وترجل الفارس ابن جرادان
حسين علي بدران  
  

في يوم الثلاثاء 20 من ذي القعدة 1432هـ الموافق 18 / 10 / 2011م فقدنا عمودا من أعمدة عبيدة وجبلا شامخ من جبال سبأ ومؤسسا من مؤسسي الحركة الإسلامية المعاصرة في مأرب ، وحاميا من حماة الديار ، إنه الشيخ الصادق الوفي الوقور الصبور حمد بن صالح بن جرادان رحمه الله رحمة واسعة ، وما كان لي أن أكتب شيئا عن الفقيد بعدما كتب عنه شيخنا وأستاذنا الشيخ مهيوب سعيد مدهش حفظه الله ورعاه ، فقد كتب عنه موجزا شافيا ضافيا عبر فيه بمشاعره وعواطفه قبل أن يعبر بلسانه ، وكتبه بقلبه ومهجته قبل أن تخطه بنانه ، ووصفه وصفا دقيقا وصف العارف الملازم لصفات من يلازمه ، كيف لا ؟ وقد كان الشيخ مهيوب جاره الباب بالباب وكان رفيق دربه لأكثر من 37 عاما أي منذ العام 1395هـ ومع أننا من أقرب الناس للفقيد إلا أن الشيخ مهيوب يعرف عنه أكثر من أي أحد ، ولذلك أنصح من لم يطلع على رثاء الشيخ مهيوب أن يعود إلى هذا الرثاء ففيه الخلاصة المفيدة والوصف الدقيق ، ومع ذلك فالشيخ حمد رحمه الله يستحق أكثر من مقال أو مقالين وذلك حقه علينا ، وأنا لا أستطيع الإلمام بسيرة الفقيد ولكنها محطات في حياته أسوقها تدل على تكوينه وشخصيته التي جعلت منه رجل المواقف والملمات :

المحطة الأولى : نشأته

نشأ فقيدنا رحمه الله في أسرة عريقة كريمة فوالده هو الشيخ صالح بن علي بن جرادان أول شيخ لقبيلة آل حتيك من فخذ آل جرادان وكان المشيخ في فخذ آخر من القبيلة ولم يختر إلا لكفاءته ومعرفته وكرمه ؛ ولكنه مات مبكرا ، فتولى المشيخ عم الفقيد الشيخ سعيد بن على بن جرادان ويعتبر من دهاة عبيدة وزعمائها رحمه الله ، وعند وفاة عمه تولى الشيخ حمد المشيخ وهو في سن مبكرة في ريعان الشباب وكان توليه قبيل ثورة 26 سبتمبر ، أما جده من أمه ( والد أمه ) فهو الشيخ صالح بن عبد الله بن بجاش رحمه الله من كبار وزعماء قبيلة آل حتيك وقد اشتهر بالشجاعة والقيادة ، إذا فلا غرابة أن يتصف فقيدنا بصفات حميدة فهذا الشبل من نسل تلك الأسود. 

المحطة الثانية : مناصرته لثورة سبتمبر

كان الشيخ حمد رحمه الله من أشد المناصرين للثورة والمتحمسين لها وهو لا يزال شابا يافعا بل يعتبر من أوائل الثوار وقد أخلص للثورة ودفع الغالي والرخيص وقد أبلي بلاء كبيرا وتحمل شظف العيش مع الثورة والجمهورية يوم أن كان الناس في أنحاء اليمن ومنها مأرب يتقاسمون جنيهات الذهب بالصناديق فلم يلتفت اليها ولم تثنه عن مقصده ومضى في ركب الثورة مع قلة ما في اليد كما هو شأن الثوار العظماء الذين يفكرون في الوصول إلى الهدف والغاية وليس لمنصب أو مطمع ، وذكر لي رحمه الله أن حبه للثورة جعله يمشي على رجله إلى صنعاء ، وكان من المواقف الثورية التي تسجل للشيخ حمد رحمه الله أنه كان من ضمن الوفد الأول الذي ذهب إلى القاهرة لمقابلة جمال عبد الناصر بعد الثورة بطلب من عبد الناصر نفسه لتدارس أوضاع الثورة في اليمن .

وهذا ما تناساه المسئولون في الدولة وعلى رأسهم علي صالح الذي لم يقدر للشيخ قدره كما هو شأنه مع ثوار سبتمبر وأكتوبر ، وأصبحت اهتماماتهم بكسب الولاءات الحزبية الضيقة ولكن الشيخ رحمه الله لم يلتفت إليهم ولم ينتظر منهم شيئا فلم يؤثر عليه ذلك فظل وفيا لثورته وأمته ووطنه . 

المحطة الثالثة : معرفته بالحق ومناصرته له والثبات عليه

كان الشيخ حمد رحمه الله متدينا ومحافظا بطبعه ولكن عندما جاءت الدعوة في سبعينيات القرن الماضي كان من أوائل من استجاب لها والتحق بركبها المبارك فزادته فهما وتدينا وثباتا على الحق وجعلته من رجالات مأرب القلائل الذين يعتد برأيهم ويركن عليهم بعد الله في الملمات وحل المشكلات الاجتماعية والسياسية ، وأصبح حاميا من حماة الدعوة والدعاة طيلة حياته ونصيرا للحق وناصرا للمظلومين ، ويعتبر الشيخ حمد رحمه الله من مؤسسي التجمع اليمني للإصلاح في التسعينات وأصبح عضو الشورى فيه ، ولم تؤثر عليه الدنيا بتقلباتها وحطامها فلم يبدل ولم يحول كما فعل غيره ، مع مروره ببعض الصعوبات في الحياة ؛ حيث أن قناعة فقيدنا وعدم رغبته في مد يده للداخل أو الخارج ــ كما هي عادة مشائخ اليمن ــ جعلته يكتفي بما قسم الله له من كد يده في مزرعته التي يعمل فيها ، وكان لا يخاف في الله لومة لائم وكان من أصدق رجالات عبيدة فلم يعرف المجاملة على حساب الحق في يوم من الأيام .

وقد حاول علي صالح استمالته بالترغيب والترهيب على أن يكون معه ويسلك مسلك مشائخ حطام الدنيا ويترك الدعوة والدعاة فلم يستجب له ، وكانت له مواقف مشرفة في مناصحة علي صالح تدل على الثبات وقول الحق وعدم المجاملة ، وهذه المواقف يعرفها أهل المنطقة ولا ينكرها علي صالح نفسه ، وعندما يئس منه حاول تهميشه كما هي عادته مع من يخالفه فعمل على تشجيع بعض الصعاليك من قبيلته على منافسته على المشيخ واتخاذ مواقف ضده ولكنه لم يفلح بفضل الله لأنه أمام هامة عظيمة لا يمكن تجاوزها ، وأمام شخصية لها وزنها فرضت نفسها على مستوى القبيلة والقبائل الأخرى والدولة بالتواضع وسعة الصدر وتحمل الغير وليس بالقوة أو الإغراءات المادية ، وبقي على هذا المبدأ حتى توفاه الله .

المحطة الرابعة : طهارة قلبه ولسانه

لا يعلم ما في القلوب إلا الله ولكن من المعلوم والمؤكد أن ما في القلب يظهر على اللسان في الغالب ، وشيخنا الفقيد كان ما في قلبه يظهر على لسانه لا يخفي شيئا ولكنه كان لسانا طاهرا لم يتلوث بالكلمات النابية الجارحة التي تجرح مشاعر الآخرين وتنقص من قدرهم ومستواهم ولم يحمل حقدا لأحد حتى الذين أساءوا إليه ، وهذا ما جعله محبوبا لدى الجميع ، وكنت أعرف فيه تلك الصفات ولكنها معرفة عابرة ، وأثناء دراستي في الأردن زارنا فصحبته فيها قرابة شهر فترسخت لدي تلك الصفات العظيمة التي كان يحملها ، والشهادة لله أن ذاك الرجل رحمه الله خلال بقائه عندنا لم يتعرض لأحد بسب أو شتم أو انتقاص حتى من كان يقف ضده لا يذكرهم إلا بخير بل يلتمس لهم العذر ، وكان حديثه منصبا حول الدعوة والدعاة والأخبار والعلوم الطيبة وما كان في الصالح العام ، واستعراض بعض القصص والمواقف المفيدة التي حصلت له أثناء حياته ، وكان حديثه لا يمل ، ومن صفاته الحميدة أنه لم يكن ثرثارا كثير الكلام لا يترك المجال لغيره بل كانت كلماته تعد بدون صخب أو رفع للصوت فكان مجلسه بمثابة الذكر الذي يؤجر عليه الإنسان .

وكان من صفاته الجليلة التواضع فيجلس مع الكبير والصغير ويسمع للجميع ، وكان متسامحا لا يحمل الحقد والضغينة لأحد حتى خصومه الذين أساءوا إليه يبادلهم بالصفح وعدم الالتفات إلى ما عملوا وقاعدته عفا الله عما سلف وهذا ما جعله يسع الناس ، وجعله محط أنظار الجميع ومحل تقديرهم واحترامهم ، وهذه الصفات لا يصلها إلا العظماء الذين يريدون الله والدار الآخرة والله نسأل أن يكون الشيخ حمد منهم ، ونحن شهداء الله في أرضه .

المحطة الخامسة : مساهمته في حل المشكلات

كان الشيخ حمد رحمه الله رحمة واسعة يتلقى كثيرا من القضايا الخاصة والعامة وكان له إسهام في حل تلك القضايا ، وتربيته تحت ظلال الدعوة جعلته يتعامل مع تلك القضايا من منظور شرعي ، ولذلك تخلى عن الأحكام الطاغوتية التي تتعارض مع الشريعة ، فكان عندما يأتيه المتخاصمون يقول لهم سوف أعرض حكمي على العلماء فمن قبل ذلك منه جلس بينهم ومن لم يقبل يقول له انظر لك شيخا غيري ، وبعد أن يأخذ دعوى المتخاصمين يقوم بعرضها على أهل العلم ولا يصدر حكما لا بعد تأييدهم له ، وهذا يحسب للشيخ حمد رحمه الله ، وكان يلجأ في بعض الحالات إلى الصلح ليرضى الطرفان ، وربما جلس بين الرجل وزوجته ليحل الإشكال وسوء التفاهم بينهما . 

أما القضايا العامة التي تخص المنطقة أو البلد بشكل عام فكان رحمه الله لا يتردد في السعي في حلها مهما كلف ذلك من جهد أو جاه أو مال وكانت إسهاماته واضحة في ذلك ، وكان رحمه الله من الرجال القلائل الذين كان تفكيرهم باستمرار متعلق بهموم الأمة والصالح العام .

المحطة السادسة : صبره على هذه الحياة

كان رحمه الله صبورا على شظف الحياة في بداية حياته فلم يعرف عنه يوما انه كان شاكيا باكيا بل كانت الابتسامات لا تفارق محياه مع أبنائه وأهل بيته وزواره والناس أجمعين اللهم إلا إذا انتهكت حرمة من محارم الله أو سمع بظلم أحد أو أن الأمر يحتاج إلى الحزم فهو من رجال الحزم في وقت الجد ، فهنا تتغير شخصيته لتناسب المقام فلكل مقام مقال .

وفي آخر حياته رحمه الله ابتلاه الله بعدة أمراض فصبر واحتسب الأجر عند الله وظل على ابتسامته المعهودة فلم يشكُ ولم يتبرم ، ومع وجود الآلام الشديدة التي يعاني منها إلا أنه لا يبديها لأحد ويظهر لزائريه أنه بخير وفي صحة جيدة فهنيئا له ذلك الصبر والله نسأل أن تكون تلك الأمراض وما نتج عنها من آلام مكفرة لذنوبه وأن يسكنه في عليين مع النبيين والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا . 

والخلاصة أنه بموت الشيخ حمد فقدنا جبلا شامخا ورجلا صادقا ومناصرا للحق وأهله ودعامة من دعامات عبيدة خاصة ومأرب عامة ومن أهل الرأي فيها ، والله أسأل أن يتغمده برحمته وأن يسكنه فسيح جناته وأن يلهمنا الصبر والسلوان ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنا لله وإنا إليه راجعون . 


في الأربعاء 26 أكتوبر-تشرين الأول 2011 04:42:59 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://m1.marebpress.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://m1.marebpress.com/articles.php?id=12077