ذكرى الاستقلال ... استلهام ومقارنة
د.عبدالباري باكر
د.عبدالباري باكر

الـ30 من نوفمبر 1967م يوما من أعظم الأيام في تاريخ اليمن الحديث، فيه تم جلاء آخر جندي بريطاني عن جنوب اليمن، وعند مرورنا بالأحداث العظيمة في تاريخنا وتتبعنا لبعض المجريات والحيثيات التي اكتنفتها ونتائجها، لحري بنا أن نقيمها بعمق حتى نستفيد من إيجابياتها ونحذر من تكرار سلبياتها، من هذا المنطلق أحببت أن استلهم بعض الأحداث التي ارتبطت بيوم الاستقلال وكان نتيجة لها، ومن ثم مقارنتها وإسقاطها على واقع نعيشه اليوم في ظل ثورة شعبية شبابية مباركة تجتاح عموم البلاد.

مقارنة بين زمنين…

(1)

"فرق تسد" أساس الحكم… من بريطانيا الاستعمارية إلى صالح ونظامه..

•اعتمدت بريطانيا في سياستها الاستعمارية على قاعدة " فرق تسد" منذ أن وطأت قواتها عدن في الـ19 من يناير1839م وبرزت تلك السياسة جلية في تعاملها مع الأحداث في الجنوب حين ذاك، وهذه السياسة هي التي أكسبتها فترة حكم لجنوب اليمن امتدت لـ129 عاما، مارستها بإتقان وحرفية، حتى وصلت البلد إلى مرحلة الاحتقان الشعبي وبداء المجتمع يتململ، فلجأ المستعمر إلى فكرة إنشاء ما سمي باتحاد إمارات الجنوب العربي في 11 فبراير 1959م حتى 18 يناير 1962م وأصبح يحمل مسمى إتحاد الجنوب العربي الذي يشمل 19 سلطنة وإمارة ومشيخة، ولم يهدأ المستعمر في بث الفرقة واختلاق المشاكل فيما بينها.

كان إنشاء الإتحاد خطوة أولى إلى الأمام بالنسبة للمطالبين بنيل الحرية، وكذلك خطوة متقدمة للامام لتثبيت العرش البريطاني تحت هذا المسمى الذي أرادت بريطانيا من ورآه تخفيف الاحتقان وامتصاص غضب المنادين بالاستقلال لأطول فترة ممكنة.

•أ- اعتمد نظام علي عبدالله صالح في حكمه الممتد لأكثر من 33 عاما على تلك النظرية "فرق تسد"، وبرز ذلك في مواقف عدة نذكر بعضها مثالا لا حصرا. في أواخر السبعينات رفض اليساريون وبعض القوميين العرب حكم صالح فعمدوا إلى المواجهة المسلحة وحققوا نتائج ملموسة كادت أن تقضي على حكمه في مهده لولا انه تحالف مع القبائل والإسلاميين فكانت الغلبة له، بعد إنهاك قوى المواجهة، فما لبث أن انقلب على حلفائه سريعا.

ب- بعد قيام دولة الوحدة أعاد صالح التحالف مع القوى الإسلامية والقبلية في مواجهة شريكه السياسي في الحكم "الحزب الاشتراكي اليمني" واستمر هذه التحالف إلى ما بعد إقصاء الحزب الاشتراكي عن الحكم بالقوة، ومن ثم أعاد الكرة مرة أخرى وانقلب على حلفائه وأقصاهم أيضا عن مراكز القرار والحكم.

ج- مارس نظام صالح خلال عقود حكمه إشعال الحروب القبلية والنزعات المناطقية، وغذاء أطراف الصراعات المختلفة بمد يد العون ماديا ومعنويا وتسليحا أحيانا كثيرة لخصمي الصراع، حتى أصبحت اليمن شبكة من المشاكل المتداخلة والمتراكبة في مشهد معقد.

د- رغم الإتقان في اللعب على المتناقضات التي انتهجها نظام صالح إلا أن الشعب حدد مساره، فمنذ انطلاقة الثورة الشعبية الشبابية السلمية في اليمن وصالح يحاول جاهدا أن يعيد إنتاج سياساته التفريقية بوجوه متعدد، أهمها وأخطرها إثارة الفرقة في الصف الثوري ومحاولة تفتيته وتقسيمه حتى يحفظ ما تبقى من أركان حكمة.

(2)

 ما بين اتفاقية الجلاء والمبادرة الخليجية..

•منذ اليوم الأول للاحتلال تواصل النضال الشعبي بصور متقطعة ومختلفة ومتواضعة أحيانا أخرى، وأنتجت هذه النضالات لعقود طويلة من القهر والاستعمار إلى إشعال جذوة الثورة في الـ14 من أكتوبر 1963م من جبال ردفان لتبلور مرحلة جديدة وقوية من حرب التحرير، أنهكت ثورة أكتوبر المستعمر وبداء يفقد توازنه أمام ضربات الأحرار، مما دفعة إلى الدعوة لعقد مفاوضات لتسليم الجنوب. عقدت المفاوضات في جنيف ما بين الـ21 والـ29 من نوفمبر 1967م ما بين وفد الحكومة البريطانية ووفد الجبهة القومية (ممثلا عن الجنوب)، تم توقيع الاتفاقية بعد مفاوضات مضنية. ما لفت نظري في الاتفاقية هو بند التعويضات و"الحصانة"، حيث ماطل اللورد شاكلتون ( رئيس وفد المفاوضات البريطاني) بدها في إقرار التعويضات وإرجاء نقاشها إلى ما بعد الاستقلال، مما دفع وفد الجبهة القومية إلى الموافقة على ذلك، ربما غمرتهم فرحة الاستقلال ، ثم بعد الاستقلال تخلت الجبهة القومية عن المطالبة بالتعويضات أو الملاحقة الحقوقية والقضائية للجرائم التي ارتكبت في الجنوب من قبل المستعمر، متجاهلة المعاناة التي يعيشها مواطنوها، كل ذلك تحت تأثير نشوة النصر، بالرغم أن البلد في حينها كانت أحوج ما تكون إلى ذاك الدعم المستحق كتعويض أولي لقرن وثلث قرن من الاحتلال. وكذلك موافقتهم على فتح صفحة جديدة وطي صفحة الماضي!!

ابرز بند في الاتفاقية هو اعتراف بريطانيا بجمهورية اليمن الجنوبية الشعبية ككيان قائم ومستقل.

حدثني بعض مناضلي حرب الاستقلال عن هول الجرائم والقتل والتنكيل التي حصلت في عدن على يد قوات الاحتلال حينها، بل أن احدهم قال لي : (إن ما حصل فيسجن أبو غريب في العراق يعتبر نزهة لما اقترفته بريطانيا في الجنوب)، الفرق فقط في الإظهار الإعلامي.

 منذ وصول صالح إلى الحكم لـ33 عاما خلت ونضالات الشعب اليمني مستمرة في مواجهته بأشكال مختلفة ومحدودة وخجولة أحيانا، ولكن تلك النضالات التراكمية شقت طريقها لتكون ثورة شعبية سلمية شاملة كما هو حاصل اليوم ومنذ 10 أشهر، تخللتها مساعي جمة للعمل السياسي وتبلور ذالك في المبادرة الخليجية وآليتها وتم التوقيع عليها من قبل صالح ونظامه والمعارضة من جهة أخرى، تشمل هذه المبادرة على حصانات وضمانات لمن تلطخت أيديهم بدماء اليمنيين ولمن عاثوا في الأرض فسادا، وخرج المعارضون في نشوة نصرهم إلى إعلان انتصارهم في تنحية صالح عن الحكم، متناسيين الحصانات وما نُهب من أموال الدولة، وتغليب فتح صفحة جديدة على مراجعة صفحات مطوية مليئة بالدماء والظلم والبطش والفساد بجميع أشكاله وألوانه، وكذلك مُغفلين أمرغاية في الأهمية، ألا وهو اعتراف النظام بالثورة " كما اعترفت بريطانيا بدولة الاستقلال".

(3)

ثم ماذا بعد؟..

•نالت جمهورية اليمن الجنوبية استقلالها في 30 نوفمبر 1967م، وحقق الشعب مُراده وحلمه، وبداء العمل حثيثا على بناء دولة حديثة وقد أسهم الإرث البريطاني في إنشاء الدواوين والهيئات الإدارية للبلد والكوادر المؤهلة، واندفع الجميع لتشييد البلد رغم بزوغ الخلافات وظهورها للعلن منذ وقت مبكر للاستقلال بين المكونين السياسيين الرئيسيين الجبهة القومية وجبهة التحرير، وكانت بدايتها اتهام جبهة التحرير للجبهة القومية بأنها تخلت عن التعويضات ودفاع الأخرى عن صوابية ما فعلت، بل وصلت الاتهامات للجبهة القومية أنها أهملت بند التعويضات لإمتيازات خاصة حصلت عليها، وهذا ما أجج الأحداث وسارع في اشتعالها، واستمرت تلك الصراعات التي طغى عليها غالبا الجانب المناطقي في الظهور من فترة لأخرى، وجر البلد لمواجهات مسلحة وتصفيات في ضل هشاشة البنية التحتية، بسبب التعويضات والحق المشروع لشعب الجنوب الذي تخلى عنه المفاوضون الأولون لنيل الاستقلال، ولازلنا نعاني منه إلى اليوم.

•فيما بعد توقيع المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية، ظهر إلى السطح تباين الرؤى في الوسط الثوري، بسبب ما تضمنته المبادرة من ضمانات وحصانة لنظام صالح، مع تجاهل للوضع الاقتصادي المتدهور على مستوى الدولة والمؤسسات والفرد، مما يولد امتدادا لخلافات موضوعية وأخرى مفتعلة ربما يعيد صالح من خلالها إنتاج نظامه مستغلا تلك التباينات والوضع الاقتصادي الهش، وقد تتحول البلد إلى ساحة مفتوحة لصراعات وتصفية حسابات، مالم يتم تدارك ما يمكن تداركه من لحمة النسيج الاجتماعي والاعتزاز بقوة الحق بعيدا عن حق القوة.

واستمرار الثورة بكل مكوناتها وفق رؤية منهجية وسياسية واحدة هو الضامن لتجنب أخطاء الماضي مما سيسهم في بناء الدولة والانتقال إلى مستقبل مشرق تُنير دربه نضالات شعبا لا يمل حتى ينال مبتغاة.

وفي التاريخ لنا دروس وعبر، لا لنحكيها فحسب وإنما لنتأملها كي لا نعيد أخطاء التاريخ مرتين.

خاتمة

-----

رحم الله الأديب الكبير عبدالله البردوني حين قال:

فظيع جهل ما يجري... وأفظع منه أن تدري

وهل تدرين ياصنعا؟... من المستعمر السري

غزاة لا أشاهدهم... وسيف الغزو في صدري

ترقّى العار من بيعٍ... إلى بيع بلا ثمن

ومن مستعمر غاز... إلى مستعمر وطني

*الناطق الرسمي لتجمع اليمنيين في روسيا للتغيير

 
في الخميس 01 ديسمبر-كانون الأول 2011 09:43:57 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://m1.marebpress.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://m1.marebpress.com/articles.php?id=12604