وزير الخارجية يستقبل الرحالة اليمني منير الدهمي بالرياض الضالع.. القوات المشتركة تدمر مرابض قناصه المليشيا وتحرز تقدما ميدانيا تفاصيل لقاء وزير الدفاع ومحافظ حضرموت باللجنة الأمنية بالمحافظة محكمة الجنائية الدولية تصدر أوامر اعتقال بحق نتنياهو وجالانت وتكشف عن أسبابها المنطقية عاجل: وزير الدفاع الأمريكي: سنعمل على انتزاع قدرات الحوثيين في اليمن مليشيا الحوثي تحول محافظة إب لقادتها ومشرفيها القادمين من صعدة وعمران عاجل:حريق هائل يلتهم هايبر شملان العاصمة صنعاء نقابة المعلمين اليمنيين تدين الاعتداء السافر على المعلمين في شبوة وتطالب بتحقيق عاجل ''أكد أنه لا أحد فوق القانون''.. أول مسئول كبير يحيله رئيس الحكومة للتحقيق بسبب قضايا فساد ومخالفات الحكومة اليمنية تتطلع إلى شراكات استثمارية وتنموية مع الصين
صباح يوم النكسة 21 سبتمبر كان تاريخي الشخصي لا يزال كما هو. "لا بأس، حدثت الكثير من الأمور السيئة لكن كل شيء سيكون على ما يُرام" كنتُ أساوم نفسي بهذه الكلمات الميّتة. وكانت هذه الجملة، ذاتها، تقوض إحساسي بالأمن. فالذين قرأوا رواية جدائل صعدة يعرفون كما كانت هذه الجملة مأساوية، وسوداء.
وعندما أصبح نهار النكسة إلى الخلف مني هربتُ إلى باريس، إلى صديقي مصطفى ناجي، المثقف الذي تفجعه الأحداث، مثلي، لكنها لا تحنيه. قرّرنا أن نعبر باريس على الأقدام. مشينا في شوارع بلا حصر، وأصبت بتورمين كبيرين في باطني قدمي الاثنتين. كنا نحاول شرح ما يجري، ونتحاشى الذي سيجيء. استوقفني مصطفى في ميدان كبير كنا دخلناه للتو. "اسم هذا الميدان ميدان الانتصارات ونحن نتحدث فيه عن هزائمنا". نشرتُ صورةً لي مع مصطفى ونقلتُ جملته الأخيرة. بعد ساعات كان رجلٌ من الذين صلّوا للإله لأنه فتح لهم صنعاء يكتب في صفحته "انتصر اليمن وانهزموا" معلقاً على صورتي مع مصطفى. وكنتُ أسأل نفسي بينما لا أزال أقطع شوارع باريس بنعليّ: ما هو اليمن الذي انتصر إذا لم يكن هو مصطفى وأنا وأمي وأمه، وابنه وطفلتي.
قبل السقوط بعشرة أيام قتِل ابن خالي. قبل مقتله بيوم أرسلت إلى وزير في الحكومة رسالة واتس أب. قلت له إني سأغادر ألمانيا إلى دولة أخرى لبضعة أيام لأمور تتعلق بالطب وأني أفكّر فيما ما إذا كان وارداً أن تسقط صنعاء وأنا على ظهر الطائرة، وفي المطار أحتجز لتسعة أشهر مكرراً مشهد توم هانكس في فيلم تيرمنال. سيقول لي الموظف "بلدك لم يعد لها وجود، وجواز سفرك صادر عن لادولة". ثم سأقضي أشهراً طويلة مع عامل نظافة مسنّ يهمس في أذني بسرّه الكبير "التسلية الوحيدة التي أمتلكها في هذا العالم أن أرى المسافرين المستعجلين ينزلقون على أرضية المطار الرطبة ويسقطون على ظهورهم". ثم يسألني ما إذا كنتُ سأشاركه جريمته المسلّية وأعمل على ترطيب مدخل التيرمنال تسعة.
قرأت رد الوزير وأنا أركب الاسكاي ترين في مطار دوسلدورف "سافر، وعُد بالسلامة. هناك رجال يحرسون صنعاء".
كنتُ قبل ذلك كتبتُ عن أن كل شيء سيكون على ما يُرام، وأن الجيش متماسك. وعندما سألتُ أحد الأصدقاء من الذين قرروا حمل السلاح دفاعاً عن صنعاء عن توقعاته لحركة الجيش قال إننا سنعمل كما لو أن الجيش ليس له وجود. أما العسكريون فكانوا يؤكدون "الجيش على أهبة الاستعداد، فقط نخشى من خيانة عبد ربّه". ربما كانوا يقصدون الرئيس. لم أعد أصدق هذه الأكذوبة "الجيش". الأنظمة العربية لم تصنع جيوشاً بل تشكيلات عسكرية بلا مدونة قتالية. كان صالح يذهب إلى الجيش ليخطب مطوّلاً عن الصحافة التي تعادي الوطن.
في رمضان الفائت استأجرت تاكسياً وتحرَكت في نهار صنعاء الجاف. سألني السائق عن رأيي في الحوثي فقلتُ إنه بحاجة إلى السفر إلى الخارج للحصول على البكالوريوس أولاً، ثم لكل حادث حديث. مط الرجل شفتيه وقال إنه ضابط في الحرس الجمهوري. أراني بطاقته، طوعياً، ثم ذكر لي اسم طبيب معروف قال إنه ابن عمّه. قلتُ له إنه صديقي، فانفرجت ملامحه دفعة واحدة ونقلني إلى أجواء العائلة. عندما طلبتُ منه التوقف أحنى رأسه تجاهي هامساً "لو لم يكن الحوثي مؤيداً من الله لما انتصر في كل المعارك". قلتُ له وأنا أستخرج ورقة نقدية من محفظتي: أعرف أنبياء قتلوا، وأنبياء هربوا، وأنبياء هزموا. علّق "الحوثي غير. سافر يا دكتور، وما يقع الا خير". عند تلك اللحظة كنّا قد أصبحنا نصفي صديقين.
على قناة الميادين سخر صحفي حوثي من جملة كتبتها في مقالي "الجيش متماسك". قال إن الغفوري لا يعلم شيئاً، وهو يضلل الناس. وكان محقّاً فيما يبدو.
كانت خارطة صنعاء مكشوفة كلّياً. وكان عمّار صالح قد شكل غرفة عمليات لإدارة المعركة. هادي احتمى بالأمم المتحدة. الرجل الأقرب إلى هادي، تلك اللحظة، كان العطّاس. أما الرجل الأقرب إلى محمد ناصر حتى تلك اللحظة فكان محمد علي أحمد ومسدوس. تربط ناصر بالأخير رابطة نسب. اتخذ الرجلان قراراً نهائياً "ما علينا". وكانت الفكرة التي تقف خلف هذا القرار "أياً كان ما سيحدث لصنعاء فلن نصاب نحن بالضرر". كان فريق هادي ـ ناصر يعمل في صنعاء كجالية. لكنها أيضاً جالية على النمط الاستعماري القديم "مهمتها جمع أكبر قدر من المال في أقرب وقت، على أن تبقي الباب الخلفي للدار مفتوحاً والمروحية في المرآب". اقتنع هادي ـ ناصر بوعد الحوثي "ابقوا خارج اللعبة". هذه الرسالة كانت أيضاً قد وصلت إلى كبار القادة العسكريين، كالجائفي. أما صالح فقد استجمع كل مهاراته وعلاقاته، صعد الحوثي على كتفيه وأبصر صنعاء "مدينة على تل لا يخبو نورها أبداَ". وكانت هي أورشليم الموعودة.
في الواحد والعشرين من سبتمبر، صباحاً، كنتُ في الجامعة. كانت عطلة الأسبوع، وكنتُ منشغلاً في بحث علمي، أجمع بياناته وأحللها. وصلتني رسالة من ساره الياسين "سقطت صنعاء". كتبتُ رداً على رسالتها "لتسقط صنعاء! ليست أورشليم". وتظاهرتُ بأني قد مللت هذه اللعبة المميتة، فلتسقط صنعاء. ما الذي سيحدث لو سقطت صنعاء، ستستمر الأرض في الدوران، وستنتج البشرية مزيداً من الفن والعلوم، فصنعاء لم تلتحق بعد بالبشريّة. فلتسقط. ثم تذكرت قصيدة محمود درويش عن سقوط شجرة السرو. ثمة من قال إن السماء اليوم ناقصة لأن السروة انكسرت. و"قال فتى إن السماء اليوم كاملة، لأن السروة انكسرت". لكن درويش يختم نصّه باستخلاص عبقري متصالح مع الظواهر، مع الحياة والموت، مع الهزيمة والنصر: “لا وضوح، ولا غموض. السروة انكسرت، وهذا كل ما في الأمر: إن السروة انكسرت."
في طريقي إلى الدار كنتُ أردد: السروة انكسرت، وهذا كل ما في الأمر. إن السروة انكسرت. لا وضوح، ولا غموض.
ما إن دلفتُ صالون شقتي وطالعت الأخبار حتى انكسرتُ أنا، لا السروة. احتضنتُ هيلين بقوة. كنتُ أقول لها يور هوم إز جون، هوني. كانت هيلين، في تلك اللحظة، آخر أسواري، وكانت تبلغ من العمر عاماً وعشرة أيام. كنت جالساً على الكنبة، وكانت ساره تقف أمامي مثل شجرة سرو حائرة بين السماء والغزاة. وكانت تردد "لا، ما تحكي هيك، إياك" وكنتُ أقبل خد هيلين وأقول لها "يور هوم إز جون هيلين". جلست ساره على ركبتيها وأمسكت بيدي الطفلة وقالت لها: بلدك الناس، الناس اللي حتحبيهم ويحبوك، مش الأرض. البلد مش الأرض، البلد الناس. وكانت الطفلة تضحك، فأبواها يلاعبانها بقصة مسلّية لا تفهم منها شيئاً. حركت قدميها وابتهجت، ملأناها بالنشوة ونحن نزف إليها كل ذلك الكدر الذي ستفهمه بعد سنين قليلة.
مرّت الأيام تحت نعال الغزاة الجدد، النعال البلاستيكية. كان الحوثي يتحدث عن ثورة الشعب. يتحدث عن تأييد الله لثورة الشعب. وكنتُ أتأمل الوجوه، وجوه الشعب، الملامح، التفاصيل، وأطراف الأصابع فلا أرى سوى الهلع، والعار. أصافح الأيدي، وأقرأ الكلمات فأجد مزيجاً مدمراً من الكآبة والغضب والذهول. أبحث عن الشعب المنتصر فلا أجد سوى المهزومين. حلقت بعيني فوق اليمن، رأيت ظلاماً دامساً، مخلوطاً بذهول يغمر المهرة، حضرموت، تعز، الضالع، أبين، الحديدة، إب، شبوة، البيضاء، مأرب، عدن، صنعاء، سقطرى، لحج. انتصر شعبٌ لا نعرفه، وكسب الحرب رجلٌ لم يمش يوماً ما في شوارع عدن أو تعز، أو يجلس على مقهى في صنعاء. دخل المسلحون صنعاء من كل جهاتها، قالوا إنهم مجاهدون. وقتلوا المئات ممن يذهبون إلى المساجد ويقرؤون القرآن. بصرف النظر عن الطبيعة السياسية للمعركة، فأنا لا أعلم عن أي جهاد في تاريخ المسلمين ينتقي قتلاه على هذا النحو، فهو يختار فقط أكثر الناس أداءً للشعائر الدينية، وإيماناً بالإله! ويترك الآخرين. فقد اختار هذا الجهاد صديقي الذي يصلي وقتله، وترك صديقي الذي لم يصلّ قط. لا يملك أحد الحق في أن يزعج سكينة آخر، فضلاً عن قتله، أيّاً كانت عقيدته أو خطيئته. لكن هذا الجهاد الحوثي شأناً نادراً تاريخياً. إنه جهاد خارج من كتاب الله لا يقتل سوى من يحفظون ذلك الكتاب. كما لو كان جهاداً في سبيل الله يستهدف الله مباشرة.
بانقضاء الوقت أدركت أن صنعاء التي سقطت كانت هي أورشليم خاصتي. المدينة التي تنام على تل، خبا نورُها وابتلعتها أصغر بقعة ظلام فيها.
لم يحدث أن ظهر في صنعاء نبيّ على مدار التاريخ. فالأنبياء لا يظهرون سوى في الأمم المنحطة، تلك التي بحاجة إلى تدخلات خارقة للعادة بسبب قصور عميق في أخلاق سكانها وعقولهم. حرس الله صنعاء من الانهيار، ومن الأنبياء على مدار التاريخ. وها هي تهلكها سلالات آخر أنبياء الكوكب، كأن لعنتها بقيت مؤجلة كل ذلك القدر من الزمن.
صنعاء التي لم تحتج في كل حياتها، منذ مائة ألف عام أو يزيد، إلى نبي قط! فقد كانت نبية نفسها، رسولة سكّانها، وحارسة قصورها، حكيمة تعالج خطاياها وتنتصر..
هاهي قد وصلتها سيوف الأنبياء الذين ضلوا طريقهم.