لا للحمدي..!!
رياض المسيبلي
رياض المسيبلي

ترددت كثيرا في كتابة هذا المقال؛ حتى لا يفهم كلامي بطريقة لا أرضاها. لذلك أجدني قائلاً:

أنا من جيل لم يعرف حكم الحمدي رحمه الله, لكنّ الحمدي كان وما يزال الصورة المشرقة في وعي كل من يأمل أن تصبح اليمن بلداً حرّاً يسير إلى المستقبل بخطى واثقة من العلم والوعي. ظل الحمدي في وعي اليمنيين رمز الحكم الرشيد الذي طالما حلموا به. ظل الحمدي رمزاً يرفعه أبناء وطننا في وجوه مسودّة بالفساد والجرم والعمالة. ربما حيكت حول الحمدي الكثير من الأساطير, فقد تحول هو إلى أسطورة يذكرها الأجداد لتقتات الأجيال على ذكرى رجل "طيب" من طينة هذا الشعب الكريم. لكن لا يستطيع أحد الإنكار أنّ الحمدي سبق زمنه في كثير من أحلامه وتوجهاته. يكفي أنّه كبح جماح المشايخ الذين اعتقدوا أنهم يملكون البلاد والعباد(وقد غدوا ممّن غدر به). نعم, أصبح الحمدي أغنية أم ووصية أب, أصبح أحاديث شهرزاد تذكّر الطاغية طوال الثلاثين سنة ونيف جرمه وخيانته, بل وربما لإشغاله عن قتل المزيد من (يمننا), لكن آن ليمننا أن يُسكت شهرزاد عن الكلام؛ لأنّ اليمنيين قالوا للذل كفى.

نبذ اليمنيون الخوف جانباً ليقولوا لأحد أكثر من حكم اليمن فساداً وقذارة: لسنا ملكاً لك أو لأسرتك, وآن لليمن أن تدخل عصر التمدّن والحرية والكرامة.

وكما كان الحمدي غرسة البن في يمننا, كانت صوره وقصصه أكثر وجوداً من أي وقت مضى. إنّه حنين اليمني للنقاء.

سيبقى الحمدي رحمه الله أكبر دليل على أنّ اليمن ليست عصية على التغيير, وأنّ من أكبر العقبات في طريقها إلى ذلك نظام مترابط من فسدة العسكر وجهلة المشايخ. وأنّ القبيلة كما كانت وما زالت أساس مجتمعنا, ورمزاً للكثير من قيمنا وأخلاقنا, قد تكون أيضاً وبالاً ودافعاً لليمن إلى الهاوية متى ما ابتعدت عن روحها وأخلاقها, وسادها جهالها كما قال شاعر الأزد (الأفوه الأودي).

لكنّ الثورات هذه إنّما قامت لإنهاء ثقافة الرموز التي حطّمت إمكانياتنا الفكرية كأمّة, وليس المجال هنا لشرح أسباب ثقافة الرموز هذه, ولكن ما يهمنا هو أنّ نهايتها قد حانت, وأنّنا في زمن النظام الذي يتجاوز الرؤى الفردية وقداسة الرموز إلى ثقافة سيادة القانون وإرساء أسس دولة العدل, وإيجاد فضاء حر للنقاش والتصحيح والنقد والتدافع الثقافي والحضاري.

لم تكن اليمن طوال تاريخها السياسي بفريدة عن غيرها من بقاع العالم الإسلامي؛ إذ لم تقم فيها سوى دول مستبدّة تستخدم الشرع لمصالحها وتضرب به عرض الحائط متى ما رأته حاجزاً لها عمّا تريد. لكنّ ربما تفرّدت اليمن عن غيرها بالصراع السني الزيدي طوال تاريخها الإسلامي. نعم, هناك فترات قصيرة غاب عنها هذا الصراع أو ربّما وجدت أنظمة سياسية لا تنتمي إلى أهل السنة ولا الزيدية ,كالصليحيين مثلاً, لكنّ الطابع العام لتاريخ اليمن كان بين مد وجزر بين الطائفتين (سنّة أو زيدية).(1)

إنّ غياب الإرث السياسي الرشيد يعد معضلة أمام بناء دولة النظام. فهذا الجانب لا يصلح معه حشو المعلومات أو قراءة نصوص هنا وهناك؛ إذ أنّ الممارسة هنا هي المحك الرئيسي. فلا غرابة ألّا تقوم دولة قانون بعد سقوط الإمامة أو خروج المستعمر, وذلك لأنّ التجربة السياسية الناضجة غابت في كلا الشطرين, واتّضح بعد نصف قرن من قيام الثورتين(سبتمبر وأكتوبر) فشل الثوّار والرفاق في إقامة دولة حقيقية في اليمن. حكم الاستبداد الفردي اليمن باسم الإمامة أو السلطنات, ومن ثمّ حكمها باسم الجمهورية. بل إنّه تغلغل إلى أوساط المجتمع اليمني بشكل مرعب. فالقبيلة التي كانت قائمة على اختيار الأصلح, والشيخ الذي كان ناصراً للضعيف, كل ذلك تغيّر؛ فأصبح الشيخ مستبدّاً صغيراً, ووجدت نماذج مشينة من هؤلاء المشائخ الفسدة دلت على انهيار حضاري, وما مأساة الجعاشن, أو ملف العبودية الذي كُشفت تفاصيله على موقع (المصدر أون لاين), سوى أمثلة على هذا الانهيار.

إذا كانت الزيدية كفكر تعد من مفاخر اليمن, مثلها مثل إرث السنّة, إلا أنّ نظام الإمامة ,الذي حكم في اليمن لأكثر من الف عام, كان من أكبر النكبات في تاريخ اليمن في زعم كاتب المقال. وذلك لأنّ النظام الإمامي ارتبط بثقل عقائدي بخلاف الدول السنّية. وقد برزت آثار هذا الثقل العقائدي خلال سيطرة الدول الزيدية على مناطق شافعية, فظهرت على سبيل المثال نظرات الحكّام إلى هذه الرعية التي شكّلها اختلاف العقائد, والخلاف حول إذا ماكنت الرعية السنّية هذه كفار ملّة أم كفار نعمة, وما يترتّب من نتائج على اعتقاد أحد الرأيين كان له أثره العميق في الذاكرة الشعبية, والنظرة إلى الدولة بشكل عام. ولعلّ أشهر الأمثلة هو موقف الإمام المتوكّل إسماعيل, أحد القلائل الذين حكموا اليمن من المخلاف السليماني إلى ظفار الحبوضي, والذي كان يردّد قائلاً , بخصوص مصادرته الأراضي التي كانت ملك سكانها الشافعية: أخاف أن يسألني الله عنها!(2) (أي إذا لم يصادرها!)

لقد كان لنظريّة الإمامة عند الزيدية, سواء بحصر الإمامة في ذريّة الحسنين, أو باشتراطهم الاجتهاد فيمن يدّعي الإمامة وغير ذلك, دوراً كبيراً في تشكّل تصوّر معنى الدولة عند الكثير من اليمنيين. فأنصار الرؤية الزيدية لن تعدو نظرتهم حدود المقرّر في المذهب, وأمّا معارضوها فقد ساقهم تعصّبهم أحياناً إلى موقف(أعرف مالا أريد, لكنّني لا أعرف ما أريد). إنّ شرط الاجتهاد في الإمامة ساق الدولة إلى أن تكون تبعاً لما يقرّره اجتهاد الإمام؛ لذلك ستجد موقف المتوكل إسماعيل بخصوص أهل السنّة , وستجد موقف الإمام عبدالله بن حمزة في إبادته للمطرّفية لا يخرج عن هذا (الاجتهاد). إذن, لم تكن هناك أيّة ضمانات تمنع من تعسّف الإمام المستبد, ويزداد الأمر سوءاً إذا كانت الرعية من طائفة أخرى(3). لقد كان إشكال الدولة الزيدية يتمثّل في طبقيتها بالنسبة لأتباع المذهب الزيدي, وثقلها العقائدي بالنسبة لغير الزيدية(4), فكانت وبالاُ على الجهتين. ولعلّ في هذا التاريخ درس لنا اليمنيين لتحقيق كافة الضمانات التي تحول دون وقوع أي تعسّف طائفي أو تحت أي مسمّى كان. 

لكن ماذا عن الدول السنّيّة؟ لا شك أنّ الدول السنّيّة التي قامت لا تتميّز بشيء في جورها أو أخطائها عن مثيلاتها الزيدية. لكنّ الفرق في الحالة السنّيّة هو غياب الثقل العقائدي. فلن يجد الباحث, على سبيل المثال, النقاش عن مدى إسلام الرعية الزيدية عند سيطرة دولة شافعية على مناطق يعتنق أهلها المذهب الزيدي.(5)

إنّ الدولة المدنية هي التي ترسي أسس النظام والالتزام به, ويكون فيها الشعب مشاركاً لإيجاد الحلول لمشاكله, وتتكاثر فيها المؤسسات المدنية, ويكون السعي الدؤوب والمشاركة الفعّالة أسساً لمجتمع منفتح أمام أبنائه وجهودهم, لا الحلول الجاهزة والقاطعة للجهد البشري, أو الرؤى الضيّقة العاجزة عن رؤية أبعد من قدميها. دولة (يقل) فيها الاعتماد على السلطة في كل شيء, وتكتّف فيها أيادي السلطة بكافّة الضمانت لاجتناب أي استبداد في مجتمع يخطو خطواته الأولى في سبيل بناء وطن منفتح على كافّة أبنائه. والإشارة إلى الاعتماد على السلطة إنّما كان تنبيهاً لمخاطره العديدة, ولكن لعلّ أخطرها توسّع البيروقراطية, وحرص الناس على الارتباط بالدولة (وضيفياً) يضيّق من مساحة العلاقات الانسانية لتحل علاقات (المصالح) بدلاً من ذلك, وهو تهديد أخلاقي بالدرجة الأولى.

ما نحن مقدمون عليه اليوم, هو أنّ المشاركة الفعليّة والقلق الفكري المفضي إلى فضاء مفتوح , تتلاقح فيه الأفكار ووتتحاور وتتعارض أيضاً, هما الطريق الآمن نحو بناء مجتمع حي يؤمن أنّ الحل هو في العمل الدؤوب والمستمر للوصول إلى الأفضل. ولقد كان من لطف الله بنا أن جعل الثوابت في حياتنا أقلّ ممّا يجهد أولئك الذين يريدون القضاء على إبداع الإنسان تصويره لنا, وترك لنا مساحات شاسعة للسير نحو إنسانيتنا, الشعلة المتّقدة في أفئدتنا التي ترفض الخضوع أو الركون إلى الأرض. وليست ثقافة الرمز ,التي احتشدت وراءها ثقافتنا أزماناً طويلة, سوى آية عجز تمكّن في النفوس والعقول, ولقد آن الأوان لنبذ العجز, والإيمان أنّ المستقبل ليس سوى سعي لا يفتر نحو الأفضـل.....

1-لم تكن الحروب مع الحوثيين من هذا الباب, بل كانت لعبة (سياسية) قذرة من نظام فاسد ضد جماعة خارجة حتى عن منطلقات الزيدية, ومستخدمة من قبل جهات عدّة, وهل علم الحوثيون أو جهلوا بذلك؟ فهذا شيء آخر.

2-انظر ترجمته في كتاب القاضي إسماعيل الكوع (هجر العلم ومعاقله في اليمن).

3-بالرغم من وجود مبدأ الخروج على الظالم عند الزيدية, إلا أنّ هذا المبدأ مكث حبيس الأوراق خاصّة إذا كان المضطهَد من غير الطائفة!

4- قتل الإمام صلاح الدين محمد بن علي الفقيه أحمد بن زيد الشاوري لموقفه من الزيدية, وقد سبّب ذلك ردّة فعل قوية عند علماء السنّة. انظر: الأكوع, (هجر العلم) 1/150. وتشدّد بعض الأئمة في تحريم تزويج الهاشمية لغير الهاشمي بطريقة لا يسندها دين ولا عقل. انظر ترجمة الإمام عبدالله بن حمزة, والمتوكّل إسماعيل في كتاب الأكوع السابق. 

5- ومع ذلك أقول: إنّ سيطرة الدولة الزيدية أوجدت ثقافة في مناطقها منعت من أن يسيطر المد الشيوعي عليها, بينما نجح هذا المد في مناطق السنّة لأنّ الرؤية للدولة والموقف منها اختلف تماماً.


في الإثنين 21 مايو 2012 07:13:30 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://m1.marebpress.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://m1.marebpress.com/articles.php?id=15656