الحكومة اليمنية تتطلع إلى شراكات استثمارية وتنموية مع الصين حضرموت.. وزير الدفاع يشدد على مسئولية المنطقة الثانية في تأمين السواحل ومكافحة التهريب أوتشا باليمن: نحو 10 مليون طفل بحاجة إلى مساعدات إنسانية #لا_لتطييف_التعليم.. حملة على مواقع التواصل الإجتماعي تكشف عبث الحوثي بالمناهج وقطاع التعليم حماس توافق على تشكيل لجنة لإدارة غزة بشرط واحد عيدروس الزبيدي يستبعد تحقيق سلام في المنطقة بسبب الحوثيين ويلتقي مسئولين من روسيا وأسبانيا النقد الدولي: قناة السويس تفقد 70% من الإيرادات بسبب هجمات الحوثيين أول رد لتركيا بعد هجوم حوثي استهدف احدى سفنها 49 فيتو أمريكي في مجلس الأمن ضد قرارات تخص الاحتلال مصادر تكشف عن قوات عسكرية في طريقها إلى اليمن
قصة قصيرة
في منتصف التسعينيات تخرجت من المعهد العالي لإعداد المعلمين في العدين، كنت أنتظر بشوق وحماس العودة إلى قريتي للتدريس في مدرستها الجديدة، والتباهي أمام أقاربي بأنني صرت مدرسا ، كان المدرس حينها له ما يزال له وضعه واحترامه.!
في بداية العام التالي فوجئت بأن المركز التعليمي يرسلني للتدريس في منطقة بني عواض في حزم العدين.!
أجتاحني شعورا عارما بالحزن لعدم العودة للتدريس في قريتي لكنني وجدت كل الزملاء يثنون على منطقة " بني عواض " وجمالها ورقي أهلها، ويتهمون مدير المركز التعليمي بأنه قد دللنا كثيرا حين أرسلنا إلى هذه المدرسة.!
بل لقد سمعنا بآذننا البعض من المدرسين وهو يتهمنا برشوة المدير ليرسلنا إلى هذه المنطقة؛ وحينها تشوقت أكثر للتوجه بأقصى سرعة لهذه المنطقة.
ما أسعدني وبدد حزني أن أربعة من أحب زملائي تم إرسالهم إلى هذه المدرسة أيضا.
تسلمنا أوراقنا واشترينا بعض الحاجيات من ملابس وغيره، وجهزنا حقائبنا وتوجهنا على عجل إلى بني عواض.
حين وصلنا المنطقة فوجئنا بجمالها واخضرارها وبيوتها الرائعة المتوزعة كقطع شطرنح فوق التلال والجبال.
المدرسة كبيرة وفخمة، وبها أكثر من عشرين من المدرسين من أبناء المنطقة الذين فوجئوا بوصولنا إليهم، وكأن في أمر خطأ.!
استضافنا المدير في منزله في اليوم الأول، وفي اليوم التالي سلموا لنا السكن التابع للمدرسة، ثم وزعوا علينا بعض الحصص وباشرنا عملنا، كما قام المدير بدعوتنا لتناول الطعام في منزله.!
بعد ثلاثة أيام من الأكل في منزل المدير قررنا أن نعد طعامنا في مطبخ السكن، اشترينا الأدوات ووزعنا المهام ، وبدأنا نطبخ ، وتعاون معنا المدير بأن نسق مع الأهالي لتزويدنا بالخبز من منازلهم.
كنا سعداء ونحن نتشارك العمل كأننا ما نزال في سكن الطلاب أيام الدراسة بالمعهد ، باستثناء الأستاذ نجيب محمود الذي أبدى انزعاجه من عملنا في المطبخ قائلاً:
ــ بعد 15 سنة دراسة نتخرج ونشتغل ونظل نكنس ونقطع بصل ونطبخ ونشتغل شغل الحريم؟!
وأعلن أنه لن يطبخ معنا، وأن على الأهالي تزويدنا بالطعام فنحن ندرس أولادهم.!
ــ لكننا لا ندرس أولادهم مجانا، هذا عملنا ونتقاضى عليه راتب.!
ناقشناه بالأمر فسلم بآرائنا لكنه صارحنا بأنه شخصيا سيتصرف وفق نظرية " الخلاص الفردي " قائلاً:
ــ يا جماعة نحن في بداية حياتنا العملية ويجب أن نوفر الراتب ونكسب إضافي ايضاً.
وتساءلنا عن قصده بهذه النظرية لكننا لم نصل لنتيجة.!
وبدأ نجيب يحتك بالطلاب في أغلب الوقت، يلعب معهم الكرة، ويتعرف عليهم، ويسألهم عن أهالي المنطقة وأحوالهم واحدا تلو الآخر، كأنه مكلف بإجراء مسحا شاملا للمنطقة.!
بعد أسابيع بدأ يتقرب من التلميذ أكرم حسن العواضي ويمطره بالهدايا، ويفتعل مسابقات بسيطة ويعلن هذا التلميذ الفائز بها، بعد ذلك زاره في منزله ، وتعرف على والده واخوانه، واستمرت زياراته لهذا المنزل بشكل شبه يومي.
في نهاية الشهر غادر نجيب لتسلم الراتب، ثم قدم بأهله في سيارة فاخرة، وقاموا بخطبة ابنة حسن العواضي، ومن يومها وهو يتناول جميع وجباته في منزل عمه المستقبلي.!
كنا نشتري القات أحيانا أما نجيب فإنه يمضغ القات كل يوم من مزارع عمه ، وغالبا ما يبيع لنا نصف قاته.!
في أول الليل ونحن منشغلون بإعداد وجبة العشاء يعود نجيب من منزل عمه وهو يتجشأ من الشبع، ولديه كيسين، كيس مليء بحزم القات، وآخر فيه كعك منزلي فاخر.!
ــ ما سبرت إلا لك يا أستاذ نجيب.
يرد علينا ضاحكاً:
ــ المنطقة مفتوحة ومليئة بالبنات، وأهلها من أطيب الناس، تحركوا، وأنا مستعد أساعدكم.
ونمطره بردودنا الساخرة:
ــ علشان نفطر ونتغدى ونتعشى ونخزن بلاش صح؟
ـ يا راجل حتى إذا الواحد خطب من بنات المنطقة لا يعني أن يظل كل يوم يذهب إلى بيت عمه.
ــ يا أستاذ نجيب سيملون منك لو بقيت تذهب إليهم كل يوم.!
ــ بعدها سيفسخون الخطوبة ويرجعون لك الدبلة والهدايا.
كنا نتوقع أن يثور ويغضب لكنه أجاب بكل برود وكانه لوح ثلج:
ــ لا خليكم هنا: الفطور فول، والعشاء فاصوليا، والغداء رز ومشكل.!
ويضيف:
ــ ما فيش مثل أكل البيوت يا أساتذة، أراهنكم أنكم ستصابون بسوء التغذية قريبا.!
ذات ليلة كنت وإياه لوحدنا في السكن نمضغ القات ونتحدث فسألته:
ــ إذا سألتك ستجاوبني بصراحة؟
قاطعني:
ــ عارف سؤالك وهو:
ــ هل خطبت بنت حسن العواضي لأتزوجها ؟ أم لأجل الأكل والقات؟
وبكل صراحة هو لأجل مصلحتي، آكل شارب مخزن وأوفر راتبي. ماذا أريد أكثر من كذا؟!
وأضاف:
ـ أنا أيضا أقدم دروس تقوية لأخيها ، وهذا يكفي.!
ــ ومشاعر البنت؟!
ــ تولع بجاز .
وأضاف:
ــ بيني وبينك أنا خاطب لبنت خالي بالقرية، بنت وحيدة أبوها وأمها ولديهم أراضي وأملاك كثيرة ، ولن أتركها.
ــ وكيف أبوك وأمك جاءوا معك وخطبوا لك هذه البنت؟!
ــ لا جاء أبي ولا أمي ، هؤلاء ناس من العدين أعرفهم، استأجرتهم يمثلوا دور الوالد والوالدة وكله بحسابه.!
صدمني بحديثه الصريح ، وشعرت باشمئزاز من سلوكه المشين، لقد سقط من عيني.
قررت عدم السكوت عما يحدث من نصب عيني عينك، فتسللت ذات مساء وذهبت إلى منزل حسن العواضي وأخبرته بكل شيء.
وصدمني هو الآخر بأنه يعرف أن هذا المدرس غير جاد، وأنه يمثل عليهم تمثيلية مكشوفة، وأن ابنته وأسرته يعرفون بالأمر.!
ــ وكيف تسكتون؟!
سألته باستغراب فقال:
ــ ليس من مصلحتنا أن نعلن حقيقته للناس، هو مدرس والطلاب يرون فيكم قدوة لهم، ولا نريد شوشرة حول بنتنا ، أما الأكل فهو يأكل معنا ، ومن جاء عندنا أكل ، وكذلك القات من أرضنا ، ولن نخسر إذا اعطينه بعض حزم القات.!
وأضاف :
ــ وقد اتفقنا مع إدارة المركز على نقله إلى منطقة أخرى في العام القادم.
ومضى العام الدراسي سريعا، وعدنا إلى قرانا في الإجازة الصيفية ، كأننا كنا في غربة خارج الوطن.!
في العام التالي تم نقل الأستاذ نجيب محمود إلى منطقة أخرى، وعلمنا أنه بعد وصوله هناك خطب إحدى فتيات تلك المنطقة، وأنه يأكل ويقضي مقيله بشكل شبه دائم في منزل تلك الفتاة.!
ومضى ذلك العام كسابقه سريعا، وفي العام الذي يليه علمنا بأنه تم نقل الأستاذ نجيب للتدريس في مدينة إب.!
وتساءلنا ونحن نضحك عن الورطة التي وقع فيها:
ــ من أي منزل في مدينة إب سيخطب الأستاذ نجيب؟!
قال الأستاذ رشاد بسخرية:
ــ أكيد سيخطب بنت المحافظ.!
بينما رجح الأستاذ مجيب أن نجيب محمود سيقوم بعمل إحصائية شاملة عن سكان مدينة إب، ثم سيجري قرعة على الحارات، ثم على المنزل الذي سيخطب منه.!
شخصيا قلت:
ــ الأستاذ نجيب سيصعد إلى جبل بعدان ثم سينظر لمدينة إب ويختار أكبر منزل فيها ، ويذهب لخطبة ابنتهم.!
وضحكنا ثم نسينا الأمر.
في منتصف العام ذهبنا إلى مدينة إب للنزهة وشراء بعض الأشياء، وأثناء دخولنا أحد المطاعم فوجئنا بالأستاذ نجيب قبالنا، كأنه كان بانتظارنا، تغدينا سوينا، وأثناء شرب الشاي أقسم نجيب أننا ضيوفه ولن ندفع ثمن الغداء.
لقد استغربنا من الكرم الغريب الذي هبط عليه.!
أثناء خروجنا صافح صاحب المطعم الذي أعطاه كيسا مليئا بالقات، بعد خروجنا قال:
ــ رأيتم صاحب المطعم الذي سلمت عليه؟
هززنا رؤوسنا ظنا منا أنه قريبه، فإذا به يقول:
ــ هذا عمي الجديد الذي خطبت ابنته.!
فغرنا أفواهنا من الدهشة ثم انفجرنا بالضحك.!
الغريب أنني صرت أرى الأستاذ نجيب مؤخرا في كل مكان، وكأنه قد تكاثر بشكل ملفت للنظر.!