاصلة بين منطقتين يمثل السودان المستقر حاجزاً جغرافياً بين مناطق الصراع الافريقي وبين السواحل البحرية المحاذية للسواحل السعودية واليمنية، حيث تحاط أغلب السودان إما

بجغرافيات الصراع أو بأنظمة هشة غير قادرة على الاستقرار، ففي غربها تمثل دولة تشاد معبراً رئيساً لتسرب السلاح والمقاتلين عبر اقليم دارفور وهي دولة هشة تهددها الانقلابات العسكرية المتتالية، وفي الجنوب تعد الحدود مع افريقيا الوسطى وجنوب السودان منافذ لتصدير أدوات الفوضى والصراعات التي تعانيها، كما تمثل ليبيا في الشمال الغربي منطقة صراع متفاقمة لا تخفى انعكاساتها على جيرانها بما فيهم السودان، وفي الشرق الجنوبي تتواجد منطقة التيغراي التي لم تكد قد خرجت من حربها مع الدولة في اثيوبيا

بالإضافة إلى وجود مناطق حدودية متنازع عليها بين السودان واثيوبيا، وعلاوة على ذلك كله فإن السودان تحيط بها ثمان دول افريقية يفتقد معظمها لنظام سياسي متماسك يجمع بين القوة والديمقراطية والاستقرار والمشروعية الشعبية المساندة، وتعد هذه الحدود المفتوحة في ظل تلك المناخات ديناميات تهديد تحت تصرف الدول الغربية المهيمنة على كل من تلك الدول، وبإشعال الصراع في السودان تصبح المنطقة الملتهبة قد امتدت من عمقها الافريقي إلى البحر الأحمر، لتمثل هذه الكرة الملتهبة تهديداً جوهرياً لأمن البحر الأحمر وأمن ومصالح الدول المطلة عليه سيما تلك الممتدة على شريطه الساحلي الشرقي، وما يترتب على ذلك من لخبطة هندسة المصالح

السياسية والأمنية التي تجري على الضفة الأخرى المحاذية للضفة الافريقية. ساحة مركزية لتضارب المصالح منذ سنوات كان اهتمام العديد من القوى الدولية والاقليمية بالسودان مرتبطاً برغباتها في القفز بنفوذها من جغرافيتها القانونية إلى مكامن التأثير الاقتصادي والأمني الأوسع، ومثلت التغيرات في المعادلة الدولية التي جرت بفعل النمو التدريجي للقطب الشرقي وتأهله

لبداية المنافسة أو على الأقل لبداية التأثير في السياسات الغربية تجاه المنطقة؛ مثّل حافزاً لاشتداد وتيرة السباق بين القوى الاقليمية والدولية إلى السودان، فعلى المستوى الدولي أبرمت روسيا اتفاقية مع نظام ما بعد البشير لا تزال في طور التصديق النهائي بشأن إقامة مركز لوجستي للأسطول الحربي الروسي على الساحل السوداني بمنطقة بورتسودان وليس من المستبعد أنه يمثل ضمنياً مركزاً روسيا صينيا مشتركاً بعد تطورات العلاقة بين الطرفين، كما تحتكر مجموعة فاغنر الروسية امتيازات العمل في مناجم الذهب في الشرق في عمق مناطق قيادات قوات الدعم السريع.

أما بالنسبة لأمريكا فقد عززت هيمنتها على السودان بتوقيع السلطات الأمريكية مع حكومة اليسار السوداني (حكومة ما بعد نظام البشير) اتفاقات عسكرية واقتصادية -بما في ذلك تطبيع العلاقة مع إسرائيل- في العام 2021م، وبموجب تلك الاتفاقيات تم رفع العقوبات عن السودان والتزمت أمريكا بسداد ديون السودان للبنك الدولي والتي تقدر بنحو سبعة مليار دولار، كما التزمت بدعم القوات العسكرية بمليار ونصف دولار سنوياً.

وعلى الصعيد الاقليمي ترتبط بالسودان مصالح وعلاقات مؤثرة مع كل من مصر وتركيا وإسرائيل، حيث ترى مصر أن السودان يمثل مجالها الحيوي المؤثر في عدة ملفات استراتيجية، وتعتبر مصر أن السودان هو الامتداد الآمن بينها وبين جارتها الاثيوبية التي تهدد مصالح مصر في نهر النيل وفق وجهة النظر المصرية، وكانت القوات المصرية قد تواجدت عسكرياً لأغراض متعددة في مطار مروي وقاعدته الجوية منذ الحرب الاثيوبية الأخيرة. تركيا من جهتها كانت قد أبرمت اتفاقية مع الحكومة السودانية بشأن جزيرة سواكن السودانية في البحر الأحمر بموازاة امتلاكها قاعدة عسكرية تركية في الصومال، وهي –تركيا- ترى أهمية سواكن السودانية لاعتباراتها التاريخية حيث كانت سواكن هي عاصمة ما عُرف بإيالة الجيش العثماني في المنطقة التي تمثل اليوم جزءاً من شرق السودان وجزءاً من ارتيريا، كما أن هنالك اتفاقيات في عدة مجالات موقعة بين تركيا والسودان. إسرائيل من جهتها تمتلك علاقات استثنائية مع السودان باعتبارها الدولة العربية الرابعة بعد الامارات والبحرين والمغرب التي وقعت على تطبيع العلاقات والتعاون مع إسرائيل في عدة مجالات، حيث وقعت حكومة اليسار السوداني برعاية أمريكية على ما تسمى باتفاقية ابراهام في العام 2021م (لاحقاً استقر رئيس الحكومة "حمدوك" في أبو ظبي بعد أن قام مجلس السيادة السوداني بإزاحته من منصب رئيس الحكومة السودانية)،

وكان من اللافت في بداية الحرب الحالية دعوة أمريكا لإسرائيل لممارسة ضغوط على طرفي القتال لإيقاف التصعيد، ويرى مراقبون بأن كل من قائد قوات الدعم السريع (حميدتي) وقائد الجيش السوداني (البرهان) تربطهما علاقات مباشرة مع إسرائيل مع اختلاف مستوياتها، حيث يمثل الموساد الاسرائيلي مسار العلاقة مع حميدتي بينما تمثل الخارجية الاسرائيلية مسار العلاقة مع البرهان، وهذه العلاقة الاسرائيلية مع السودان تكتسب أهميتها باستحضار العلاقات الاسرائيلية الايجابية مع كل من اثيوبيا وارتيريا في شرق السودان. ومن اللافت أيضاً أنه قبل أسابيع من اندلاع الحرب في السودان زار مدير المخابرات المركزية الأمريكية ومسؤولين في الأمن القومي الأمريكي ليبيا، وقام رئيس جهاز المخابرات المصري عباس كامل بزيارة الخرطوم، ثم بعد ذلك قام رئيس جهاز الاستخبارات التركية هاكان فيدان بزيارة الخرطوم، ثم وصلت طائرة اسرائيلية إلى السودان في زيارة أمنية

سرية تقول بعض وسائل الاعلام الغربية بأن المسؤولين الاسرائيليين التقوا خلالها بقائد قوات الدعم السريع. في مجمل هذه العلاقات الدولية والاقليمية فإنها تمثل تقاطع المصالح بين عدة أطراف في المنطقة، وتضارب المصالح بين أطراف أخرى، ولعل قراءة الحرب السودانية من واقع علاقات طرفيها

اللذَين يقودانها بالأطراف الدولية الداعمة لها والأطراف الاقليمية الوظيفية التي تخدمها؛ يفتح آفاقاً واسعة حول معرفة مزيد من الحقائق حول أهداف الحرب والمستفيدين منها والمستهدفين منها. الخلاصة لا تبدو الحرب في السودان أنها في مراحلها الأخيرة بل ما زالت مرشحة لمزيد من التصعيد في ظل التقارب النسبي لموازين القوى بين الطرفين فيما يخص متطلبات حرب المدن الدائرة اليوم في الخرطوم وبعض المدن الرئيسية، ويؤشر إلى ذلك اجلاء كثير من الدول لرعاياها منذ تجاوز الحرب أسبوعها الأول، كما أنه من الواضح أن إشعال الحرب في السودان بما يحيطها من بؤر مشتعلة بالحروب والصراعات والانقلابات في محيطها الافريقي يعد بمثابة إذابة الحاجز الجغرافي الفاصل بين الوسط والشمال الافريقي المشتعل وبين ساحل البحر الأحمر الذي تشهد ضفته الأخرى في الجزيرة العربية سياسات إطفاء وتهدئة الصراعات؛ في مسعىً كما يبدو من قبل بعض الأطراف الدولية والأدوات الوظيفية في المنطقة المتضررة من مساعي التهدئة والتحالفات الجديدة؛ من أجل تحقيق سقف أعلى من الأهداف تتمثل في إشعال الملفات التي تم تهدئتها في المنطقة المحيطة بالخليج، وإفشال التحالفات الجديدة المتشكلة في منطقة الشرق العربي الممتدة نحو شرقها الأسيوي، أو لتحقيق أهداف في حدها الأدنى وهي الاستباق إلى منطقة الغرب العربي لتمتين التحكم الغربي فيه، وإيقاف تمدد سياسات التهدئة والتحالفات الشرقية إليه، وتحييد مصر عبر إبقائها تحت التهديد الاستراتيجي، في ظل التقاء مصالح أمريكا واسرائيل ودول أوروبية في السودان، وتضارب مصالحها مع أطراف اقليمية وعلى رأسها السعودية ومصر وتركيا، ويظل العنوان الأبرز لهذه الحرب هو صراع النفوذ الاقتصادي والأمني في منطقة القرن الافريقي والبحر الأحمر، استجابة للتغير الحاصل في معادلة النظام الدولي واستعداداً للتموضع في شكله الجديد مستقبلاً. لذلك فإن الحلول المحلية للحرب في السودان برعاية الجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي هي الطريق الأمثل التي ستوفر الكلفة الباهضة التي سيدفعها السودان ومحيطه العربي إذا تم تدويل المشكلة والحل في السودان؛ لكن تلك الطريق المثلى تتطلب أفكاراً استثنائية وشجاعة وواقعية لفرض الحلول وإنهاء الحرب السودانية وإزالة أسبابها في ضوء فهم هذه التعقيدات الاقليمية والدولية وتبعاتها الاستراتيجية على المنطقة