حول مفهوم "الجنوب العربي" (2)
د. عيدروس نصر ناصر
د. عيدروس نصر ناصر

ملاحظات أولية:

لست من المهتمين كثيرا بالتعليقات التي تكتب على ما أنشره من موضوعات على المواقع الإلكترونية ليس للاستغناء عن رأي القارئ الكريم أو للتعالي عليها، لكن لأنني لاحظت من الكثير من القراءات أن معظم من يكتبون تعليقات لا يحاولون مناقشة الفكرة وتفنيد ما قد يكتنفها من أخطاء، ولو من وجهة نظرهم، بل أن معظمهم يعبرون إما عن الغضب أو عن الرضا تجاه صاحب الفكرة وليس تجاه الفكرة ذاتها، ويصل هذا الغضب في كثير من الحالات إلى تصدير الاتهامات وكيل الشتائم والسباب، وهو ما لا يستحق التوقف عنده أو التعليق عليه، لكن العديد من الاتصالات والرسائل التي وصلتني عبر البريد الإلكتروني تعليقا على الجزء السابق المعنون "حول مفهوم الجنوب العربي" دفعتني إلى التوقف عند بعض الإيضاحات:

1.لقد حاولت من خلال الجزء الأول من هذا الموضوع إيضاح مجموعة من الحقائق التاريخية والجغرافية والسياسية التي لا يمكن الأخذ والرد فيها وهي ليست موضوع جدل بل إن كل مبتدئ في قراءة التاريخ اليمني يدركها دونما حاجة إلى جهد كبير، وما يمكن قوله فقط أن التمسك بمفهوم "الجنوب العربي" هو تمسك بمفهوم مشوش وملتبس يضيع من القضية الجنوبية الكثير من الحقائق التي تخدمها ويقدم لها الكثير مما يضر بمضمونها، وبالتالي فإنه سيكون من الخطأ وعدم الحكمة إضاعة الموجود والبحث عن المعدوم اعتقادا بأن هذا النوع من الطرح يخدم القضية الجنوبية.

2.إن التحفظ على مفهوم "الجنوب العربي" لا يعني تنكرا للقضية الجنوبية أو تراجعا عن مضمونها أو تخليا عن مشروعيتها والانتصار لأجقيتها، وبالتالي فإن ما اشتمله المقال عن "الجنوب العربي" هو تأكيد على حيوية ومضمون وأحقية القضية الجنوبية، وهو ما يقتضي التأكيد على إن انتصار القضية الجنوبية لن يتأتى من خلال إدخالها في متاهات المسميات والتنازع على المفردات والألفاظ المشوشة والمرتبكة، بقدر ما يتأتى من خلال إبراز مضمونها العادل وجوهرها المشروع وأحقيتها في الحياة، وحشد الأنصار لها وتعرية الواقفين ضدها وإقناع من يمكن إقناعه منهم بعدالتها، وليس البحث لها عن أعداء وخصوم جدد هم أصلا ليسوا خصومها.

ما الذي يجعل العديد من المثقفين والناشطين المدنيين يتمسكون بـ"الجنوب العربي"؟

في تصوري إن عدة عوامل تكمن وراء هذا الموقف المنادي بـ"الجنوب العربي" لا بد من إيضاحها من خلال التأكيد على القضايا التالية:

1-هناك تصور لدى العديد من المنتميين إلى الجيل الشاب، الذي تكون ما بعد العام 1990م، وبعض المسنين بأن الانتماء إلى اليمن هو الذي تسبب في كل ما يعانيه هذا الجيل من آلام وتهميش وإقصاء واستبعاد من كل معادلات الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية اليمنية، خاصة وهم يربطون كل ظواهر التدهور والتراجع الذي شهده الجنوب بسياسات ما بعد العام 1990م وبالتحديد ما بعد العام 1994م، عام الحرب على الجنوب، وفي الحقيقة إن لهذا الاعتقاد ما يبرره حيث عمد نظام ما بعد 7/7/ 1994م إلى التعامل مع الجنوب كغنيمة حرب والنظر إلى المواطن الجنوبي على إنه كائن فائض عن الحاجة لا يستحق أكثر من السماح له بالحياة فقط، باستثناء من قبلوا على أنفسهم أن يلعبوا دور المروج والمسوق لتلك السياسات المعوجة.، لكن الحقيقة إن المشكلة ليست في يمنية الجنوب أو عدمها بقدر ما هي في السياسات غير السوية التي عومل بها الجنوب منذ 7/7، ولو قيض لليمن أن يقودها نظام عادل وحكيم ينهض بحقوق الناس ويحشد الطاقات من أجل التنمية ويوسع دائرة الحريات ويحترم حق المواطنة ويحارب الفساد والتعالي والازدراء ويعمم الفضيلة ويحارب الرذيلة لكان وضع الجنوب، واليمن بشكل عام أفضل بكثير من العديد من البلدان المجاورة، لكن ما عاناه الجنوب وكل اليمن يعود إلى طبيعة السياسات غير الرشيدة وغير الحكيمة وغير الوطنية التي انتهجها النظام منذ إعلان الوحدة في العام 1990م.

2-الحقيقة أن هناك عدة محاولات غير واعية، وربما واعية، لتصوير القضية وكأنما هي صراع بين الشمال والجنوب وبما إن هناك من صور الشمال على إنه الأصل والجنوب على إنه الفرع، فقد نجم عن هذا تصور يقضي بأن الشمال هو اليمن، أما ما عداه فهو غريب عن اليمن، وحيث أن كل الشرور التي تعرض لها الجنوب بعد حرب 1994م كانت بسبب زحف المنتصرين على أراضي المهزومين فقد تصور البعض أن الحل يكمن في إنكار يمنية الجنوب وكأنما هذا هو المخرج لتخليص الجنوب والجنوبيين من معاناتهم وهو في كل الأحوال تصور مبني على معطيات خاطئة وكل ما ينجم عنه هو خاطئ بالضرورة لأن إنكار يمنية الجنوب لا يقدم للقضية الجنوبية إلا مزيدا من الأضرار والإساءات بقدر ما يسلبها الكثير من نقاط قوتها.

3-إن العودة إلى الحديث عن الـ"جنوب العربي" يعيدنا إلى مراحل تاريخية كان شعبنا قد تجاوزها وانتقل إلى مستوى أكثر رقيا وتقدما منها من خلال قيام جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية بمساحاتها المعروفة، وكان يمكن لوحدة 22 مايو أن تغدو علامة مشرقة في تاريخ اليمن لو لم تفرغ من مضامينها وتتحول إلى غنيمة شخصية للفاسدين والمتنفذين والشطريين، والأهم من هذا إن تجاهل أو شطب ثورة 14 أكتوبر وما ارتبط بها من تحقيق الاستقلال وتوحيد أكثر من 23 دويلة وسلطنة في دولة واحدة، وما تحقق من تحولات اجتماعية وثقافية ومصالح لأوسع الطبقات الاجتماعية على الأرض إنما يمثل جناية جديدة في حق التاريخ وفي حق آلاف المناضلين ومنهم الشهداء والجرحى وضحايا القمع الاستعماري من ثوار الجبهة القومية وجبهة التحرير والتنظيم الشعبي وبقية الفصائل الوطنية والمنظمات والاتحادات التي بنضالها المسلح أو السلمي أجبرت الاستعمار على الرحيل، بغض النظر عما يكون قد رافق هذه الثورة من أخطاء لاحقة، ومن هنا فإن الجاذبية التي يصنعها مفهوم "الجنوب العربي" لدى البعض إنما يقابلها نفور لدى أوسع قطاعات الشعب والأهم من هذا ما سيترتب على ذلك من أضرار جسيمة بالوعي الوطني وبالحقائق التاريخية المشرقة لشعبنا اليمني وبالتاريخ الجنوبي المليء بكل ما هو مشرف ومضيء.

4-إن انتشار تعبير " الجنوب العربي" في حديث معظم المحسوبين على أطراف الحراك الجنوبي، إنما يأتي كجزء من انتشار ما يمكن تسميته بـ"ثقافة العشوائية السياسية" والتي تأتي من خلال الانصراف نحو الإكثار من التشكيلات السياسية، ثم الانصراف إلى التصارع والتنازع والتنابز بالألقاب في ما بينهم، ثم الإغراق في التسميات والمسميات التي تلحق بالقضية من الضرر أكثر مما تقدم لها من الفوائد، وغالبا ما يتم اختيار المسميات والشعارات والتصريحات بعيدا عن أي تأصيل سياسي وفكري للقضية والتعامل بيقظة وحذر وتعمق مع ما يترتب على كل تعبير وكل شعار وكل تصريح يصدر عن هذا الطرف أو ذاك، وفي نظري أن السبب الرئيسي وراء كل هذا هو غياب رؤية سياسية متجذرة ومؤصلة ومدروسة ومعلنة، وثانيا عدم وجود إطار سياسي واضح المكونات والهيئات للتعبير عن القضية الجنوبية.

إن مقولة "الجنوب العربي" قد خلقت وعيا مشوشا لدى الناشطين الجدد من جيل ما بعد 1990م فنشأ لدينا وعي مغلوط حول الموقف من الحقائق التاريخية سواء ما يتصل منها بنضالات الشعب في الجنوب من أجل التحرر والاستقلال من الاستعمار الأجنبي أو حول المفاهيم التاريخية والسياسية لليمن الطبيعية، التي لو قدر لها أن تحظى بقيادة وطنية مسئولة لحققت الأمان الرفاهية والكرامة والعزة والتقدم لكل اليمنيين، وللأسف الشديد فقد سمعنا من الحديث ما يعبر عن الأسف لخروج الاستعمار من خلال مقارنة الاستعمار البريطاني مع النظام ما بعد 7 يوليو، وهي مقارنة غير مستقيمة لأنها تقارن بين قيمتين شريرتين وليس بين قيمة خيرة وقيمة شريرة، كما سمعنا من الحديث ما يحمل من العدائية تجاه كل شيء شمالي أو يمني إلى درجة أن بعض الشباب صاروا يساوون بين علي عبد الله صالح وعبد الفتاح اسماعيل، أو بين أحمد الغشمي والشهيد مهيوب علي غالب (عبود) لا لشيء إلا لانتمائهم إلى الشطر الشمالي وهذا النوع من الوعي إنما يقوم على السطحية والاجتزاء والعشوائية، وللأسف الشديد تبنى عليه مواقف خاطئة ومدمرة لأنها تتوه الجيل الحديث المناط به قيادة المستقبل في اصطناع عداوات مع من ليسوا أعداء ناهيك عمن دفع حياته وأفضل فترات عمره من أجل قضايا الوطن ومصالح كل الوطن والجنوب على وجه الخصوص، كما صرنا نسمع من يلعن الثوار والشهداء من قحطان الشعبي إلى عبد الله با ذيب إلى سالم ربيع وفيصل عبد اللطيف ومحمد علي هيثم ورفاقهم، لأنهم ربطوا اسم الجنوب باليمن، أو من يصور أن إطلاق اسم جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية على دولة الاستقلال في العام 1967م على إنه كان مؤامرة ضد الجنوب من الشماليين الذين دخلوا صف الثورة وهو كلام سطحي لا يقوم على أي حجة ولا يمتلك أي براهين أو معطيات مقنعة، كما إنه لا يقرأ الحدث من ارتباطه باللحظة التاريخية وبالترابط الاستراتيجي بين الثورتين اليمنيتين ونضال الشطرين وبالمد الثوري القومي والعروبي والإنساني في تلك الفترة التاريخية، وهو بنفس القدر يمثل استخفافا بنضالات جيل كامل من خيرة أبناء الشعب اليمني الذين وهبوا أرواحهم وشبابهم من أجل الحرية والاستقلال والتقدم والتنمية والعزة والكرامة لكل اليمنيين

وللحديث بقية.

برقيات:

*لا يمكن للحوار الوطني أن يصيب النجاح المنشود أو جزءا منه ما لم يكن منفتحا على استيعاب كل فكرة جديدة يأتي بها الشركاء خارج السلطة، وأقصد هنا شباب الثورة والحراك والحوثيين وممثلي القطاع الخاص ومنظمات المجتمع المدني ممن لا ينتمون إلى القوى الحزبية المشاركة في حكومة الوفاق وأقصد بالفكر الجديد ما قد لا يروق لشركاء السلطة من تصورات أو مقترحات ورؤى.

*شكرا للرئيس علي عبد الله صالح على توجيهه للمتمرد محمد صالح الأحمر بتسليم قيادة سلاح الطيران للقيادة الجديدة ولقائد الحرس الجمهوري بسحب المسلحين من القاعدة الجوية، وشكرا له على توجيه جماعة أنصار الشريعة بالإفراج عن الأسرى من الجيش اليمني.

*قال الشاعر العباسي الوليد بن عبيد بن يحيى الطائي أبو عبادة البحتري:

وذي ثقة تبدل حين أثرى، ومن شيمي مراقبة الثقاتِ

فقلت له: عتبت بغير جرمٍ فراراً من مؤونات العداتِ

فـــــــعد لمودَّتي وعليَّ ألّا   أبثَّــــك حاجةً حتَّى المماتِ


في الإثنين 30 إبريل-نيسان 2012 04:11:10 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://m1.marebpress.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://m1.marebpress.com/articles.php?id=15321