التحسس من التجسس
عبد الرحمن تقيان
عبد الرحمن تقيان

منذ إعلان رئيس الجمهورية عن تفكيك شبكة تجسس إيرانية واسعة تعمل في 3 مدن رئيسة يمنية، سرعان ما تشكل مستويان متباينان من مستويات التحسس للقضية، عبّر المستوى الأول عن التوجس من مجرد الكشف عنها كما بدا الأمر وعبر الثاني عن التحسس المضاد الذي شعر به طرفٌ وضع نفسه موضع المتهم بالتورط فيها.

لقد مثَّل المستوى الأول تحسساً خفيفاً للحدث ، قاده رئيس الجمهورية بنفسه، الذي يبدو حتى الآن أنه أدار بداية الحملة الإعلامية بطريقة غير مدروسة جاءت كحديث جانبي عارض اتسم بالرجاء والاسترحام ضمن محاضرة طويلة للرئيس مع طلاب الكلية الحربية وبدون أن يتبعه بسلسلة إجراءات جادة بقدر خطورة القضية، إذ تداولت الصحافة الأمر بتحسس أكبر من ناحية النشر لكنه حكومياً وكأنه عن تفكيك عصابة تقطع طريقاً ثانوياً في إحدى المناطق النائية. لقد كان تناول الرئيس المكتـفي بذلك الإعلان خجولاً ومتردداً، وظهر صمته بعدها وكأنه دُفع دفعاً لذلك دون أي إجراء حقيقي وحازم إزاء ذلك الأمر مثل إرسال خطاب رسمي شديد اللهجة لطهران والكشف عن أسماء ومناصب المتورطين والتوجيه بمحاكمات وطرد أو مشاورة دبلوماسيين، الأمر الذي سرعان ما جعل الرئيس الحلقة الأضعف خلال وقت قصير ووضعه عرضةً لاستخفاف رد مسئول إيراني صغير ومقالات وتصريحات صحفية هجومية عنيفة من شخصيات حوثية أو مرتبطة بها يرجح مراقبون بأن أشهرهم بحد ذاته مرجح أن يكون ضمن قيادات تلك الشبكة، الأمر الذي حدا بأحد المراقبين الإطلاق على الموقف الحكومي صفة "وفاق الجواسيس". فما معنى هذا الإعلان دون أن يسبقه اعتقال والكشف عن هوية أهم وأثقل أعضائها في البرلمان والقيادات الحزبية والتجارية كائنة من تكون، وليس مجرد الاكتفاء باعتقال مؤسس الشبكة وآخرين. ولعل هذا الموقف الرسمي الباهت سيكون نموذجاً يضرب في مناسبات كثيرة قادمة كمثل في تعمد السلطة الحط من قدر الأرض والانسان والقيادة في اليمن ومقارنة ذلك بطريقة تصرف أي دولة أخرى إزاء حدث مماثـل.

أما المستوي الثاني فهو ظهور طرف شديد التحسس وشعر بأنه المعني بالاتهام بالتورط في هذه الشبكة الجاسوسية، رغم أن الإعلانين الرسميين الوحيدين (من قبل رئيس الجمهورية ووزير الإعلام) لم يتضمنا أسماء أي أطراف سياسية أو اجتماعية كانت باستثناء تقارير ومقالات صحفية مستقلة لم تكن إلا في إطار المماحكات السياسية التي لم تصدر عن مصدر رسمي ولا حزبي، على الرغم من صمت متورطين محتملين آخرين يُعرف عنهما الارتباط المصلحي بإيران هما الحراكان اللذان يديرهما البيض وصالح الذي يُعرف عنه إجادته اللعب على كل الحبال والرقص مع كل الثعابين والذي لم يقم بالكشف عن الشبكة التي عملت 7 سنوات كاملة في البلاد إلا بعد أن تمت إزاحته عن السلطة وإزاحة ابن شقيقه وكبار معاونيه عن قيادة أعتى الأجهزة الاستخباراتية قبل شهرين فقط من الاعلان عن الشبكة.

لقد تولت كوادر ذلك الطرف (بداية من تصريح للشيخ سلطان السامعي) الدفاع عن تلك الشبكة بقوة بإنكار وجود شبكة أساساً واتهام الرئيس بخدمة قوى إقليمية على حساب شعبه ثم الدفاع المباشر عن شرعية تواجد إيران في اليمن متخذين العلاقة بين اليمن وكلاً من أمريكا والسعودية وأموال اللجنة الخاصة كمقياس وطني لشرعنة الفعل الإيراني في اليمن، وهم بذلك يحاولون تضليل الناس بأن المبادرات السعودية والأمريكية وبعض تدخلاتهما السافرة هي ممارسات شرعية لذلك فلا ضير لإيران من انتهاج نفس المسار في اليمن! وفي هذه المناسبة، أود الإشارة إلى دعم هذا التحليل بمقال شهير نشره الشيخ السامعي بعنوان "عبيد عبيد العبيد" قبل أشهر رداً على مقال كنت قد نشرته قبل مقاله بأربعة أيام بعنوان "العبيد الجدد"، حيث اعترف السامعي في نهايته بارتباطه بإيران بشكل مباشر وبأن تدخلاتها مرحب بها في اليمن أسوة بالتدخلات السعودية. أما خطر انعكاسات مقالاتهم فهي أنهم من خلالها عبروا عن مصلحتهم من نشرها لصالح إيران ورغبتهم بربط الفضيحة بتيارهم وهذا هو أول دليل مادي تاريخي معلن يكشف عن وجود تعاون متبادل بينهم و بين إيران.

لا ينبغي على السلطات الخوف من تصعيد الموقف خاصةً أنه تبين بالدليل تورط إيران بشكل سافر في شئون البلاد ولا يمكن الاكتفاء بتصريح رئيس الجمهورية بقوله مخاطباً إيران "راعوا ظروف اليمن واتركوا اليمن وشأنه، إلى هنا وكفى"، لأن إيران كما يعلم الجميع لن تكف عن التدخل أساساً. يمكن للسلطات إدارة الحدث باستثماره بشكل أفضل عبر الكشف للرأي العام عن مزيد من المعلومات وشهادات الجواسيس المضبوطين عن أنشطة الشبكة وشخوصها (خاصة لو اتضح التورط بحوادث سابقة / وجود نوايا بعمل عمليات ارهابية) أو من أجل التأثير والإقناع المجتمعي بوجود دليل لا يقطعه شك على تدخل إيراني في شئون اليمن يمكن عبره الحد من "الحوثنة" والتشيع واكتساب القضية الجنوبية صيغة العنف وقبول الدعم الايراني في مقابل اكتساب العداء الخليجي بعيد المدى ضد قضيتهم ومواطنيهم لديهم.

لن تسكت طهران عن اعتقال جاسوسها في الوقت بالتفاوض مع الحكومة لإطلاقه مقابل التهدئة واللعب بحبل المجموعات الحوثية، كما لن تألوا الولايات المتحدة والسعودية عن استمرار ضغوطها لضمان استمرار سلسلة إجراءات تفكيك الشبكة والعمل على كشف وإنهاء امتداداتها وخلاياها المختلفة. كما أن من شأن تخفيف الأضواء على هذا الحادث ازدياد قناعة الأطراف المتورطة واقتناعها الناس بأنها دائماً ما تظلمها السلطات باتهامات "كلامية" ليس لها أي سند مادي.

Ataqi2003@yahoo.com


في الخميس 26 يوليو-تموز 2012 09:46:23 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://m1.marebpress.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://m1.marebpress.com/articles.php?id=16653