سيارةٌ تلِدُ أخرى
حسين السقاف
حسين السقاف

كنتُ حينها قد تجاوزت الخامسة وكنتُ فرحاً بإدخالي روضة الأطفال، غير أنني في ذلك اليوم مازلتُ متأثراً بحادثة ومنظر اليوم الماضي الذي رأيت فيه بقرتنا الحبيبة وقد ماتت مولودتها وهي محتضنة لها ولم تجف بعد من تحتها سوائل ولادتها، لعل ذلك هو أول العهد لي بوفاة غالٍ على نفسي.

في ذلك اليوم البارد خرجت كعادتي بعد أن دثرتني أمي بما يلزم من ملبسٍ صوفيٍ.

حينما أغلقتُ باب منزلنا من خلفي فوجئت برؤية سيارة صغيرة بيضاء ملاصقة لسيارة أبي التي تركها في الحوش ليسافر إلى العاصمة، كانت السيارة الصغيرة جميلة تماما كبقرتنا الصغيرة التي ماتت بالأمس. إنها تُشبه سيارتنا العجوز كثيراً و لونُها أيضاً كلون سيارتنا غير أنها كانت لامعة على عكس سيارة أبي الخشنة الملمس والتي فقدت إحدى عينيها. بدت لي كمية من الماء والزيت تنتشر على الأرضية الواقعة عليها السيارتان، نظرت في السيارة الصغيرة فأبهرتني، عدت أدراجي إلى باب المنزل، طرقته لأخبر أمي بأن سيارتنا قد ولدت بنتا جميلة، غير أنه كما بدا أن البرد ألزمها بالعودة إلى فراشها، فهي على الأرجح لم تسمع طرقي على الباب الخشبي السميك. عدت ثانية إلى السيارة الصغيرة لأتأكد هل الأمر حقيقة أم أنه حُلم . في هذا الأثناء سمعت صوت صديقي وزميلي محمود يناديني، لعله استبطأ قدومي إلى البوابة الخارجية لحوش منزلنا وهو الموقع الذي ننطلق منه معاً إلى الروضة كل صباح ..كان يأتيني صوته من داخل الحوش قائلاً:

 - ما الذي أخّرك يا محمد؟

قلت له والاندهاش يسيطر ًعليَّ:

- تعال أنظر ...لقد ولدت سيارتنا العجوز بنتا جميلة.

- وهل تلد السيارات؟

- أجل ..أنظر بعينك

كنت أنا ومحمود نشاهد السيارة، أطلّينا من نوافذها الزجاجية المغلقة النظيفة الشفافة إلى داخلها حيث الكنب وأحزمة الأمان اللمعة و المقود الأنيق، لقد تملكنا الإعجاب بها حتى ان محموداً قال:

- أنتم محظوظون ..بالأمس تلد بقرتكم واليوم تلد سيارتكم! ..سكت قليلا ومازالت عيناه ترنو إلى داخل السيارة وقد التصق وجهه بزجاجها ووضع يديه حول صدغيه لمنع الوهج المنعكسة من المنزل على السيارة حتى انتشر بخار أنفه على سطح زجاجها البارد ثم أردف:

- أصبحت اليوم لديكم سيارتان..سنذهب إلى الروضة على هذه السيارة الصغيرة.. أليس كذلك؟

- أجل سأطلب ذلك من أخي... يجب أن يأخذنا يومياً إلى الروضة...ألسنا أول من أكتشفها؟

كنا نجري على الدروب المؤدية إلى الروضة مخترقين السحب الدُخانية الملامسة للأرض الناتجة عن التنانير التي تعمل بالحطب، وقد صنعتُ من حقيبتي مِقوداً أُمسِك عليه بقبضتيَّ وأنطلق عدواً، مقلداً صوت السيارة، في حين يُمسك محمود بطرف شالي الصوفي الصغير من خلفي حتى تبللت ياقة قميصي من الرشح رغم برودة الجو من حولنا. 

عند ما وصلنا الروضة أخبر محمود الأطفال بقصة ولادة سيارتنا، كما أخبرهم بالأمس قصة ولادة بقرتنا. ما أن صلصل الجرس معلناً انصرافنا حتى جاء كثيرٌ من الأطفال إلى المنزل لمشاهدة السيارة المولودة.. لقد أعجبوا بها كثيراً، غير أنه لم يقتنع إلا القلة منهم بأنها الابنة الشرعية لسيارتنا.

طرقتُ باب المنزل وفتحت أمي الباب بوساطة جرها للحبل، ارتقيت الدرجَ إلى الدور العلوي وكنتُ ألهث. ابتدرتني أمي عند استقبالها لي في نهاية الدرج قائلة:

- ماذا وراءك؟ ...لماذا تلهث هكذا؟

- ألم تشاهدي السيارة المولودة..التي عوضنا الله بها عن البقرة؟

- السيارة المولودة ؟

- أجل ..تعالي لترينها .

كُنت في الممر أجرُ أمي من ثوبها إلى النافذة المطلة على الحوش . فتحت أمي النافذة ولفحتها ريحٌ باردة كانت تهب من جهة الشمال بعد ان كانت –أي الريح - تغازل النافذة بصفيرها ، غير أن أمي أطلَّت برأسها على الحوش ثم قالت:

- أين هي ؟

- أنظريها ...إنها تلتصق بسيارة أبي.

- هذه السيارة (السوزوكي) الصغيرة؟...إنها سيارة خالك..لقد طلب والدك منه أن يلحق به إلى العاصمة ..لقد ذهب بالطائرة وترك سيارته بحوشنا....ولكن ما هذه البقعة الندية ....هل كسرت سيارته قصبة الماء؟

سكتت قليلاًً ..لعلها أدركت حزني بتبخُر حُلمي بالسيارة، أطبقت مصراعي النافذة المستطيلين المصنوعتين من خشب السِّدر وجلست على دكتها ثم أجلستني على فخذها وجعلت تحررني من بعض ملابسي الصوفية وتعبثُ بشَعري لتُعِيد تسويته بأناملها الدافئة رغم برودتها وهي تقول:

- لعل وفاة البقرة الصغيرة مازال مؤثراً عليك!..سيجلب لك أبوك سيارة جميلة لتلعب بها..


في السبت 01 أكتوبر-تشرين الأول 2011 06:52:28 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://m1.marebpress.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://m1.marebpress.com/articles.php?id=11785