إذا كانت النفوس كباراً
فؤاد الحبيشي
فؤاد الحبيشي

عندما يعيش المرء لذاته فقط تكون حياته قصيرة ضئيلة تبدأ عند وعيه وتنتهي بانتهاء عمره , وعندما يعيش لغيره تكون بداية حياته من حيث ابتدأت الإنسانية , لتمتد بعد مفارقة البشر للحياة الدنيا

فكم هو جميل أن يقاوم لكي يعيش وأجمل منه أن يقاوم ليعيش الآخرون.

وعظيم أن يكابد الإنسان ويصمد في معركته مع الحياة لحيا حياة الكرماء

وأعظم منه صموده ومكابدته في الحياة لحيا الآخرون حياة كريمة.

والمعركة من أجل البقاء شيء فطري في الإنسان والحيوان والطير وبقية المخلوقات ,فالحياة قاسم مشترك بين المخلوقات والبقاء فيها للأقوى.

لكن عندما تكون حياة الإنسان ومعركته في البقاء من أجل نفسه تكن حياة صغيرة عادية غير هامة ,مثلها مثل حياة أي حيوان همه إشباع غريزته وشهوته .

فنظرته نفعية طابعها حب الأنا والذات ,فالآخرون في نظره ,لا بد أن يكونوا له , أومن أجله أو ضده .

وعندما تكون الحياة من أجل الآخرين تصبح شيئاً آخر بالمبدأ والسمو والأهداف ,وتكون النظرة إليها مختلفة اختلافاً كبيراً عن النظرة الانفرادية.

فالأولى تحكمها الأنا الذاتية الانفرادية وحب الشهوة , والثانية تحكمها الوحدة والألفة والشعور بالآخرين.

لأن الشعور بالآخرين يتعدى حب الذات , و الأنا, ويتعدى أحاسيس الجسد حين يتداعى بالسهر والحمى لعضوِ مجروح.

رأى أحدهم رجلاً مسناً يغرس شجرة فقال له: لِمَ تغرسها وأنت مُسِن؟! ولن تستفيد منها ! لأنها من النوع البطيء في النمو!!

فقال الرجل : لا يضرني ألا أستفيد منها !!, ما يهمني هو أن يستفيد منها الآخرون من بعدي!!

فحب الآخرين والشعور بهم والتعب من أجلهم ليس بالأمر السهل أو الهين, على العكس من حب المرء لنفسه.

ولذا فالعظماء يحملون قلوباً وعقولاً أكبر من أجسادهم ,وينظرون إلى أبعد مما يتصوره الآخرون , همُّهُم يتعدى المألوف . والآخر عندهم شريك في الحياة له مالهم , وعليه ما عليهم , تربطهم به لغة الحوار وتجمعهم المصالح المشتركة , وتسود بينهم ثقافة الحقوق والواجبات.

بهذا يكون الفرد نموذجاً يحتذى به في الفهم والوعي والرؤية.

فهموم العظماء , أكبر من آلام الفقراء , وفهمهم أوسع من جشع الحمقى , ونظرتهم كبيرة تتعدى حواجز العمر الواحد

والإنسان يستطيع أن يكون كبيرا , بحجم الهم الذي يحمله والمشروع الذي يتبناه .

ومع مشاغل الحياة وآلامها القاسية ,وكذا هموم الفرد المتنوعة في المأكل والملبس والمسكن والعمل. والمتغيرة في الزمان والمكان والتي تجعل كاهل الانسان مثقلا بألوان المتاعب, فتكثر همومه وآلامه , بل وتنخر في جسمه نخر الأرضة ولربما صرعته فأردته قتيلا !! إلاَّ أن ذلك كله يهون أمام العظماء الذين أرادوا أن تكون وسائلهم وتصرفاتهم راقية ونفيسة بحجم الغاية والهدف الذي يصبون إليهه فالهموم عندهم هماً واحداً لا يتجزأ , ولأنهم كبار فهم مختلفون عن الآخرين في الفهم والوعي , الادراك

كما أن "النفس البشرية تختلف من انسان الى آخر وتتفاوت في التفكير بين عظيمة لا ترضى بالقليل وبين أُخرى رضيت بالدون"

 ويبقى الكبار هم الذين يعرفون متى الربح ومتى الخسارة لأن الربح في الدنيا قد يكون عين الخسارة في الآخرة والعكس .

والعمر والجسم ليسا مقياساً للنبوغ والوعي , فقد يبلغ الصغير مراتب يعجز عنها كبار القوم , وقد ينحطُّ كبير القوم الى مستوى يعجز عنه الأطفال

لآن النفس إذا كبرت جعلت الجسد لها مطيَّة , فيعلو صاحبها ويكبر ,وإذا هبطت كانت مطيَّةً للجسد , فينحط صاحبها ويصغر.

ونحن نحتاج من حين لآخر ان نعيد ترتيب اولوياتنا وحساباتنا مع أنفسنا ومع الله ومع الآخرين

لأنه مهما كانت اهدافنا نبيله, وامانينا كبيرة وعلى الوجه الحلال الا ان الدنيا تأخذ من طاقاتنا الكثير والكثير لتحقيق امور تبقى في الأخير دنيوية ..

كما أن الإنسان يستطيع أن يكون ذاك الشخص الكبير والعظيم , دون أن يتكلف الكثير من العناء, بل قد يكون موازٍي لعنائه الفردي أو أقل !! فقط عليه أن يشعر بمن حوله !! باعتبار الآخرين من بني جنسه , بشرٌ مثله , يؤلمهم ما يؤلمه , ويسعدهم ما يسعده , فيجمع همه الى همومهم ليكون هماً واحداً في جسدٍ واحد, ويتحول الهم الفردي الى الهم الجماعي , ويكون الفرد كبيرا وبحجم أُمَّه ..!!


في الأحد 03 يونيو-حزيران 2012 04:22:47 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://m1.marebpress.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://m1.marebpress.com/articles.php?id=15868