آخر الاخبار
ايوب طارش عبسي
بقلم/ أمل اليريسي
نشر منذ: 11 سنة و 3 أشهر و 18 يوماً
الإثنين 05 أغسطس-آب 2013 12:52 ص

يخطو الفنان اليمني أيوب طارش نحو السبعين، يبدو جسده متعباً، لكن ذلك لا يمنعه من الإبتسام بمحبة في وجه من يستقبلهم في منزله بصنعاء.

بأريحية يتحدث عن طفولته في قرية المحربي مسقط رأسه، عن ذكريات بعيدة جدا عنه اليوم، لكنها أقرب ما يكون إلى قلبه، يرويها فيضحك لذكراها، تمر به في حديثه معك، مواقف لا ينساه، وأن كانت ذاكرته لا تسعفه بتواريخها المحددة إلا أنه يرويها بالتفاصيل.

كان أيوب راعياً للأغنام في قريته التابعة لعزلة الأعبوس بمحافظة تعز، رعى أغنام أهله وأغنام الآخرين بمقابل مالي، اختلطت طفولته بتحمل المسؤولية، فكل ما كان يجنيه من رعي أغنام الآخرين كان يضعه بين يدي والدته.

وكطفل في التاسعة من عمره لم يفوت فرصة قضاء الأمسيات في اللعب مع أقرانه من الأطفال،  وكانت لعبتي "ملاحقة" و"قُده" وهي من الألعاب التقليدية اليمنية المفضلتان لديه.

يتذكر أنه كان يطلق على أغنامه أسماء مختلفة، وأنه خص بإسم "صنعاء" أحبهن إليه، لكنها توفيت حين كانت تلد جديها الأول، وهو واحد من المواقف التي لا ينساها:"لا انسى جديها الصغير حينما كان يرضع منها ولا يعلم انها ماتت". يقول أيوب.

مرحلة رعيه للأغنام والتي استمرت لأكثر من أربعة أيام لم تمر مروراً عادياً، فهناك كانت بداية لأيوب مع العزف، أول آلة موسيقية اقتناه أيوب كانت ناي مصنوع من النحاس، وطالما حاول أن يحاكي الألحان التي يسمعها عبر الراديو ويعاود عزفها وحيداً أثناء الرعي.

"كل ما اتيحت لي الفرصة كنت أعزف بالناي الذي اهداني اياه زوج شقيقتي الكبرى والذي طالما شجعني على العزف على الناي".

حان موعد ذهاب أيوب للدراسة، كان حينها بلغ الثالثة عشرة تقريباً، اصطحبه والده إلى عدن ليدرس الابتدائية في مدرسة الإنقاذ بعدن، وما أن أنهى الإبتدائية انتقل للدراسة في المعهد العلمي الإسلامي وهناك انهى دراسته الثانوية.

لم ينقطع أيوب عن عادته في العزف، كما بدأ في الغناء، وكان يؤدي لأصدقاء الدراسة في الأمسيات، أغاني لمحمد عبدالوهاب الفنان المصري الشهير الذي يعتبره قدوته في الفن، فيحظى بتشجيعهم.

"في أوقات الأستراحة كان الأصدقاء يتجمعون حولي وأنا أغني لعبد الوهاب، ويعجبهم ما أغنيه".

يبتسم أيوب وهو يتذكر واحدة من أقسى الأيام التي عاشها أثناء دراسته، ورغم حزنه الكبير يومها إلا أنه يتذكرها اليوم كجزء فاصل في حياته الخاصة والفنية على حد سواء.

ففي إحدى الرحلات المدرسية، سجل أصدقائه صوته وهو يغني أغنية عبدالوهاب، وما أن عادوا إلى المعهد حيث يدرس أيوب الثانوية، أسمعوا معلميه والذين كان يعرف بالشيخ، صوت أيوب، ظناً منهم أن يمتدح الأستاذ صوت طالبه، لكن ما حدث كان العكس تماماً.

"أختبئت بعيداً عن عين الشيخ، وبعد أن سمع صوتي سخر منه ليقول بأني أوتيت مزماراً دؤواد".

لم ينتهي حزنه ذلك اليوم، فأخبار جاءت من تعز، تؤكد له زفاف حبيبته ابنة خاله بشخص آخر وانتقالها إلى منزله، اعتصر الحزن قلب الشاب أيوب، وأصبح همه همين.

من عادته حينما يحزن أن يخلو بنفسه، جلس وحيداً ليلتها، كان القمر بدراً، يقول بأنه كان منتصف شعبان لكنه لا يذكر العام بالتحديد، وفي تلك الليلة ولدت القصيدة الوحيدة التي لم يكتب أيوب غيرها طيلة حياته.

ما يزال يحفظ ابياتها إلى اليوم، لكنه لم يغنيها، أو يلحنها لأحد غيره، احتفظ بها لنفسه وحسب، ومردداً أبياتها قال:"قمر الزمان اطل من فوق الملأ/ ناثر نوره من أعلى السماء/ وجه غانية كأن شعائه قطع الماس بريق في الدجا/ مؤنس العاشق في معشوقه/ لست ادرى هل ترى ماذا جرى/ لي محبوب جفاني وانطوى/ وتركني بين نيران الجوى/ اتلظى حرها في جلد كفراش عشق النور فأكتوى/.

مضت الأيام وأيوب ما يزال في عدن التي يقول بأنه يدين بفنه لها، فبدايته الحقيقية كانت فيها، كان أنهى الثانوية العامة، لتبدأ مرحلة البحث عن عمل، وهناك في أحد الشركات الصينية تولى أيوب وظيفة أمين مخازن.

كان لوالد أيوب رأي آخر، إذ وجد أن موعد تزويج ولده قد حان، وهو الأمر الذي رفضه الفنان أيوب، بخاصة وأنه بدأ يؤسس لحياته الفنية خاصة بعد أن أهداه شقيق زوجته عوداً دون علم والده، ليظل أيوب يعيد تلحين الأغاني التي يسمعها في الراديو ويرددها بصوته.

على أي حال، أعاده والده إلى تعز، وزوجه رغماً عنه بزوجته وهي المرأة التي تعيش معه حتى اليوم، وأم أولاده التي يحلو له أن يناديها "أم صلاح".

"زوجتي أم صلاح وقفت إلى جانبي شجعتني كثيراً ومنحتني الفرصة لأصبح مبدعاً وحتى الوقت الحالي رغم ظروفها الصحية السيئة لا زالت تقف بجانبي في كل شيء".

يقول أيوب أن زوجته احترمت فنه على الدوام، كانت تبعد أطفالهما عن مكان وجوده، حين يكون مشغولاً بتلحين كلمات جديدة، وتحتفي به كلما أسمعها ما يؤديه من أغاني وتشيد به، منذ بدايته وحتى اليوم.

على خلاف ذلك كان رأي والده في توجهه للفن، فلم تتغير أفكاره إلا بعد فترة طويلة من بداياته التي كان ينفذها بعيداً عن أعينه والده.

بعد زواجه عاد إلى عدن مجدداً، كان راغباً في دراسة المرحلة الجامعية، إلا أن والده رفض أن يدرس، وأن عليه العمل وحسب.

استمر أيوب في عزف العود وإعادة تلحين الأغاني التي يسمعها، واقتنى عوداً بمبلغ 500 شلن من صاحب الشركة التي يعمل فيها، لكنه طالما أخفاه عن والده، فالسائد حينذاك كان أن من يحترف الفن والغناء إنسان أخلاقه مشكوك في أمرها.

"إذا عدت تعز أخفيت العود عن عين والدي، وإذا كنت في عدن وعدت للمنزل أخفيته عنه أيضاً"

رغم حرص أيوب إلا أن أخبار غنائه وعزفه على العود وصلت إلى والده، ولأن مكان عمله كان يوفر سكناً خاصاً بالموظفين، أتيحت للشاب أيوب البقاء بعيداً عن أعين والده.

"كنت انتظر حتى ينام كل من في السكن وأصعد إلى السطح وأعزف على العود متدرباً لوحدي على أوتاره وأحاول أن أعيد الألحان التي أسمعها".

وعلى ما يبدو أن والده وبعد أن وصلته الأخبار بغناء ابنه وسط أصدقائه، عنفه وأعاده للسكن معهم في منزلهم، إلى أن تدخل أصدقاء الأب ونصحوه بأن يأخذ أبنه ويراقبه بدلاً من منعه الغناء، طالما وهذه رغبته.

في السكن الخاص بالعمل، خصص صاحب العمل مبرزاً وهو مجلس شعبي يبنى بصورة منفصلة عن بناء البيت ويستخدم للقاءات بين الأصدقاء والأقارب والسمر، وفي ذلك المكان كان أيوب يغني لأصدقائه ويسمرون الليالي، وكان يحضر عدداً من الفنانين بمدينة في ذلك الوقت، وحينها ولد أيوب كفنان.

حصل على قصائد بصورة مجانية من أصدقائه لحنها وأداها، واقتصر ذلك مجلس صاحب العمل، إلا أن أصدقائه شجعوه للغناء في حفلات الأعراس.

كان عرس أحد أصدقائه هو بداية لقاءه مع الجمهور، غنى في العرس وحظي بإحتفاء الجميع به، ليشتهر بغنائه وصوته المميز في مدينة عدن وما حولها، وتصل أخباره إلى قريته ويحتفي به الجميع.

بعد أن ذاع صيته أعتمد ايوب على عدد من المؤلفين الذين كانوا يرسلون له كلمات أغانيه ليلحنها بعد ذلك ويؤديها بصوته الشجي وبمشاعر اليمني المحب لأرضه ووطنه ومن هؤلاء شقيقه محمد طارش، الذي كان ممن شجعوهه على الغناء.

وبصوت ايوب الجياش، الذي غلب عليه قليل من التعب دندن في لقائنا معه كلمات أول أغنيه كتبها له شقيقه محمد، ولحنها هو لتصبح بداية دخوله عالم الفن والشهرة وهي أغنية تحمل اسم "رسالة حبيب"، وتقول كلماتها"بالله عليك وامسافر لا لقيت الحبيب/ بلغ سلامي إليه وقل له كم باتغيب/أمسيت اناجي القمر والناس جمعه رقود/ أدعي لربي واقول ايحين با يعود".

وبالرغم أن أيوب لم يحقق امنية والده بأن يصبح قاضياً، إلا انه أصبح فخراً لوالده، ولكل فرداً في اليمن، وقامة فنية يشار لها بالبنان.

خلال مسيرته الفنية التي بدأت في ستينيات القرن المنصرم، درس ايوب في المعهد الموسيقي العربي في القاهرة في الفترة 1974 -1976، وشارك في العديد من المهرجانات والإحتفالات داخل اليمن وخارجها، وهو من لحن وغنى النشيد الوطني لليمن.

ولهذه الفترة والخاصة بتلحين النشيد الوطني قصة، فأيوب كان واحداً من الفنانين الذين طلب إليهم تلحين أبيات أغنية وطنية ستؤدى في الاحتفالات الوطنية بعد الوحدة اليمنية في 1990، وعندما وجد أن الفنان اليمني الكبير أحمد السنيدار أدى الأغنية التي ستصبح فيما بعد النشيد الوطني في مهرجان أقيم في محافظة عدن.

في وقت كان أنهى أيوب تلحينها، فلم يصعد للمسرح بعد السنيدار، ليطلب منه أن يؤديها في ذات الاحتفال في محافظة تعز، وبعد تسجيلها بثت الفقرة في القناة الفضائية اليمنية والقنوات المحلية بصورة مستمرة، ليتم اعتمادها فيما بعد نشيد وطني لليمن.

ولا يزال النشيد الوطني حتى الوقت الحالي مرتبطاً بإسمه، كما صوته مرتبطاً بالوطن، بالمزارع، والثورة، والجندي، والمغترب، وبالحب، والسلام.

والذي مطلعه:"رددي أيتها الدنيا نشيدي/ ردديه وأعيدي وأعيدي/ وأذكري في فرحتي كل شهيد/ وأمنحيه حللاً من ضوء عيدي".

اليوم يعيش فنان اليمن القدير أيوب طارش في عزلة عن الفن، نتيجة لظروف صحية عانى منها منذ العامين الماضيين، حين أجرى عملية جراحيه ليده اليمنى، ما حال دون عزفه على العود مجدداً وهي الآلة التي يعشقها.

:"سافرت الى المانيا في 2012 وأجريت عملية ثانية في يدي اليمنى ولم استعد اللياقة في العزف بسبب ارتخاء في العضلات وترهلها".

بين اربعة ابناء وابنة وزوجه محبه مخلصه يعيش ايوب برضى، مبيناً ان انشغال ابنائه في العمل لم يساعدهم على الاهتمام بالفن كما كان هو في شبابه.

:"عشت أيام جميلة ارتبطت فيها بالفن، وحان الوقت لاعتزل الأجواء الفنية، أقضي وقتي في التعبد إلى ان يوافيني الأجل".

في ختام اللقاء قال أيوب بأن كلمات العابد الشيخ الجنيد أحد شيوخ الصوفية في تعز الذي كلما ذهب هناك يزور زاويته، ما تزال حاضرة في ذهنه ويرددها على الدوام وهي:"يا نبياً ماله في الكون مثله/ يا نبياً به هم وشغل"، مؤكداً أنها أصبحت المفضلة إليه.

وعلى أي حال فإن سيرته لن تكفيها سطور محدودة لتكتب فيها، ولا بد أننا أغفلنا الكثير، فمحاولة الكتابة عن قامة بحجم أيوب طارش لن تمنحه أبداً ما يستحق.