وقفات شائكة:عسكر موريتانيا وعسكر اليمن
بقلم/ صادق المولد
نشر منذ: 17 سنة و 8 أشهر و 5 أيام
السبت 17 مارس - آذار 2007 07:07 م

مأرب برس - نيويورك- خاص

وقفات شائكة:عسكر موريتانيا وعسكر اليمن وإصلاح الإصلاح ، وعواصف الترابي

بات من النادر أن أجد من الوقت ، وأحياناً من الطاقة ، ما يشجع على الجلوس إلى قلمي وأوراقي لكتابة شئ، فصرت أكتفي بمتابعة المجريات وتدوين ملاحظات صغيرة عليها للاستخدام الشخصي ، ومن ثم أطوي أوراقي حتى أجد ما يحفز – أو قل ما يستحق – الكتابة. ولذا فإذا تجرأت وكتبت ، فكثيراً ما أطرق قضية أو أكثر. وهي في نهاية الأمر وقفات سريعة ..في قضايا أجد أنها تستحق التوقف.

وقفة أولى: عسكر اليمن ..وعسكر موريتانيا

أدهشني العقيد ولد فال بحق! ولا أنكر أني ، إلى اللحظة ، لا أستطيع تفسير موقفه الطوباوي هذا! كيف أستطاع هذا الرجل – ورفاقه – كسر منظومة عسكرة الحكم والإنقلابات في بلد معدم مثل موريتانيا؟ كيف حطم طوق البؤس السياسي – بشهادة العالم – وهو الذي أفنى الأعوام الطوال في خدمة دكتاتورية ولد الطايع؟! أكتب هذا وأنا بالكاد فرغت من قراءة مقالة الأستاذ أبو بكر السقاف على نيوزيمن ، وهي مقالة لم يترك أستاذنا فيها ما يقال سوى تعليقات خفيفة ربما.

 ثم إني أسأل: لماذا عسكر موريتانيا وليس عسكر اليمن؟

لماذا إستطاع عسكر موريتانيا تجاوز الخندق الواسع في النفسية العسكرية؟ .. لماذا تحدوا المشككين وقدموا نموذجاً رائعا في الديمقراطية؟ ولماذا عجز عسكر اليمن في نصف قرن من الإنقلابات والمهاترات والفساد والعبث واللعب على الحبال والمقامرة و المغامرة – بكل شئ تقريباً - عن إدارك حاجة وطنهم إلى موقف واحد سليم منهم؟ أليست التربية العسكرية واحدة ؟ أم أن الأمر مجر فساد ذمم وإنحطاط وعي؟

الرئيس صالح بدد حلم التغيير في 24 ساعة فقط ، وعرّض بفلسفة المطالبين بالتغيير ، و وصفهم بالكهنوتيين والعملاء والخونة و..و.. ، ثم زعم أن التغيير "لايعني دائماً الأفضل" مستنداً إلى إطروحات الـ"عرقنة" و "الصوملة" و"الأفغنة" وسواها من عنعنات الترجمات المترهلة لغوياً والمستلبة فكرياً. وتجاوز الرئيس بعد ذاك المعقول وقدم نفسه كصمام الأمان الوحيد للبلد وللدولة، ولم يسأله أحد (خوفاً ربما ) عما كان يفعله في ثلاثين عاماً إذا كان البلد لايزال غير آمن وغير مستقر؟!

 من ناحية أخرى مثلت تلك التهديات - بتناقضاتها الصارخة مع تصريحاته السابقة للإنتخابات - أرضية جديدة لمشروع حكم فشل خلال ربع قرن في تأطير شرعية شعبية حقيقية له. ومع إنتهاء الإنتخابات التي أفسدت أكثر مما أصلحت ، بدا وكأن التهديدات إنتهت ، غير أنها سرعان ما بدأت تطل برأسها من جديد داخلياً وخارجياً بوتيرة أسرع.. أكثر إستفزازاً ..وأكثر تحدياً!

اليوم هناك تحد جديد أمام نظام الرئيس صالح: تحدٍ يقاوم أطروحته في رفض التغيير تحت تلك "عنعنات" ! هذا التحدي يتمثل ثمثلاً كلياً في سؤال من سطر ونصف: ماذا يمكن أن يقول الرئيس صالح وعسكر اليمن إذا نجح عسكر موريتانيا في ما عجزوا عنه: التسامي فوق المصالح الفردية و إخراج ديمقراطية حقيقية وإنتخابات شفافة ستنقذ حتماً ذلك البلد ؟.. أتمنى ألا يعودوا حينها إلى ملصق "الخصوصية" المتهرئ وتبريراته المزرية !

الرئيس صالح والنظام القائم – في جانب - خسرا فرصة ذهبية للخروج من مستنقع السلطة في سابقة كانت ستغير الكثير من واقع اليمن. محمد ولد فال والموريتانيون – في الجانب الآخر - يبدو وكأنهم يسطرون تأريخاً من ذهب. و مع أني أدرك أن من المبكر جداً الحكم على التجربة الموريتانية ، إلا أنها – مع ذلك - مبشرة جداً.

وإذا كان هناك ما يخلص إليه المرء فليس سوى حقيقة مريرة واحدة هي أنه: مرة بعد أخرى يثبت الجميع من حولنا أننا – معشر اليمنيين حكاماً ومحكومين – لا نقوى على تقديم شئياً واحداً مشرفاً لأنفسنا ..ولبلدنا.. ولمستقبل أبنائنا! وأننا نلهو بخلق خيالات ننتشي بها، ونهرب إليها كلما أستفزنا قبح واقعنا و وعار أفعالنا ، حتى إذا ما تهاوت..عضضنا عليها الأنامل غيضاً ..وندماً !

***

وقفة ثانية: إصلاح الإصلاح

لا أعرف في اليمن حزباً سياسياً (حقيقياً) أكثر تخبطاً – بعد المؤتمر الشعبي – من حزب الإصلاح. وهو ما ينبئ بكارثة حقيقية في هذا البلد ، كون هذين الحزبين هما فعلياً السلطة والسلطة البديلة ( الرمضاء والنار )!

فبداية هناك أزمة الهوية: هل حزب الإصلاح حزب ديني أم حزب سياسي؟ أم منه لا هذا ولآذاك ولا يعدو كونه حركة تربوية إجتماعية – فيها الكثير من النرجسية - وتحمل في طياتها أمل المشروع الإسلامي الكبير ، لكن بلا أهداف ولا برامج.

ثم هناك أيضاً معضلة التحدي لنوعية الهوية التي يمكن أن يحددها الإصلاح: فإذا وسم هذا الحزب نفسه بالسمة الإسلامية ، فما هو الذي هو غير إسلامي في غيره من الأحزاب؟ وإذاك كانت "إسلامية العمل والحكم" هي منطلق الحزب ، فإين كلية الإسلام فيه ، ومبادئ الولاء والبراء في حركته السياسية التي تبدو علمانية بحته (كما يبدو من تحالفاته السياسية) تحكمها المصلحة والمكسب المجرد أكثر منها حركة إسلامية (بالمعنى الشائع) قوامها الولاء والبراء.

ثم هناك أيضاً أزمة الهيكلية – والتي ترتبط إرتباطاً وثيقاً – بأزمة الهوية. فلا يبدو أن لحزب الإصلاح منطلقات وركائز ثابتة تحدد سياساته ، ولهذا فخطئه – سياسياً – أكثر من صوابه ، وتجاربه الكارثية المتكررة لا تفتأ تؤكد ذلك ،وهو الأمر الذي سيضع هذا الحزب عاجلاً أم آجلاً على محك خشن قد يؤدي إلى تفككه ، خصوصاً مع تغير المعطيات وزيادة التحديات التي يتوجب التعامل معها.

مؤتمر الإصلاح الأخير كشف عورة هذا الحزب ، وهذا رأي شخصي جداً، و وضعه جنباً إلى جنب مع حزب المؤتمر يتقاربان كثيراً في ضعف إرادة التغيير ، والاستعداد لتجاوز القوانين واللوائح وتغييرها للتناسب الأهواء ، ومن ثم غلبة مؤشرات الهيمنة والنفوذ على تمثيل القواعد الشعبية وعلى الأداء العام. اعتبرته تبرجاً أخلاقيا وصلفاً تنظيمياً – إن جاز التعبير - أن يقفز الأخوة في الإصلاح على ثوابت العمل التنظيمي بتجاهلهم للائحة داخلية تفرض التغيير. قيامهم بإعادة توزيع الأدوار والمناصب بين بعضهم من النافذين تنظيمياً ، بالإضافة إلى نوعية التفسيرات والتبريرات التي صاحبت ذلك ، أقول أن كل ذلك أظهر مقدار التماثل القائم بين هذا الحزب وحزب المؤتمر ، وهو الأمر الذي سيحد دون شك وبشكل كبير من تأثير الحزب في الوسط الشعبي، خصوصاً مع ازدياد الوعي السياسي ، وضعف ورقة الرافد الديني الذي إعتمد عليها الإصلاح طويلاً في العمل والتأثير.

ويقدح هذا التماثل الصارخ بين الإصلاح والمؤتمر - بصوره الكثيرة والمتنوعة - أيضاً في مصداقيه الأول وأمانته قدحاً لا يقبل اللبس. فتبرير الآنسي لتجاوز اللائحة الداخلية بأن "حمى التغيير لا تعني شئياً وأن الأصلاح أدرى بمصلحته " يماثل تماماً تبرير الرئيس لتراجعه عن وعده بعدم الترشح ورفض التغيير تحت دعوى "مصلحة الوطن" ، من ناحية أخرى نجد إستغباء الوعي الجمعي والتلاعب بالألفاظ من قبل عبدالله الأحمر بإعلانه أنه " لن يترشح " لكن في نفس الوقت لن يمانع في أن "يُرشح" ، وهو ما يذكر بقوة بوعد الرئيس عن "عدم الترشح" والسكوت عن مسألة " أن يُرشح" ، وأخيراً هناك فرض قائمة التمثيل وإبقاء 30 إسماً فقط للتصويت الحقيقي ( مع وجود التزكية) ، وهو ما يماثل فرض شخصيات بعينها في مؤتمر المؤتمر!!

بصدق: أليست هذه جمهورية موز جديدة ؟!

بقي بعد ذلك أن أقول: إذا كان المؤتمر يمثل السلطة ، ويمثل الإصلاح المعارضة ، فإنني الآن فقط أفهم قول الرئيس صالح أنهما وجهان لعملة واحدة. وإذا كان كان مؤتمر الإصلاح الأخير قد أثار إستياء الكثيرين كما فعلت إنتخابات المؤتمر الرئاسية ، فإن مؤتمر الإصلاح زاد أن قدم لطخاً جديداً مفاده: أن ليس للإصلاح أي حق في الحديث عن الديمقراطية ومطالبة الآخرين بالإصلاح حتى يحققهما في نفسه أولاً، ونراه نحن واقعاً في أدائه...... وبدون تبريرات !

***

وقفة ثالثة: عواصف الترابي

قدم الدكتور حسن الترابي بالأمس نقداً ذاتياً بناءً وشفافاً لحركة الإنقاذ الإسلامية الحاكمة في السودان ، إعترف فيه بأن الحركة الإسلامية دخلت السلطة بدون تجربة وبدون برامج وأن السلطة أفسدتهم وأن نسبة الفساد في مفاصل الحركة التي تحكم السودان قد وصل إلى 90 % ، و زاد أن الحركة الإسلامية في السودان قد تصالحت مع التيار الشيوعي بعد أن أسقط الأخير فكر الإلحاد ، وإلى هنا وكلامه في السياسية ولا حرج عليه فيما قال. إلا أن الدكتور الترابي قدم أثناء حديثه ذاك طرحاً (ولا أسميه فتوى) جديداً عاصفا ً مفاده أن سدرة المنتهى لا وجود لها ، و رجل مثله يعلم قطعاً بذكرها في سورة النجم ، ثم زاد القول بأن حواء لم تخلق من آدم،
 وأعرف أن هذا سيفتح جبهة جديدة على الرجل كان في أيما غنى عنها، و أنه – كالعادة - سيكفر كما كُفّر من!

 لكن كم مرة ينبغي تكفير الترابي ؟

أنا لست هنا حكماً مع أو ضد الرجل، لكنني أدعو إلى موقف عقلاني متزن منه ، وأتفق مع الأستاذ محمد مختار الشنقيطي (أحد أكثر الكتاب الإسلاميين عمقاً) في أن المشكلة هي أن الدكتور الترابي يقدم أطروحاته على عوام الناس وبدون أن يخوض في تفاصيل استنباطه لها ، على الرغم أن أكثر ما قاله الرجل وكفر فيه من قبل ليس جديداً ، فكثير منه قديم خاض فيه علماء المسلمين قديماً وحديثاً وتمتلئ به بطون الكتب ومما يعرف به أهل الاختصاص.

لذا أقول أنه لا ينبغي أن يعامل الرجل كما لو أنه تلميذ ثانوية يهذي بما لا يعرف. فهذا رجل ذو ذكاء حاد وباحث حاذق ذو إلمام مدهش بقضايا الفكر الإسلامي الذي أفنى في دراسته عمراً مديداً، وهو بعد ذلك سياسياً فذاً و قائداً رائداً من قادة العمل الإسلامي في القرن العشرين. قدم الكثير في سبيل ذلك العمل ، وأمضى من عمره 7 سنوات في السجن لا لجرم سوى عمله للإسلام .. وأشك أن يمتلك كثيرٌ ممن يكفرونه جراءته في الذود عن الإسلام ، أو الاستعداد للذهاب إلى السجن لكل تلك السنين بدون التنازل عن مبدأ أو التراجع عن موقف.

إن إعلان الوصاية على الحقيقة والحق و إقصاء الآخر و رفض الحوار لمجرد الاختلاف في الرأي لا يحل المشكلة ،ولابد على المعنيين بأمر الإسلام أن يدركوا أننا كأمة نحتاج بصدق إلى مراجعة تأريخنا ومورثنا الفكري، وكثيرة مما دون في عصور الانحطاط.

فهناك الكثير مما يحتاج إلى تنقيح حقيقي و دراسة مستبصر ومراجعة واعية حتى نستطيع أن نخرج الإسلام بجوهره النظيف من ركام التقاليد والثقافة المجتمعية المغموسة في زيت الهزائم ، و التي جمدت بدورها الإسلام ورحابته لآفاق الأرض ونتاج الفكر الإنساني على اختلاف منابته.

مرونة الإسلام تلك هي التي جعلت منه عابراً عالمياً مهذباً - وليس لاغياً - لأفكار وتقاليد وثقافات الشعوب ...وهذه هي عظمة الإسلام.

إن الكثير من المتنطعون باسم الدفاع عن الإسلام لا يعرفون من فكر الإسلام إلا الفتات. معظمهم ذوي نوايا حسنة ، تغلب عليهم الثقافة السمعية والقراءات وقراءات البسيطة، وكثير منهم لا يحسنون التفريق بين عموميات الدين والملة ، وهم بالتأكيد لا يفقهون دقائق الفروق في معاني الإنزال والتنزيل والأمر والنهي والوعظ والفريضة والتكليف و الإرادة والمشيئة والحنيفية والاستقامة والصمدية والقيومية مثلاً ، يحبون القرآن لكن يربكهم السؤال عن كيفية استقامة (الترتيل) إذا كان معناه التغني به في حين أن حيثية الآية تتحدث عن ثقل الرسالة؟ لا يعرفون كيف يفسرون وجود أية التعدد (في الزوجات) بين آيات اليتامى ، ويعجزهم سؤال عن توافق القول بأن الإسلام دين الفطرة في حين أن أركانه الخمسة هي في حقيقتها تكاليف (والتكليف فرض يخالف إرادة الفطرة كالزكاة مثلاً والتي تخالف فطرة حب المال وجمعه) ، ثم لا يجد أولئك ما يمنعهم من تكفير الناس بآية أو حديث لا يعرفون منهما إلا اللفظ .. وتهديد (قال العلماء).

أولئك يؤذون الإسلام من حيث يريدون خدمته ، يحبونه ولا يكلفون أنفسهم عناء البحث في حقيقته وعالميته ، ويكتفون بوضعه في قوالب بيئة العرب وتقاليد العرب و ثقافة العرب السائدة في صدر الإسلام من القرن السابع الميلادي ، ومن ثم أخذها على أنها هي الإسلام . هذا هو ما يقتل عالمية الإسلام المتجددة ، وهذا بالضبط هو ما يريده أعداءه.

أقول ذلك وأنا رجل من المسلمين ممن يعيشون هم الإسلام في الغرب واقعاً ، وليس تنظيراً أجوف. مسلمو الغرب يعيشون الطور المكي بكل تفاصيله تقريباً ، يتعرضون للاضطهاد والعنت والملاحقات ويتجمعون بخوف في كنتونات صغيرة ، ويحاولون – مع ذلك – استخدام مصادرهم القليلة وإمكانياتهم الضعيفة لتقديم الإسلام لمحيط لا يؤمن به ، وهذا هو الفرق بين العمل والتنظير. أنا لا أقلل من عمل العاملين في بلاد الإسلام ، لكن تقديم الإسلام لبيئة غير مسلمة (وأحياناً غير مرحبة) لمن يجهله ويخافه و لمن لديه فهم مغلوط عنه وعن أتباعه ، بالإضافة إلى مكابدة مشاق الحفاظ على الكينونة (ولا أقول الهوية) الإسلامية صقلت فينا بحق فهم الإسلام وعالميته ، وأخرجته في أذهاننا من علب الاستهلاك الجاهزة ، والتي سوقت لنا لأعوام طويلة.

الذين يعلبون الإسلام لاستهلاك العوام ( السائرون وراء كل ناعق – كما يعرفهم الإمام علي) لا يفهمون سر الإسلام. وإذا صدقت فيهم المقولة الإنجلية "من ثمارهم تعرفونهم " فليس هناك بدٌ من مراجعة للتاريخ القريب. فمع بدايات القرن العشرين حرموا الصحافة ، وأسقطوا شهادة الصحافي ، ثم انتبهوا إلى خطأهم مع ثلاثينيات القرن الماضي فحاولوا اللحاق بالركب. وتكررت المسألة مع الإذاعة والتلفاز والأناشيد والإنترنت والقنوات الفضائية. 

إنني أفهم حسن المقصد في تلك الدعاوى ، إلا أن الإسلام دين الطبيعة الفطرية القائمة على الاكتشاف والتجدد - وليس الحياة المعلبة في قوالب جاهزة للاستهلاك العام. الإسلام المعلب ليس هو الإسلام الذي أراده الله ديناً قيماً حنيفياً للعباد والحياة. فقيمتي التغير والحركة - وفق قواعد الثبات الواسعة- هما أعلى قيم حنيفية الإسلام السمحة المتماثلة مع طبيعة التجدد في هذه الحياة.

أما دعاوى التمسك بالتراث البشري (تحت مسمى السلف الصالح أو غيره ) و وضعه في مصاف القرآن في القدسية و الحجية والاستدلال ، و"نسخ" أيات الحكيم العليم بأقوال البشر فهو هزال فكري وتحد مرهق لروح الإسلام وطعنة ماضية في خاصرته ، وهو بعد ذلك عين ما حذر منه القرآن من الإتباع الأعمى وتجميد لإعمال الفكر (ركيزة التكليف) تحت دعوى التمسك بما كان عليه الآباء (السلف الصالح باعتقاد المشركين)

لقد شهد القرن العشرين تراجع و انكماش وتردد في وعي الأمة في تعاملها مع الجديد ، تحت مسمى الخوف على المقومات والمبادئ ، فماذا أغنى عنا هذا الانكماش ونحن نقف اليوم عراة أمام هذا الغزو الفكري والثقافي ولا نجد ما نواجهه به سوى الدعوة إلى العودة أكثر إلى الوراء وزيادة الانكماش والتقوقع. ثم هاهي الأمة تجرجر ورائها هزائم تتوالى من كل صنف ولون!

 إن التاريخ الحديث يضعنا أمام تجربة مؤلمة لابد من الاستفادة منها متمثلة في فكر الفوضى والدمار التي فرضهما فكر تيار التكفير والهجرة ، وعاد عنه في النصف الأخير من التسعينات فيما سمي بـفكر المراجعات. وهذه التجربة هي دليل على ما ينبغي علينا القيام به من التريث والتروي في تعاملنا مع فكر كفكر الدكتور الترابي. فالرجل ليس من الجهل حتى يرفض ما هو معلوم من الدين بالضرورة.

لذا فإقامة مؤتمر كمؤتمر العام الماضي في اليمن للرد على "ضلالات الترابي" هو عبث وطفولة فكرية لن تقدم ولن تؤخر. فالترابي هامة واحدة من هامات التجديد من رجال الفكر والعلم المسلمين الذي يدعون إلى مراجعة حثيثة للفكر والفقه الإسلامي. منهم من يلتزم التدرج وعدم الإثارة من أمثال: الدكتور القرضاوي و الدكتور رمضان و الأستاذ الموسوعي أنور الجندي والدكتور الكبيسي والمرجع آية الله محمد صادق الشيرازي ، والسيد فضل الله ، وهناك من يفضل المجاهرة على ما قد تجلبه عليهم من متاعب: منهم الدكتور الترابي والدكتور محمد شحرور والدكتور عبدالصبور شاهين و الدكتور جمال البنا والدكتور محمد عابد الجابري و الدكتور أحمد صبحي منصور .

قد نختلف معهم في أشياء وقد نتفق معهم في أخرى، وأين الضير في ذلك؟ أصحاب النبي اختلفوا..وأصحاب النبي تقاتلوا فما كفر أحد منهم أحداً. إن الاختلاف والاتفاق تحت رقعة الهدي القرآني الواسعة سنتان من سنن الحياة، ولأبأس بهما.

والبأس كل البأس أن نتعامى عما لدينا من أمراض وتناقضات تحت سياط إرهاب التكفير والانحراف فهذا سيعمق المعضلة فقط ولن يحل شيئاً ، وسيأتي من خارج ديننا من لا يخاف التكفير ليلكزنا بما في تراثنا من تناقضات فجة و فاضحة!

 وعندما يأتي أمثال هؤلاء فلن يكون حديثهم إلا تشهيراً ولمزاً وتكذيباً. 


• مدير مركز الراصد الإعلامي - نيويورك

Sadek76@gmail.com