أنة السبيل
بقلم/ زعفران علي المهناء
نشر منذ: 16 سنة و أسبوعين و 3 أيام
الخميس 06 نوفمبر-تشرين الثاني 2008 07:15 م

مأرب برس – خاص

كان أبو بكر يعيش بين سكان ذلك الوادي القابع وسط الصحراء .وكان منزله يتوسط تلك المنازل التي ترتص على حافة الوادي بشموخ يتحدى عوامل الزمن بتناوب عجيب بين القوه والضعف. عندما غادر والده في غربة طويلة بدأت قبل سنوات ولم تنته إلى اليوم تكفلت والدته بتربيته هو وإخوته فكانوا يفلحون الأرض ويزرعونها ،بجانب الأموال التي كانت تصلهم من والدهم في بلاد المهجر، مصاحبين ذلك حرصهم على نيل الشهادات التعليمية والدينية ليحافظوا على نهج الأسرة : المشهود لها بالعلم ...وكل هذا يعود لوالدتهم التي كانت دائماً تغرس في نفوسهم علو الهمة تحت شعار تخاطبهم به كلما حسوا بفارق السنوات الطويلة لفراق والدهم بقولها : ليس المهم كم من السنوات التي ننتظر عودة والدكم بها ولكن المهم ألا تنتهي بنا سنوات الانتظار إلى سراب بقيع، لابد أن يعود والدكم ويجني ثمرة غربته فقد رحل وهو يقول لي (إني مغادر ..... أوصيك بأولادنا ...وبأرضنا ...وبنخلنا خيراَ ).. تنهد بعدها أبوبكر وصمت للحظة ثم تابع حديثه : اقتربت من سريرها وقد آلمت كلماتها قلبي لأنها مختصر حكاية صبرها على غربة والدي وتمنيت لوكانت عواطفي تسيل مع الكلام بعد أن كنت أطوقها بذراعي وأقول لها معاهداً إياها: لاتخافي ياأماه أنا ابن ذلك الوادي، وجذوري قوية وعميقة كجذور نخله العربي الأصيل، لن نخذلك أبداً كانت تسمع كلماتي وتشعر بأنها صادقة من أعماق نفس تشاطرها المشاعر ،وتوحدت معها في تحقيق الهدف ،ثم تمسك يدي وتشبك أصابعي بأصابعها وتقبلها وهي تدعو لي بالثبات .وذات يوم ونحن ننتظر دخول الشتاء مع انتهاء الخريف وتساقط الأشجار وصوت الغربان الذي يخيم على المكان كنا نتذاكر بعض الروايات اذا بأمي تطلب منا الصمت بقولها لي : اسكت برهة فإني أحس بجلبة في حظيرة الحيوانات ..ذهبنا لنتفقد الحظيرة فكان شيئاً غريباً أن تنزوي الأبقار بتلك الصورة المريبة وتصدر أصواتاً غريبة..! فأحسست أن الرعب تملك أمي وعادت إلى الخارج مرة أخرى وعيناها تجول هنا وهناك فوجدنا كلاب الحراسة تحاول الاختباء بين أكوام الحطب وهي تصدر أصواتاً كمن رأى ملك الموت وجها لوجه.. صوت منازع رفعته عاصفة غاضبة لترمي به إلى الهاوية ..!!وظللت أتتبع خطواتها وقد أدهشتني أمي وهي تستلقي أرضاَ وتضع أذنها على التراب لتسمع شيئاً أجهله تماماَ فخارت قواي وتجمدت الدماء في عروقي بعد أن شهقت أمي وهي تدعو البقية من إخوتي وتصيح: إنه السيل ...إنه السيل !.! إنه السيل.. تبادلنا النظرات أنا وإخوتي وزوجاتهم ونحن مابين مصدق ومكذب فليس هذا موعد الأمطار ونحن على بوادر الشتاء، توارت الشمس وغمرنا الظلام وابتدأت الريح تخطب وتضج تارة ،وتتصاعد من أعماق الوادي تارة أخرى ،وخالجنا شعور بأن السماء إما أكدت كلام أمي أو غضبت منه وابتدأت الأمطار تنهمر بغزارة والعواصف تٌصفر وتتسارع من أعالي الجبال نحو المنخفضات .. وظللنا من وقت إلى آخر نفتح الكوة الصغيرة وننظر نحو فضاء ملبد بالغيوم وموحش من شدة الظلمة ثم نعود إلى أماكننا لنتوحد بالنظر إلى ذلك السراج الضعيف الذي يبدد بأشعته الصفراء الضئيلة قلب الظلمة التي ملأت قلوبنا قبل المكان الذي احتوانا.

وتحت هذا الجو الثائر وفي تلك الليلة المخيفة سمعنا صوتاَ يتحدى الريح ويخترق العاصفة .. ولم نجد أنفسنا إلا وقد تدافعنا نحو الكوة الصغيرة لنصغي إلى مصدر الصوت وسمعنا صوت الصراخ مرة أخرى فأوصدت أمي النافذة ..وطلبت من أخي أن يسحب الرداء الكبير من تحت الفرش وبدأت بتمزيقه وربطته حول خصرها وطلبت من كل منا أن يأخذ قسماَ ويربطه حول خصره ليوثق بعد ذلك رباط كل واحد منا بالآخر، وبعد شد وجذب أصررت إنا على الخروج وتفقد مصدر الصوت وبقيت أمي واقفة تمسك بقوة على عتبة الباب وإخوتي يشدون بقوة الرداء الذي يربطهم بي حتى لاتأخذني الرياح أو يغمرني المطر فكنت كلما تقدمت خطوة الى الأمام صدتني الرياح وأرجعتني إلى الوراء وأنا أصرخ بأعلى صوتي : من أنت ياصاحب الصوت ....؟! فتسقطني الرياح فأقاومها وأنهض ثم أعاود الصراخ ولكن لاجدوى .... قررت أمي بأن نكف عن كل ذلك وأمرت الجميع بسحبي لنعود جميعا أدراجنا .

انتصف الليل والمطر مازال ينهمر بغزارة، والرياح بدأت تهز النوافذ والأبواب بقوة ....انتصبت أمي واقفة وهي تصيح ألم أقل لكم إنه السيل وفتحت الكوة وأصغت لدقيقة ثم عادت مؤكدة وجازمة : إنه السيل ..إنه السيل .. إنه السيل ..!!!واحتضنت ابن أخي الرضيع وقالت: لابد من مغادرة المكان فسيداهمنا السيل.. لنصعد إلى تلك الهضبة، أوثقنا رباطنا وتقدمتنا أمنا بشجاعة وهي تتمتم بأن هذا السيل قد داهمهم وهي مازالت رضيعة وبأن جدي احتضنها وهرب بها إلى تلك الهضبة، كنا نتمايل مع تموجات الريح وبدأنا نلتقي بأهل القرية على الطريق وقد غلب صوت الرياح على أصواتنا وفشلت الكشافات الضوئية في أن تخترق ذلك الضباب الكثيف المصاحب للمطر.. وتجمعنا عند الهضبة، وبدأنا أنا ووالدتي نفكر ببقية أهل القرية الذين فشلوا في الصعود الى الهضبة فأصرت على العودة لتفقدهم كإصرارى بأني لن أتركها تعود لوحدها فتولى أخي مسؤولية حماية من يكمن في الهضبة فشدت وثاقها بوثاقي وتبعتها بسرعة جازع مترقب وهي تهبط من الهضبة، فتعثرنا بشيء تحسسناه بأيدينا فهي لغة الاتصال الوحيدة في تلك الليلة الفاجعة فإذا بجسد مطروح فتقدمتٌ لأزيل الأشجار التي علق بها، وسحبته والدتي وأسندت رأسه على ركبتيها ، فوضعت يدي على صدره فشعرت بنبضات قلبه المتهاونة ،فأرخت أمي رباطها وأنا أستغيث بها ألا تفعل ذلك .. وربطت به خصر الرجل.. آمرة إياي بأن أسحب الرجل إلى الهضبة وسحبته حتى أذا مابلغت المكان ألقيت الرجل وفككت الرباط دون أن أتحقق من يكون هذا الرجل حتى عدت أدراجي وأنا أصرخ بكل صوتي من أجل أن تسمعني والدتي، ولكن الرياح كانت أقوى مني فقد قذفت بي بعيداَ وغبت عن الوعي بعد أن صرخت بلهفة و توجع .... لهفة إلى أن أصل إلى أمي فلا يصيبها مكروه وتوجع حيث إني أحسست بأن أضلاعي قد كٌسرت وبينما أنا كذلك فتحت عيني فأغمضتهما مرة أخرى فقد طلع النهار وشعرت بوالدتي وقد وضعت يديها تحت أبطي وهي تخاطب إحدى نساء قريتنا لاتخافي إنه ولدي القوي حي يرزق امسكي بأطراف ثوبه وتعالي لنعد به إلى الهضبة ..... أخذت ابنة أخي الصغيرة تبعد الطين العالق بشعري وأمي تفرك أصابعي وتنظر إلي بحنان لتعيد لي بنظراتها الدفء والقوة إلى جسمي وأنا أنصت إلى هدير السيل الذي تنبأت به والدتي وقد شعرت بشيء من القوة فاستويت جالساَ لأرى أنفسنا وقد حفتنا المياه من كل جانب بتضارب عجيب يجمع بين الرحمة والقسوة ... ومن نظرات والدتي فهمت أن الرحمة سوف تتغلب على القسوة بدليل أننا جميعاَ معاَ وماهي إلا لحظات وسمعنا صوت هدير الطائرة المروحية التي أقلتنا مع من تبقى من أهل قريتنا نحو الطرف الآخر من الوادي .