رسالة إلى الرئيس اليمني
د. محمد جميح
د. محمد جميح

أخي الرئيس علي عبد الله صالح، أكتب إليك وما تعودت أن أكتب رسائل مفتوحة على صفحات الصحف؛ لأني لا أحبذ هذا الأسلوب، ولأن الكثير ممن يكتبون مثل تلك الرسائل يهدفون إلى لفت الأنظار. أكتب إليك في وقت عصيب تمر به بلادنا والعالم العربي، وقت يحتم عليَّ كتابة هذه الرسالة، ويجعل قراءتها من طرفك ضرورة ملحة. أكتب إليك بعيدا عن الألقاب الرسمية لسببين، الأول: لكي يكون الحديث أكثر بساطة وحميمية، والثاني: أنني لا أجيد التعامل بالألقاب الرسمية، لبقايا جذور بدوية ضاربة في الأعماق .

ملخص الرسالة: «وقِّع على المبادرة الخليجية أخي الرئيس». الوقت يمضي بسرعة، ومجلس الأمن ينتظر تقرير مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة. إذا لم توقع فإن أدنى قارئ للتوجهات الدولية سيجزم أن ابن عمر سيكتب في تقريره أن سبب تعطيل الحل السياسي هو «رفض الرئيس صالح التوقيع على المبادرة الخليجية ».

أعرف أنك قد تقول، أو قد يشير عليك بعض المستشارين، بأن تقول: «فليكتب ابن عمر ما يشاء، هذه بلادي، وأنا أعرف بخصوصيتها، وأدرى بمصالحها العليا من غيري». أعرف أن الذين لا يريدون الخير لك ولا للبلاد سيقولون: «إن التوقيع على المبادرة سيظهرك بمظهر الضعيف الذي رضخ للضغوط، وإن مقتضيات الشجاعة والقبيلة تحتم عليك رفض الضغوط». أعرف أنهم سيقولون لك: «إن التوقيع يعني أن تسلم رقبتك لمشانق علي محسن وأولاد الأحمر»، أعرف أن هناك من سيقول: «لا تزال لديك أوراق لم تلعبها بعدُ، وكروت صالحة للاستعمال». لكن أخي الرئيس، إذا كتب ابن عمر في تقريره أن سبب تعطيل الانتقال السلمي للسلطة هو «امتناع الرئيس اليمني عن التوقيع على المبادرة الخليجية»، فإن ذلك سيجعلك، أمام العالم، مسؤولا عن فشل المبادرة، وعما سيترتب على ذلك من تداعيات. وهذا مجلس الأمن الدولي، الذي مهما كان لك، ولنا جميعا، من تحفظات على أدائه، إلا أنه هو الجهة الدولية التي يعترف اليمن بشرعيتها، وليس لنا أن نعترف بشرعيتها ونرفض قراراتها .

مجلس الأمن، يا سيادة الرئيس، ليس حمد بن جاسم ولا نبيل العربي. وليس لديَّ مشكلة مع أي قرار يتخذه مجلس الأمن فيما يخص الوضع اليمني - حتى لو اتخذ القرار تحت البند السابع - إذا استطاعت الحكومة اليمنية إقناعنا بالكيفية التي ستواجه القرار بها. نحن - أخي الرئيس - في عصر لم يعد فيه الحديث عن «السيادة الوطنية وعدم التدخل في الشؤون الداخلية» مقنعا للشعب> العالم اليوم مجرد قرية صغيرة لا يمكن أن يقول بيت فيها لا دخل لجيراني بشؤوني الداخلية، أصبح الشأن الداخلي اليوم شأنا خارجيا بامتياز، وأنت تعرف أن اليمن ليس إحدى جزر المحيط الهادي، اليمن دولة مهمة للإقليم والعالم، تطل على ممرات التجارة العالمية، وفيها من وجع الرأس الكثير مما تعرف، ولن يقتنع أحد بمقولة «السيادة الوطنية» ليقف متفرجا على مجريات الأمور في البلاد. أما بالنسبة للذين يقولون إن التوقيع على المبادرة شكل من أشكال الرضوخ، فهم واهمون؛ لعدة أسباب، أهمها: أن المبادرة الخليجية جاءت باتفاق اليمنيين، وعدلت عدة مرات بما يتجاوب مع ملاحظاتك عليها؛ فهي مبادرتك أنت بالمقام الأول، والتوقيع عليها ليس رضوخا لأحد، وإن كان هنالك إصرار على مسألة أن التوقيع عليها رضوخ فإنه رضوخ للمصالح العليا لليمن الذي وعدت بالتضحية من أجله بالغالي والنفيس .

ليس من الشجاعة في شيء مواجهة الإعصار، وأنت ترى الأعاصير تهب من كل حدب وصوب. من المهم أن يكون الإنسان شجاعا عندما تكون نتائج شجاعته محصورة فيه، أما أن تكون زعيما سياسيا فإن الشجاعة بمفهومها البسيط غير محبَّذة؛ لأن نتائج شجاعة كهذه تعود على وطن بأكمله وشعب بأسره، وأنت تعلم كم عانى شعبنا الصابر الأبي .

العكس هو الصحيح يا أخي الرئيس، الشجاعة هنا تقتضي أن تقدم على خطوة جريئة بالتوقيع على المبادرة الخليجية، وليس برفض توقيعها. أعرف الإرث القبلي الذي تنطلق منه وأقدره، لكن «الشجاعة القبلية» غير «الشجاعة السياسية»، وربما كانت عكسها، لسبب بسيط، هو أن «رئاسة الدولة» غير «مشيخة القبيلة» أيها الأخ الرئيس. أما بالنسبة للذين يقولون إن التوقيع على المبادرة الخليجية يعني أن تسلم رقبتك ورقابا أخرى لمشانق علي محسن وحميد الأحمر فهؤلاء إنما يسعون لأن يضعوا اليمن كله على صليب مجلس الأمن الذي قد تتداعى دوله، لا سمح الله، على قصعة اليمن، ليس طمعا في سمنها الذي تعرف أنه قد جف بالحروب والفساد، ولكن خوفا من انكسارها وانسكاب محتواها حريقا هائلا على الموائد الأخرى. ليس في نية علي محسن ولا حميد الأحمر أن ينصبا مشانق لأحد، ولا في مقدورهما ذلك إن أراداه، وأنت وأنا وهما وكل اليمنيين يعرفون طبيعة المنظومة السياسية والاجتماعية في اليمن، التي تمنع ذلك، من دون الخوض في التفاصيل .

ثم إن التوقيع على المبادرة الخليجية لا يعني تسليم الحكم والسلطة لعلي محسن وأولاد الأحمر، إنما يعني تسليم السلطة لنائبك ورفيق سلاحك. التوقيع على المبادرة لا يعني إقصاء حزبك من التشكيلة السياسية في المستقبل كما فعل بالحزبين الحاكمين في تونس ومصر، بل سيكون المؤتمر حاضرا بنصف الحقائب الوزارية لمدة عامين كاملين، هما الفترة الانتقالية، ثم من يدري؟ ربما يفوز مرشح المؤتمر في الانتخابات المبكرة إذا قدم العناصر المقبولة شعبيا، والنظيفة ماليا وذات الخبرة على المستوى السياسي، أو، على أقل تقدير، سيكون حزبك لاعبا مهما في مستقبل العمل السياسي، ولا أحد يتكلم في اليمن عن «الاجتثاث»، فهل بعد ذلك من مكسب أخي الرئيس؟! أما الذي يقول لا تزال في جعبتنا كثير من السهام، فهو لا يعدو أن يكون أحد ثلاثة: إما أن يكون واحدا يكذب وهو يعلم أنه يكذب؛ لأنه يرى أنه سيذهب من دون وجودك في السلطة، وأنك ضمانته الوحيدة للبقاء، ولا يهمه أن تتحمل أنت عنه مسؤولية مقبلات الأيام، ما دام يتمترس بك، ويعيش في امتيازاته على حساب رصيدك. وإما يكون واحدا ضعيفا لا يريد أن يكاشفك بحقيقة ما يدور في الكواليس في الداخل والخارج، ويخفي عنك ما يعلم أو يدرك على الرغم من أنه يتمنى في قرارة نفسه أن توقع على المبادرة الخليجية، وإما يوكن آخر أحمق لا يدرك أبعد من طرف أنفه المنفوخ حمقا وكبرياء زائفة. وإني لأعيذك يا أخي الرئيس أن تجد نفسك محاطا بمحتال يتكسب على حسابك، أو ضعيف يخشى أن يغضبك إذا أشار عليك بما فيه مصلحة البلاد ومصلحتك، أو أحمق لا تدار بمثله الأمم والشعوب .

أخي الرئيس، أعرف أنك عانيت كثيرا من السلطة والمعارضة، لكن أشد العناء هو الذي يعانيه المرء من نفسه، كما أن أعظم الانتصارات هو انتصار الإنسان على ذاته. أعرف أنك تعرضت للموت في عملية مدانة، وأن الفاعلين يجب أن يخضعوا عرفا للمحاكمة، لكن كثيرين عانوا، وكثيرين قُتلوا، وما علينا إلا أن نبدأ عقدا جديدا من التسامح الذي عُرفت به، والعفو المعهود عنك. أعرف أن المعارضة توظف مجريات الأمور لصالحها سياسيا، وأنها تستفيد كما تخسر أنت من إراقة الدماء، لكن هذا شأن المعارضات في العالم: تصيد الأخطاء، وتوظيف الأحداث.. وإلا فكيف يمكن أن تكون معارضة في عالم اليوم الذي يخلو، بالطبع، من المثاليات في الحكم والمعارضة على السواء؟

أعرف أنك قد تقول الكثير عن الشرعية الدستورية، وحقك في البقاء رئيسا دستوريا إلى 2013، غير أن هناك حالات تتحتم فيها مخالفة نص الدستور للتوافق مع روحه، وهناك أزمنة عصيبة يجوز فيها، حسب الفقهاء، إيقاف العمل بالحدود الشرعية لفترة معينة استجابة لمقاصد الشريعة الكبرى، ناهيك عن دستور وضعناه بأيدينا، وليس مُنزَّلا من السماء. واعلم - أخي الرئيس - أنك لست أول من تنازل عما يراه حقا له حقنا للدماء، ألا يرضيك أن تستن بالحسن بن علي عندما تنازل لمعاوية بن أبي سفيان عما كان يراه حقه في الخلافة حقنا لدماء المسلمين؟ ولست بمنزلة الحسن أخي الرئيس ولا من يأتي بعدك بمنزلة معاوية .

يقول الله يا أخي الرئيس: «لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ»، وأنت صاحب ذكاء مشهود له، مرت عليك المشاهد كلها، ونجاك الله من موت محقق، وعشت لترى مصارع قوم وذل آخرين. ونحن لا نريد لك مصرعا ولا مذلة، وإنما نريد مخرجا مشرفا لك وللبلاد كلها .

اختمها بخير - أخي الرئيس - يختم الله لك بخير، وعسى أن يتجاوز عنك سيئات الأعمال، واللهَ أسأل أن ينصرك على نفسك أولا، وعلى أنصارك ثانيا، أما خصومك فتنتصر عليهم يوم أن تنتصر على نفسك التي بين جنبيك، وأنصارك الذين بين يديك. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

* عن «الشرق الأوسط», 14/11/2011 .


في الإثنين 14 نوفمبر-تشرين الثاني 2011 02:07:10 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://m1.marebpress.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://m1.marebpress.com/articles.php?id=12317