عن التغيير وشروطه
عبد الملك الجهمي
عبد الملك الجهمي

التغيير ناموس الكون، سواء أدركناه وشعرنا بوطأته أم انسل من تحتنا دون أن نشعر به. فما دام الزمن في اطراد، فإن كل شيء في هذا الكون خاضع لهذا الناموس. وكما أن الكون بمجراته والأرض بجبالها ووهادها وبحورها تتغير، فكذلك الكائنات الحية بأنواعها وأجناسها. ونظرة سريعة على علوم الفلك والأرض والحيوان والنبات والجغرافيا والتاريخ كفيلة بتأكيد شيوع هذا الناموس في كل شيء.

على أن هذا التغيير لا يكون أوضح و لا أسرع في شيء منه في حال الإنسان أمما و مجتمعات و دول. فالحياة الإنسانية, بتعبير طه حسين "تقوم على أصلين لا ثالث لهما ولا محيد عنهما، هما البقاء من ناحية، والاستحالة من ناحية أخرى".

والتغيير- في سياق هذه المقالة - يعني تحول أمة من الأمم أو مجتمع من المجتمعات من حالة إلى أخرى بفعل ما تعرضت له في أمسها أو تتعرض له في يومها أو تحسبا لما قد تتعرض له في غدها من عوارض سياسية واقتصادية و اجتماعية، داخلية أو خارجية.

كأمثلة على هذا التغيير تأتى التحولات التي شهدتها النظم و المجتمعات العربية فى السنوات العشرين الأخيرة جراء الفشل في حل القضية الفلسطينية، أو كنتيجة للحروب التي شهدتها المنطقة إبان هذه الفترة، أو كاستجابة لتحديات العولمة و شروطها و الأزمة المالية العالمية و تداعياتها.

أنواع التغيير

هذا التغيير يمكن تصنيفه وفقا لمنشئه ودواعيه إلى نوعين: خارجي ونعني به ذلك التغيير الذي يطرأ على الأمة لأسباب من خارجها كونها جزءا من هذا العالم. فهي تحتك بالأمم الأخرى و تقيم معها العلاقات وتعقد المعاهدات والاتفاقيات، وهذا يفرض عليها شروطا ويخلق لها تحديات يلزم التعامل معها. فهناك – على سبيل المثال – العولمة وسبل التعامل معها، ومنظمة التجارة العالمية ومتطلبات الانخراط فيها. وهناك أيضا النظام الدولي وما تمليه ضرورات التعامل معه والتصرف كجزء منه، وهناك البنك الدولي وشروطه وإملاءاته.

يوصف هذا النوع من التغيير بأنه استجابة أو رد فعل لمؤثرات خارجية. كما قد لا يكون للأمة خيار فيه ولا تملك إلا أن تتعامل معه، كون أسبابه و دواعيه بيد الآخرين لا بيد الأمة نفسها. فقد تتأثر الأمة بأزمة اقتصادية لا علاقة لها بها ولم تكن سببا فيها، أو بعدم الاستقرار في قطر خارج حدودها، أو بحصار وعقوبات مفروضة على دولة أخرى، أو بموجة رخاء و تنمية اقتصادية نشأت في أمة أخرى.

وكون هذا النوع من التغيير ذا دواع خارجية لا يعني بالضرورة أن يكون سلبيا. فقد يكون إيجابيا أحيانا، كأن يؤدي الرخاء الذي تشهده أمة ما إلى ازدهار اقتصاد أمة أخرى لنقصان معدل البطالة و زيادة الصادرات. كما أن هذا التغيير قد يكون سلبيا بل و في أحيان كارثيا، كأن تقرر أمة من الأمم شن حرب على أمة أخرى.

النوع الثاني من أنواع التغيير ذاتي، ونعني به ذلك الذي تكون أسبابه وعوامله من داخل الأمة نفسها. هذا النوع لا يمثل استجابة الأمة الذاتية للتحديات الخارجية المفروضة عليها، فحسب؛ بل هو ما تعبر به عن نفسها وقيمها وطموحات وأماني شعبها وعدم رضاها عن حاضرها وعلاقتها بماضيها ورؤيتها لمستقبلها. هذا النوع من التغيير ناصيته بيد الأمة وهو - ذاته - ما يجعلها حية وقادرة على الاختيار في أي لحظة زمنية.

وإذا كان النوع السابق من التغيير يتعامل من سؤال "ماذا يُراد منا؟" فإن هذا النوع يجيب على سؤال "ماذا نريد؟"

ويلاحظ في هذا النوع من التغيير أمران. الأول أنه وإن كان ذاتيا في أمة ما، لكنه قد يقود إلى تغيير خارجي لدى أمة أو أمم أخرى. والثاني أنه كسابقه ليس إيجابيا ولا سلبيا بالضرورة. فقد يكون في أرقى حالاته عندما يأتي معبرّا عن الإرادة الجمعية للأمة؛ أي أن يأتي منسجما مع ما تراه الأمة حقا لها و واجبا عليها ولائقا بها. في هذه الحالة يكون التغيير إيجابيا خلاقا و مؤثرا في الآخرين، و رافعا لمكانة و قدر الأمة بين الأمم الأخرى.

ولكنه – أحيانا- قد يقتصر على رد فعل الأمة لما تعرضت أو تتعرض له من ضغوط و تحديات خارجية، مفتقرا للرؤية الواضحة والمنطق السديد. فلا يكون – في هذه الحالة – أكثر من تعبير أو تنفيس آني لما تحس به الأمة جراء هزيمة منيت بها أو نكسة تعاني منها.

واقتصاره على رد الفعل وافتقاره للرؤية الواضحة لا يجعله في صالح الأمة على المدى البعيد.

العلاقة بين نوعي التغيير

على أن النوعين السابقين للتغيير ليسا مستقلين دائما أو بالضرورة. فقد يكون النوع الذاتي نتيجة و رد فعل للنوع الخارجي، و سببا في زيادة وطأة و أعباء هذا الأخير على الأمة. فالأمم التي فتحت اقتصاداتها للعولمة مثلا، و لم تتخذ من الاجراءات اللازمة ما تحمي به نفسها، كانت أكثر تأثرا بالأزمة المالية العالمية من غيرها.

ويمكن تشبيه أو تصوير نوعي التغيير - سالفي الذكر - بمتجهين أحدهما يعبر عن الأول والثاني عن الثاني. هذان المتجهان لا يشترط فيهما أن يكونا متضادين أو في نفس الاتجاه، بل يترك اتجاهاهما ليعبرا عن علاقة أحدهما بالآخر، و قربه أو بعده منه. ويكون هذان المتجهان من التعقيد بحيث يكون لكل واحد منها مكونات في الأبعاد المتعددة لهذا النوع من التغيير أو ذاك، وبحيث تتوافق أو تتعارض هذه المكونات فيما بينها بدرجات متفاوتة في أبعاد مختلفة.

ومحصلة هذين المتجهين متجه يعبر في فترة زمنية ما عن الاتجاه الحقيقي الذي تسير فيه الأمة تحت تأثير نوعي التغيير السابقين. و تمثل هذه المحصلة تلاقي هذين النوعين من التغيير، فإذا كان النوع الخارجي للتغيير يسعى بالأمة في اتجاه ما، فإن التحدي الذي يواجهه التغيير الذاتي هو تغيير دفة اتجاه النوع الأول إلى حيث يمكن للمحصلة أن تكون أقرب جهة و أكثر تعبيرا عن تطلعات الأمة و آمالها. و هذا أيضا هو تحدي كل أمة لا سيما تلك التي تتعرض لظروف و تحديات صعبة، من عينة ما تواجهه أقطارنا و شعوبنا العربية و الإسلامية.

و إذا ما افترضنا أن هناك متجها آخر معبرا عن تطلعات الأمة و آمالها و ما تسعى إليه، فإن موافقة أو مخالفة هذه المحصلة لهذا المتجه هي في النهاية ما سيقرر ما إذا كانت الأمة تتقدم أو تتأخر. كما أن اتجاه هذه المحصلة ينبئ بمدى قرب الأمة أو بعدها مما تطمح له و تسعى إليه.

التغيير والنخبة

لكي يكون التغيير في مجمله بنّاءً وإيجابيا (أي أن تكون المحصلة سالفة الذكر موافقة لما تطمح إليه الأمة وما تسعى إليه) ، فلا بد أن تقود التغيير الذاتي نخبة من أبناء الأمة تمثلها و تنوب عنها وتعبر عن قيمها ومبادئها. هذه النخبة ليست مقصورة على النخبة السياسية المكونة من الحكام و وزرائهم و حاشيتهم، أو على النخبة العسكرية كقادة الجيوش و كبار الضباط؛ بل تتجاوز هؤلاء و أولئك لتشمل رجال الأعمال و علماء الدين والمفكرين والكتاب والأدباء والصحفيين والفنانين وصناع الرأي.

و وجود هذه النخبة ضروري من أجل التغيير، فهي من تحدد ماهيته و تعرف حدوده و تمهد له و تقنع عامة الأمة به. و هي من تصوغ أهدافه و تبلور رؤاه بما يناسب الأمة و يراعي مكانتها و تاريخها. و هي من تتعامل مع التحديات و الصعوبات التي تواجهها، و تعمل على تخفيفها و التغلب عليها.

و لا ينبغي هنا أن ينظر إلى هذه النخبة من منظور الامتيازات المادية و الاجتماعية الكثيرة التي تتمتع بها، فحسب،بل أيضا من منظور المهام الجسام الملقاة على عاتقها. ذلك أن التغيير ليس نزهة تسير فيها الأمة بل أشبه بمخاض عسير و نفق مظلم تجتازه بين فترة و أخرى، مليئ بالتحديات الصعبة التي تقتضي من النخبة قبل غيرها جهودا مضنية و تضحيات جمة و اتخاذ قرارات مؤلمة و شجاعة تمس حيوات الملايين، و إن لم تحظ برضى كل فئات الشعب.

على أن الأمر لا يخلو من مفارقة. فعلى قدر حاجة الأمة لهذه النخبة ينبغي أن يكون حذرها منها. فما من أمة أصيبت في نفسها و في مكانتها و كرامتها إلا و قد أتيت من قبل نخبتها. و التاريخ ملئ بالأمثلة و الشواهد على ذلك.

و بشكل عام هناك أربعة أسباب رئيسة لهذا الحذر:

أولا: تميل النخب في أغلب الأحيان إلي تمثيل مصالحها و إعطائها الأولوية على ما سواها.

ثانيا: تزداد المسافة (أو الهوة) بينها و بين الأمة التي وجدت لتمثيلها بزيادة مدة بقائها في مواقعها.

ثالثا: تتلاشي قدرتها على التغيير مع طول بقائها في مواقعها، و تنمحي منها الشجاعة اللازمة لتحمل أعبائه بازدياد هذه المدة.

رابعا: إذا طال بقاؤها في مواقعها، تصبح عندها عبئا ثقيلا على الأمة وعقبة أمام التغيير، بل و أحد ما ينبغي تغييره.

قد تكون هناك استثناءات لهذه الأسباب، لكنها لا تعدو أن تكون مرات قليلة و جدت في ظروف تاريخية معينة يقل إن لم يستحل تكرارها، و من ثم فلا ينبغي التعويل عليها.

خلاصة ما سبق أنه لا ينبغي لأمة أن تعول بشكل مطلق على أن نخبتها ستظل ممثلة لها و أمينة على مصالحها للأبد. كما أنها لا ينبغى أبدا أن تطمئن لوعود التغيير التي تقطعها هذه النخب على نفسها، لا سيما حين تأتي هذه الوعود من نخب استمرأت السلطة و المكانة دهرا طويلا و ربما كانت سببا في الأوضاع التي تعد بتغييرها.

بيد أن الخروج من الورطة التي تسببها هذا المفارقة لا يتطلب أكثر من أن يكون للأمة من الوسائل ما يخولها تغيير نخبتها سلميا بين فترة و أخرى.

شروط التغيير

يمكن اختزال التغيير الذاتي سالف الذكر في مقدرة الأمة على تغيير نخبتها. فإن كانت الأمة ذات قدرة على تغيير نخبتها بوسيلة سلمية (دون اللجوء إلى الثورات أو الانقلابات) ضمنت الأمة طريقا سلسا للتغيير و التقدم, و إن عجزت عن ذلك، تخلفت و أصبحت عرضة للصراعات و تفكك نسيجها الاجتماعي، و تراجعت مكانتها و مقدرتها على الفعل و التأثير.

فكيف يتم هذا التغيير؟ و ما شروطه؟

و للإجابة على هذا السؤال نقول إن الأمم تملك القدرة على تغيير نخبتها حين تتوافر هذه النخب علي شرطين رئيسين:

الشرط الأول: توافر الحد الأدنى من استقلالية المكونات المختلفة للنخبة بعضها عن بعض، وفق قواعد معينة يلتزم بها الجميع. أي أن لا تكون بعض مكونات هذه النخبة خاضعة لبعضها الآخر. ذلك أن مكونات النخبة يمكن تصنيفها إلى فئتين: صلبة و لينة. فالمكونات الصلبة تشمل النخب السياسية و العسكرية و أحيانا الاقتصادية، من من بيدهم مقاليد السلطة و المقدرة على إيقاع الأذى بالمخالف، و التي - في غياب المانع - تميل إلى الاستبداد في علاقاتها مع المكونات اللينة الأخرى للنخبة: كالعلماء و المفكرين و الكتاب و الصحفيين و الفنانين.

فعندما يسيطر مكون من النخبة على غيره تفقد هذه النخبة صفة تمثيل الأمة، و تصبح ذات بعد واحد، و يصبح التغيير الذي تحدثه تغييرا مبتورا مشوها و ناقصا في جوانب كثيرة، و بالتالي بعيدا عما تطمح إليه الأمة؛ إن لم يكن سلبيا عليها.

ذلك أن التغيير الذي تنشده الأمة ما هو إلا استجابة لحراك سياسي واقتصادي و ثقافي و اجتماعي تتلاقح فيه الأفكار و تتبلور الرؤى و تتشكل القناعات، و هذه كلها أمور ضرورية للتغيير المنشود تختفي بانعدام الحد الأدنى لهذه الاستقلالية. هذه الاستقلالية هي أيضا تعبير عن الحرية التي تتمتع بها المكونات اللينة للنخبة خاصة و الأمة عامة في ظل قيادة المكونات الصلبة لها.

الشرط الثاني: أن تقترن تغييرها دائما بما يمكن تسميته هنا \"باللايقين\"، أي أن لا تكون نتائج هذا التغيير معروفة سلفا؛ و من ثم يخضع لقواعد و مسلمات نظرية الاحتمالات.

شرط اللايقين هذا ضروري للأسباب التالية:

أولا: يجعل مبتدأ و منتهى كل نخبة مجهولا و بالتالي قابلا للتغيير. فلا يعرف سلفا من أعضاؤها و لا كم من الوقت سيظلون في موقعهم منها. هذا بدوره يضمن ديمومة التغيير و استمراريته، و يتيح للأمة الوقت الكافي لبلوغ ما تصبو إليه.

ثانيا: يجعل النخبة ممثلة للأمة على جهة الحقيقة لا الادعاء، ويربط مصالحها بمصالح الأمة، إذ متى علموا أن وجودهم في مواقعهم مرهون بمدى حيازتهم لرضى من يمثلونه و هو الأمة، اجتهدوا و أخلصوا في طلب هذا الرضا، و حرصوا عليه.

ثالثا: يمنع أن يكون الانتماء للنخبة حكرا علي فرد أو أسرة أو قبيلة أو حزب أو طائفة أو فئة من الناس دون أخرى، و يضمن ضخ دماء و أفكار جديدة لهذه النخبة بين فترة و أخرى، و تقليم من أصبحوا عبئا على الأمة من أعضائها.

و يختلف شرط تحقق اللايقين من مكون من مكونات النخبة إلى آخر. فالزمن و مجريات الأمور كفيلة بتغيير المكونات اللينة للنخبة. كذلك السوق و أحكامه كفيلة بتوفير الحد الأدنى من اللايقين و إحداث التغيير المنشود هنا، شريطة أن يتحقق الشرط الأول طبعا. أما في حالة المكونات الصلبة لهذه النخبة فلا يتحقق اللايقين هذا إلا من خلال المنافسة العادلة بين الطامحين لتبوء تلك المواقع، و ترك الأمر للأمة لتختار لنفسها دونما وصاية من أحد.

هذان الشرطان يكمل أحدهما الآخر. فإذا كان الشرط الأول معبرا عن الحرية كما ذكرنا، فإن الثاني يشترط للأمة اختيار قادتها؛ و الحرية و الاختيار متلازمان، فلا حرية حيث لا خيار و لا خيار حيث لا حرية.

و نلاحظ هنا أن الديمقراطية التي تتوافر على الحدود الدنيا لهذين الشرطين (شرطي الحرية و المقدرة على الاختيار- أي الانتخابات) معا كفيلان بأحداث التغيير المنشود. و من ثم يصبح التحدي الذي تواجهه الأمم خاصة النامية منها هو تطبيق الديمقراطية في الحدود الكافية لتحقيق هذين الشرطين.

و خلاصة الأمر أن الأمم تتغير شاءت أم أبت كونها جزءا من هذا العالم، و أن الأمة ستكون أحسن حالا و أعلى مرتبة و مكانا لو تغيرت لدوافعها الذاتية، شريطة أن تتخلص من الاستبداد وتمتلك المقدرة على تغيير قادتها.

*كُتبت هذه المقالة قبل ثمانية أشهر وحالت الظروف حينئذ دون نشرها؛ (الكاتب).


في الثلاثاء 05 يوليو-تموز 2011 05:08:30 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://m1.marebpress.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://m1.marebpress.com/articles.php?id=10922