دلالات الثورات
رياض المسيبلي
رياض المسيبلي
تكشف الأحداث العظيمة في المجتمعات عن عمق التغيير الذي حدث فيها, ولطالما كان الحدث دلالة أو نتيجة وليس سبباً للتغيير الاجتماعي. ربما يكون الحدث خطوة أولى لتغيير جذري, لكن ليس بالضرورة سبباً له.
والدارس لأي مجتمع يعينه الحدث العظيم على دراسته؛ ذلك أنّه يرمي إلى السطح جلّ ما كان مدفوناً, وأسباب سرّية ما كان مطموراً تحت السطح, إذ تحتاج دراسة أي مجتمع ساكن إلى وقت وجهد عظيمين للوصول إلى مفاصل الحياة الحقيقية, حيث تختفي حينها الأعراض التي يبحثها الدارسون دلالة على ما يبحثون عنه أو فحصه.
فالقارئ لتاريخ الثورة الأمريكية, يرى كيف كانت الثورة دلالة على تغير جذري في تفكير سكّان المستعمرات, ورغبتهم في إيجاد نظام يخالف ما كانت انجلترا عليه, فكان النظام الجمهوري الذي أدخل عليه المؤسسون الأوائل من الضمانات العديدة, ما يمنع عدم تمركز السلطة في جهة معيّنة.
ولقد قال جون آدامز ,فرحاً بالمجتمع الجديد, لريتشارد لي: "....وما أقل عدد البشر الذين أتيحت لهم أية فرصة لممارسة انتخاب للحكومة..لأنفسهم ولأبنائهم". (الانطلاق من الماضي, كارل ن.ديغلر, ترجمة صادق عودة, الأهلية للنشر والتوزيع-عمّان-1997, ص 121).
ولعلّ ما مرّ بتاريخ الولايات المتحدة بعد الاستقلال من أحداث كبرى, كالحرب الأهلية أو حركة حقوق الإنسان, كانت دلالة على تغيير عميق وحاسم.ولعلّ الحرص على القول أنّ هذه الثورات أو الأحداث دلالات, إنما هو للتشديد على أنّ البشر هم من يصنعون هذه الأحداث وليس العكس, إذ أنّ الناشئ في مجتمعات جبرية أو فردية سلطوية, سيفسّر الحرب الأهلية الأمريكية تفسيراً يتصل بلنكولن, وليس بتغيير فكري بدأت بوادره تتشكّل في المجتمع الأمريكي, وكانت من أبرز علامات هذا التفكير الجديد الثقافية رواية (كوخ العم توم). (عند سرد المهتمين بدراسة الحرب الأهلية لقائمة أهم الحداث التي سبقت الحرب, يذكرون تاريخ نشر هذه الرواية).
ثورات جديدة
لأنّنا عشنا أجيالاً تحت رحمة الانقلابات العسكرية, أو الثورات المسلّحة التي قادت إلى الاستقلال, أو تغيير أنظمة الحكم في وطننا العربي, فإنّ الفاحص يلمس الصعوبة اليوم في فهم هذه الثورات المباركة اليوم, سواء على الأجيال القديمة, أو حتى أجيال الثورة نفسها.
إنّ لهذه الثورات المباركة دلالات ومعانٍ ينبغي الالتفات إليها؛ حتى يتم فهمها بعيداً عن المشاهد الضبابية, والاستيعاب السليم خطوة حاسمة نحو الفعل السليم. فمن الصعوبة بمكان المطالبة بفهم ظاهرة عند من لم يتعوّدها, أو لا تساعده طرق التفكير السائدة على استيعابها, فلا غرابة أن يسمع المرء أسئلة قامت الثورات أساساً لدحضها؛ من أمثال: من الأصلح لحكم البلد؟ من هو قائد الثورة؟ وذلك أنّنا تعودنا على الرمز وليس على المنهج.
لطالما ضربت المثل بثورة اليمن, ربما لخصوصية اليمن الاجتماعية, وأنّ الذي يحدث اليوم لو حدث قبل خمسة عشر عاماً لانفجرت حرب أهلية. لقد أثبت اليمنيون أنّهم خلاف الصورة السائدة عنهم, أو التي يريد النظام رسمها لهم, وأثبت هذا الشعب ,الذي لا يخلو دار من دياره من عدة قطع سلاح, أنّه متشبث بالتغيير السلمي, صامد من أجل هدف نبيل جمع أطياف الشعب اليمني بكل اتجاهاته.
في هذا المجتمع المحافظ, تسمع امرأة تقول انّها خرجت بالرغم أنّ أهلها ليسوا على وفاق بشأن خروجها, وتسمع طفلة صغيرة تخاطب علي عبدالله بكل قوة وفصاحة منقطعي النظير. وترى الطبيبات اللاتي تم خطفهن على أيدي زبائنة النظام, يعدن إلى ساحة التغيير أول ما يطلق سراحههن, وبكل تصميم يعلنّ أنّهنّ مع الثورة....هناك في قلب الساحة ووسط هتافات إخوانهنّ !!
ألم يضرب الشباب المصري أنصع صور الحضارة والرقي, فما إن تنحّى مبارك حتى شرع الجميع بتنظيف ساحة التحرير. وألم يضرب الشباب التونسي أقوى صور الشجاعة فأطلقوا شعار العصر:
الشعب يريد إسقاط النظام!!
أو كما سمّاها أحد النبهاء: تسبيحة العصر.
وسمع العالم حينها التونسيين يرددون أبيات شاعرهم العظيم أبي القاسم الشابي الشهيرة:
إذا الشعب يوماً أراد الحياة.....
وترددت صرخات الشعوب من قلب تونس إلى أوساط القاهرة, ومن ساحات بنغازي إلى أحياء صنعاء وتعز, في ابتداع عجيب للشعارات, وغدت بعض المقولات خالدة يرددها حتى الأطفال الصغار.
فكلمة (هرمنا) التي قالها ذاك الكهل التونسي, أو (المجرم هرب) الذي رددها بأعلى صوته تونسي آخر في أحد شوارع تونس ليلاً, وصرخة المصريين (مش حنمشي, هوّ يمشي), وشعارات اليمنيين المؤكدّة على سلميّة ثورتهم, وعلى وحدتهم أمام الطغيان.
فقراءة لهذه الشعارات تفضي إلى نتائج عدّة؛ أهمّها أنّ هذه الشعوب تعالت على كل شيء من أجل حرّيتها, وأنّ التسلّط لأعظم موحّد للجماهير المغلوبة, تقوم لحقها وتنهي ثقافة الجبروت, وتفتح الآفاق رحبة أمام حرّية الإنسان وطاقاته.
دلالة أخرى لهذه الوثبة العملاقة؛ وهو إثبات بطلان وخرافة وسخافة نظرية المؤامرة, والتي لاكها الفكر العربي والإسلامي عقوداً عديدة, وثُبطت بها همم, وتسلّلت من خلالها خرافات عدّة إلى فكرنا المثلوم.
ولطالما ردّد صاحب المقال, كلّما وجد من يردّد هذه الأسطورة, أنّه لصالح أي إنسان ألا يعتقد بهذه النظرية ولو كانت صحيحة؛ وذلك أنّ طرحها يعني العمل والأخذ بالأسباب توصّلاً إلى النتائج المطلوبة, أمّا أولئك الذين يعشقون قصص الجن ووادي عبقر, والذين عظمت عندهم هذه النظرية حتى أصبح العالم يدار بخيوط تمسكها أيدٍ مفرّقة هنا وهناك, فلن يستطيعوا الخروج من محابسهم, فالفكر والعمل يمسكان ببعضهما بطريقة تجعل من معرفة أيهما يؤثر في الآخر(الفكرة أم التطبيق) ضرباً من المقامرة لا غير.
الأخذ بالمبادرة
وللمتأمل أن يدرس هذه الثورات بتأنٍ, وله أن يتوصّل إلى ما قاده فكره وعلمه من نتائج, لكنّ ثمّة حقيقة ساطعة؛ حقيقة أنّ هذه الشعوب أخذت أمرها بيدها وحطمت الخوف الساكن فيها, وصرخت بأعلى صوتها في وجه الذين تسلّطوا وتجبّروا وعاثوا في هذه الأوطان فساداً, أن قفوا فقد حانت ساعة النهضة, وولّى زمن الهوان. لقد أدركت شعوبنا أنّ التغيير الحقيقي يبدأ بالمشاركة الفعلية, والإيمان بحق الشراكة في هذه الأوطان, والشعور بأنّك جزء من شيء يجعلك محافظاً عليه, ولن تتعدّى أفعال المتفرّج إحساسه بأنّه مجرد (مشاهد) لا غير.
الأيديولوجية والعنف
لعلّ من أبرز دلالات هذه الثورات غياب الأيديولوجية فيها, وأنا هنا أعني معناها الضيّق أو قل نسختها العربية (أردت التنبيه حتى لا أقع في مشاحّة الاصطلاح والعراك حوله, ولم تكن مقالة أستاذنا الدكتور الأحمري حول أيديولوجية الثورات إلا من هذا القبيل), فالمجتمعات تصبغ على أي مصطلح صبغتها الخاصة, وما حدث مع هذا المصلح بالذات كان مشوّهاً عندنا. فقد عرف تاريخنا القريب رباطاً وثيقاً بين الأيديولوجيا والعنف, والفكرة متى ما تلطّخت بمثل هذه الأوحال فإعادة النظر بشأنها أولى و(أسلم). وغياب أحادية الاتّجاه بين من ثار, أو الترفّع على الانتماءات المتعدّدة, خطوة حاسمة نحو قبول الآخر, وإفشاء السلم بين الاتجاهات المختلفة, بدلاً ممّا لا تحمد عقباه. فشباب الساحات خفتت لديهم هذه الأيديولوجيات المتعدّدة, ربما لضعفها في بلد, أو لهشاشة الانتماء في آخر, كل هذا أفاد الثورات, وسيمهّد لوجود مجتمعات منفتحة على أبنائها. شيء آخر في الحكومات كان لصالح الثورات, أنّ الثوّار ولو تسلّلت إليهم الأيديولوجيا فليسوا أمام أنظمة تقوم على أيديولوجيا, بخلاف الصراعات الماضية بين الاتجاهات العديدة, والتي كان الصراع العقائدي حاضراً فيها بقوّة.
إنّ الإدراك بأنّ هذه الثورات تختلف عن سابقيها, والفهم الصحيح لها, يقود إلى الاستفادة من الواقع المدروس لدى مفكّرينا, والوقوف إلى جانبها عند الذين لا يزال في قلوبهم شيء من الريب.
الإدراك أنّ هذه الثورات خرجت من تربتنا, لتعيد إليها الحياة بعد قحط أكل كل شيء جميل في حياتنا.
ولن ينسى العالم, أنّ شاباً أسمر هناك في بقعة من تونس, أشعل النار في عروش الطغاة, وأنار السبيل إلى الحرية لدى شعوب المنطقة, وأشعل فتيل الحرية لديهم.
تحيّة إليك سيّدي....
....إلى حياتك اليوم....خالداً في قلب كل حر.

في الأحد 03 يوليو-تموز 2011 04:45:36 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://m1.marebpress.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://m1.marebpress.com/articles.php?id=10894