قصتي مع الحوار والعبور إلى الفيدرالية وصرخة لاستنهاض اليمنيين
علي ناصر محمد
علي ناصر محمد

عندما قامت الدولة في جنوب اليمن شكّلت (الوحدة) أحد همومها على المستويين الرسمي والشعبي. كنت مدركاً بأنها لن تتم بالقوة بل بالحوار، وعلى رغم وجود فريق كان يرجح الخيار العسكري الذي جربناه في 1972 و1979 وحروب المنطقة الوسطى في شمال اليمن، إلا أننا بقينا متمسكين بالخيار السلمي والاحتكام للغة الحوار بدلاً عن لغة السلاح بين الشمال والجنوب، ولم يكن اختلافنا الذي تطور إلى خلاف ثم نزاع وصراع بلغ ذروته في كانون الثاني (يناير) 1986 على السلطة كما يزعم بعض الذين لم يدركوا كنه مشكلتنا في الجنوب، بل كان على خيارات متباينة إزاء، قضايا سياسية داخلية وخارجية، ومنها الوحدة التي ينشأ الصراع اليوم حولها بعد إعلانها بعقدين من الزمن إضافة إلى عوامل إقليمية ودولية. ولكن، على نحو مغاير للصراع حولها فيما سبق فلقد تحول الهاربون إلى الوحدة هاربين منها، وهذا الانتقال من النقيض إلى النقيض لا يفسره إلا لجوء الموقعَين على إعلان الوحدة في عام 1990 إلى اعتبارها غنيمة أرادا تقاسمها على رغم المباركة الشعبية حينها من دون إجراء استفتاء عليها، فانفض هذا التقاسم الذي لم يستند على الحوار والتمرحل والقراءة الاستراتيجية لمستقبل الوحدة بل لجأ إلى الحرب التي ندفع اليوم جميعاً ثمنها... من كان سبباً بها ومن لم يكن له فيها لا ناقة ولا جمل. (وكان البعض اعتبر أن أحداث 1986 هي التي عجلت بقيام الوحدة اليمنية كما عجلت حرب 1994 بترسيم الحدود بين السعودية واليمن).

تحولات الوحدة

عندما تتحول الوحدة من هدف نبيل إلى صفقة خاسرة تحضر الشروط غير الواعية، وهذه الشروط ما ظهر منها وما بطن كنت أحد من دفعوا ثمنها باتفاقهما (علي صالح وعلي البيض) على خروجي من الوطن إلى سورية، وقبلت ذلك من أجل التعجيل في تحقيقها على رغم أنني كنت أول من وقع على اتفاقيتها الأولى في القاهرة عام 1972، وإنجاز دستور دولة الوحدة، وقيام المجلس اليمني الأعلى، وإيقاف حروب المنطقة الوسطى، وغير ذلك على طريق الوحدة السلمية.

تحققت وحدة عام 1990 على طريقة الهروب إلى الأمام من كلا الطرفين. واليوم تحضر شواهد الهروب إلى الخلف، وليس الخلف الذي وراء ظهر وحدة 1990 بل إلى الخلف البعيد الذي خرج لتوه من أدغال التاريخ ليحدثنا عن الهوية والهوية المضادة، في عملية تغرد خارج سرب المعطيات الراهنة والقوانين المعاصرة والأحكام المتعارف عليها.

لم تثنني أحداث كانون الثاني 1986 وما حصل من اقتتال نتحمل جميعاً مسؤولية تاريخية عنه، عن التحرك في فضاء الحوار الذي رفضته القيادة الجنوبية التي أعقبتنا وعاقبتنا آنذاك، وطرحنا مشروع المصالحة الوطنية في حينه بديلاً عن الاقتتال أو مواصلة الصراع السياسي والإعلامي، ولكن التركيز لدى بعضهم كان على اقتسام السلطة والثروة ولا يزال هذا دأب البعض حتى اليوم من دون الاكتراث بالمصلحة العليا للوطن. وقد عارضت بعض العناصر المتطرفة من الطرفين في صنعاء وعدن مشروع المصالحة الوطنية والحوار الوطني، ففي الجنوب كان البعض مما يسمى «بالطغمة» يشعر بنشوة النصر والحصول على السلطة والثروة ولا يريد أن يشاركه الطرف الآخر الذي خسر الحرب عام 1986، كما أن بعض القيادات المحسوبة على ما يسمى «بالزمرة» ترفض الحوار والحل السياسي والمطالبة بالحسم العسكري. وعمليا كانوا لا يريدون ذلك بعد أن حصلوا على امتيازات أكثر مما كانوا يحصلون عليه في الجنوب، وكان البعض الآخر في المعسكرات يتحدث بصدق عن «جحيم عدن ولا جنة صنعاء»، وينطبق ذلك على عدد من القيادات التي نزحت من الشمال، إلى عدن وكانت تحظى بامتيازات أكثر مما كانت تحصل عليه في الشمال والأهم من ذلك هو المشاركة في صنع القرار السياسي وليس كما حصل للجنوبيين بعد حرب عام 1994 بمشاركتهم في السلطة وليس في صنع القرار.

حاولت استشراف الموقف الأسلم للوحدة قبل حرب 1994، وتحديداً أثناء الأزمة السياسية التي نشبت بعد توقيع وثيقة العهد والاتفاق في عمان أي قبل الاقتتال والانفصال، وتحدثت عن الفيدرالية من إقليمين، ولقد دار حوار في هذا الصدد بيني وبين كل من الشيخ زايد رئيس دولة الإمارات رحمه الله وأفسح مثواه ، وحوار آخر بيني وبين وزير خارجية سلطنة عمان يوسف بن علوي، ومع علي سالم البيض نائب الرئيس علي عبدالله صالح عندما التقيته في أبو ظبي في نيسان (أبريل) 1994 وقد رفض حينها الفكرة وقال نحن مع وحدة اندماجية وعاصمتها جبلة أو تعز. وطرحت نفس الفكرة مع علي عبدالله صالح في الدوحة بعد يوم من لقائي البيض وقد رفض (العليّان) هذه الفكرة، وقلت لهما أنكما تحضران للاقتتال والانفصال وكانت طبول الحرب تدق على أبواب المسؤولين في عدن وصنعاء ومئات الملايين بل البلايين من الدولارات تتدفق على الطرفين لإشعال فتيل الحرب التي دفع الشعب ثمنها، وكانت فترة استقطاب حاد فقد عرض كل طرف عليّ أعلى المناصب ورفضتها، وكنت أثير الموضوع مع أكثر من طرف ذي صلة بالشأن اليمني والأزمة التي استدعت الكثير من التدخلات الخارجية في حينه، بحثاً عن حل للمشكلة اليمنية وليس بحثاً عن مكاسب شخصية فقد جربت السلطة من محافظ إلى رئيس جمهورية.

الحوار علاجاً

بعد حرب 1994، استقر رأيي مبكراً على ضرورة معالجة آثار الحرب عبر الحوار وقلت حينها: «أن الأمور حسمت عسكرياً ولم تحسم سياسياً»، ومن أحد أسباب انتصار النظام عسكرياً تخلي طرف عن سلاح الوحدة لمصلحة الطرف الآخر الذي لا يؤمن بالوحدة بقدر ما تهمه الثروة في الجنوب وهو السلاح الذي هُزِمَ به نظام صنعاء في حروب 1972 و1979, وسماه سالم صالح بعد ذلك «السلاح النووي» وأنا لا اتفق معه اليوم، خصوصاً بعد أن فقد هذا السلاح بريقه وتأثيره على المستوى الشعبي بعد معاناة الشعب في الجنوب من آثار السياسات والممارسات الخاطئة للقائمين عليها.

دعوتي للحوار بعد حرب 1994 رفضها الطرف المنتشي بالانتصار في الحرب، بينما ذهب بعضهم إلى الدعوة إلى «إصلاح مسار الوحدة» وغيرها من المبادرات. وبسبب السياسات الحكومية الخاطئة انضموا جميعاً إلى فريق المطالبين «بفك الارتباط»، سلموا الدولة لقاهرها فتمزقت كل ممزق، ويطالبون باستعادتها على غير هدى، وقد فُقِدت الدولة في معناها ومبناها في الجنوب، وهي كذلك مفقودة في الشمال بشهادة المنظمات الدولية المحايدة.

في الوقت الذي قرر الطرف الذي خسر الحرب مغادرة الحياة السياسية لسنوات طويلة وقرر فيه المنتصر العسكري إعلان الاحتلال للجنوب بدعم كل مظاهره من ضم وإلحاق وعقاب جماعي وفصل ونهب للثروات العامة والخاصة، لم يكن بوسعي إلا أن أتمسك بالعمل السياسي، فقلت حينها أن المنتصر في الحرب مهزوم، وطالبت بالحوار مع الطرف الذي خسر الحرب «وأنه لا بد من معالجة آثارها ... فإنه سيأتي يوم ستعبر عن نفسها بطريقة قد تكون دموية»... لأن القضية الجنوبية قضية سياسية بامتياز، ومن الضروري إيجاد حل عادل يرتضيه الشعب في الجنوب، فلقد خسر الجنوبيون دولة لا مكان فيها للثأر والطائفية والفساد وخسروا معها كل مكتسباتهم من تعليم وتطبيب مجاني وأمن واستقرار وسياسة دعم اقتصادية ساهمت إلى حد كبير في تقليل الفوارق الاجتماعية، ولا يعني ذلك أنه لم توجد مشكلات وسلبيات في مسيرة هذه التجربة.

من أهم الإجراءات التي يجب أن تتخذ إعادة الأراضي التي تملكها الدولة والأراضي الزراعية ومؤسسات القطاع العام وممتلكاته المادية والعينية التي جرت خصخصتها (مصمصتها) لمصلحة كبار المسؤولين والمتنفذين في الدولة، وكذلك قطاعات (بلوكات) النفط التي منحت لبعض الشخصيات بهدف كسب ولائهم سياسياً وعسكرياً وعشائرياً. وسحب كل مظاهر الوجود العسكري والأمني من المدن إلا ما تقتضيه المصلحة العامة، وإعادة المفصولين إلى أعمالهم من مدنيين وعسكريين وتعويض المتضررين، ووقف الاعتقالات، والإفراج عن المعتقلين السياسيين، وعودة القيادات والشخصيات الجنوبية من الخارج قبل 1994 وما بعدها حيث أن عودتهم وترتيب أوضاعهم في الداخل والخارج، سوف يساهمان في إحداث نوع من الانفراج، فالوطن يتسع للجميع.

في هذا السياق وإيماناً بمبدأ الحوار دعونا إلى «التصالح والتسامح» وكان ذلك النواة الأولى والأرضية التي اعتلى عليها بنيان الحراك الجنوبي السلمي الشعبي في عام 2007 كأول ثورة سلمية تدق ناقوسها في اليمن والمنطقة العربية منذ عقود.

من المعروف أن الحراك الجنوبي استهل نشاطه بمطالب حقوقية مشروعة لم تجد من ينصت إليها، ولقد وجهت أكثر من عشرين رسالة إلى الرئيس السابق علي عبد الله صالح خلال تلك الفترة وما قبلها وما بعدها، أحثه على الاستجابة لمطالب الحراك والشعب في الجنوب ولكنه ادعى أنه لا توجد مشاكل في الجنوب إلا في «مخيلتي»، إلى أن بلغت القلوب الحناجر وارتفع سقف المطالب لدى قطاع واسع إلى المطالبة بفك الارتباط، وكان أول من أطلق كلمة فك الارتباط هو المهندس حيدر أبو بكر العطاس بعد أن رأى تعنت النظام وعدم استجابته لأي تسوية لتصحيح مسار الوحدة كما أكد لي ذلك.

في ما بعد تكثف الحوار مع اللقاء المشترك، فتبلورت فكرة التغيير التي نادينا بها وطرحت «الفيدرالية بإقليمين» كحل وسط بدلاً عن الصراع والاقتتال. كل هذا أيضاً لم يثنني عن التمسك بمبدأ الحوار، واكبت الحراك السياسي في الشمال وفي إطار الأحزاب السياسية والتي انضوت في تكتل اللقاء المشترك... بقدر مواكبتي سيرورة الحراك الجنوبي السلمي الشعبي.

وجرت لقاءات عدة بيني وبين الشيخ حميد الأحمر في كل من دولة الأمارات ولبنان وسورية ومصر باعتباره عنصراً أساسياً في حزب الإصلاح، وكان قد تقدم إلي بمقترح في لقائي معه في بيروت في بداية 2006, بترشحي للانتخابات الرئاسية أمام علي عبد الله صالح واعتذرت عن ذلك واقترحت عليه ثلاثة أسماء هم الدكتور ياسين نعمان والدكتور فرج بن غانم والمهندس فيصل بن شملان ووقع الاختيار على الأخير رحمه الله... وكان منافساً صلباً أسهم في التعجيل بثورة التغيير، واستمر الحوار بيننا إلى أن تمخض عن اقتناعه بإجراء الحوار مع كل من المهندس حيدر أبو بكر العطاس والأخ علي سالم البيض والسيد يحيى بدر الدين الحوثي وبعض الشباب في الجنوب لكسر الحاجز النفسي الذي خلفته حرب عام 1994 وحروب صعدة.

وتطور الحوار بعد ذلك إلى اللقاء مع أحزاب اللقاء المشترك حتى وهو يخوض حوارات عقيمة مع الحزب الحاكم، وشارك في لقائنا مع المشترك الأخ محمد علي أحمد والأخ حيدر العطاس الذي تقدم بوثيقة تتضمن وجهة نظره من القضية الجنوبية والفيدرالية وحينها اقتنع الشيخ حميد الأحمر بالفيدرالية وتقرير المصير إذا كان ذلك هو خيار الشعب في الجنوب ولكنه تراجع عن موقفه التزاماً بموقف حزبه، ولا أحد يستطيع أن ينكر أننا كنا نتفق ونختلف معهم، وكانوا يتفقون مع علي عبد الله صالح، وقد توجوا اتفاقاتهم بالتوقيع والتمديد في دار الرئاسة في 17 تموز (يوليو) 2010، وذلك بعد توقيعنا معهم على بيان في 13 حزيران (يونيو) 2010 نص على «التغيير والفيدرالية» وحضره رئيس لجنة الحوار الوطني محمد سالم باسندوه وقيادات أحزاب اللقاء المشترك وحميد الأحمر وعلي عبد ربه القاضي وصخر الوجيه ومحمد علي أحمد ولطفي شطارة وشعفل عمر ومطهر مسعد ومحمد علي القيرحي وعبد الله الهيثمي وغيرهم.

كل هذا لم يوصلنا إلى الانكفاء، بل كان القرار مواصلة السير بحثاً عن أفق الحل للأزمة اليمنية التي تزداد تعقيداً وتركيباً، وكان لنا موقف من جميع القضايا التي زادت الطين بلة بما في ذلك حروب صعدة العبثية وما ألحقته من دمار، فما كان يدور هناك من أحداث هو في الشمال اليمني وليس في بلاد واق الواق، ولقد حرصت على الحوار معهم والتقيت مجاميع منهم وكانوا أكثر صدقاً في مواقفهم واحتراماً لكلمتهم، وكنت أحض الأطراف الأخرى على ضرورة إشراكهم في أية عملية سياسية تستهدف التغيير المنشود.

فلا شك في أن الحراك الجنوبي السلمي الشعبي قد هز هيبة السلطة وكسر شوكتها... وكذلك الحال بالنسبة لحركة الحوثيين في صعدة، فقد كان لهما أثر بالغ في تعزيز خطى التغيير وتبين ذلك في أجلى صوره في ثورة التغيير السلمية، وعليه فإن الحراك في الجنوب والحركة الحوثية في صعدة تجاوزا الأحزاب التي اتخذت مواقف سلبية إزاء ما كان يجري ضدهم من أحداث في الشمال والجنوب. وقد شاركت أحزاب اللقاء المشترك وبعض الشخصيات والتكتلات في دعم ثورة التغيير السلمية التي انطلقت في شباط (فبراير) 2011 لإسقاط النظام ولكنها للأسف لم تحقق كامل أهدافها.

لم يترك الرئيس علي عبد الله صالح لنا ولشعبنا وسيلة، ولم تصدر عنه أية رسالة إيجابية، وأدركت كما أدرك شعبنا أنه لا يمكن أن يحدث انفراج في هذا البلد مع وجوده على رأس السلطة، فرفعت شعار (التغيير أو التشطير) آملاً بأن تتحرك الساحة في الشمال وتتبنى شعار التغيير قولاً وعملاً وهذا ما حدث، فتحرك الشباب والتحقت بهم بقية فئات الشعب والقوى السياسية في المحافظات رجالاً وأطفالاً ونساءً وانطلقت ثورة التغيير السلمية في شباط 2011، والتحموا بالحراك الجنوبي والحركة الحوثية، وأدى ذلك إلى توحيد شعارات معظم الساحات الثورية حينما قدم الشباب أرواحهم الطاهرة ودماءهم الزكية على مذبح الحرية والتغيير في عدن وتعز وصنعاء وحضرموت ومعظم المحافظات وهم يطالبون بإسقاط النظام.

اعتبرنا شعار التصالح والتسامح الذي لولا الحوار لما كان له أن يتحقق، سبيلنا إلى التحرك نحو حوار جنوبي – جنوبي، فحاورنا الجميع من دون استثناء ومنهم السيد علي سالم البيض الذي ألتقيته ثلاث مرات، والسيد عبد الرحمن الجفري والأستاذ عبدالله الأصنج والدكتور محمد حيدره مسدوس والشيخ أحمد الصريمه والشيخ محمد علي الشدادي والسيد مصطفى العيدروس (منصب عدن) وبعض المشايخ والسلاطين، وفي مقدمهم سلطان المهرة والسلطان الفضلي والشريف حيدر الهبيلي والشيخ عبدالعزيز المفلحي وكثير من الشخصيات السياسية والاجتماعية فاق عددهم المئات قبل اجتماع القاهرة وبعده، وكنا نأمل أن تكلل هذه اللقاءات والحوارات بالخروج برؤية ومرجعية موحدة للقضية الجنوبية، وعرضنا عليهم أن يشاركوا في المؤتمر وأن يرأسوه وأن تنبثق منهم رئاسة بقيادتهم، وبالذات علي البيض وعبد الرحمن الجفري، وقد كانا على رأس القيادة بعد إعلان فك الارتباط في أيار (مايو) 1994، وأعلمتهم بعدم رغبتي في تولي أية مسؤولية، وهذا ما أكدته في كلمتي التي ألقيتها في المؤتمر الجنوبي الأول الذي عقد في 22-23 تشرين (نوفمبر) 2011 في القاهرة. ووصلنا إلى مرحلة جعلتني في منصة واحدة مع من اختلفت معهم في عام 1986 تجسيداً لمبدأ التصالح والتسامح، نتشارك الهم الجنوبي ونقتسم هم البحث عن المعالجات الممكنة، فكان مشروع الفيدرالية الخيار الواقعي بعد أن تبلور بوضوح في المؤتمر الجنوبي الأول، ولم نعتبره في يوم من الأيام وثيقة ملزمة لأحد لأننا حرصنا على ربطه ببرنامج زمني وباستفتاء شعب الجنوب، فهو وحده من يحق له تقرير مصيره بالوحدة أو الفيدرالية أو فك الارتباط، وللأسف فقد تراجع البعض ممن شارك في المؤتمر عن هذا المشروع وبدأ يطالب باستعادة الدولة، في سباق مع من يتبنى فكرة عودتها -بعد أن أضاعوها بأرضها وثرواتها ومؤسساتها وعلمها وشعبها العظيم- بسبب الموقف السلبي من بعض أطراف النظام الذي لم تصدر عنه أية رسائل إيجابية منذ انعقاد المؤتمر.

وإذا كان البعض يتبنى استعادة الدولة فلماذا لا يتوحدون بدلاً من استمرار الخلافات والمهاترات والمزايدات على بعضهم البعض، ونحن نرى الأثر السلبي على المواطنين، فيما يعيش موجهو الخلافات بعيداً عن معاناة الشعب الذي يدفع يومياً دمه وماله وعرقه وأمنه واستقراره ولا يقدمون له غير الكلام في الهواء.

المفارقات التي تحدث اليوم تجعلنا نتذكر من كان يتغنى بتحقيق الوحدة اليمنية والوحدة العربية ويطالب بشعار (من عدن للبحرين شعب واحد لا شعبين) وكان البعض منهم يردد (يا شباب العالم ثوروا يا عمال يا فلاحين شيدوا الاشتراكية دمروا الإمبريالية)، والآن البعض يتنكر لهويته الوطنية ويدعو لمفاهيم جديدة مفارقة للواقع وطبيعة الأمور وعلى سبيل المثال: فإن الشعوب الأخرى لم ولن تتنكر لتاريخها مثل شمال السودان وجنوبه، وشمال العراق وجنوبه، وشمال كوريا وجنوبها، وألمانيا الشرقية والغربية. وبسبب الأخطاء التي أرتكبها النظام بعد الوحدة فقد اهتزت ثقة الشعب به وبقادته الذين أساؤوا. وما لم تقدم حلول عاجلة وعادلة وسريعة للأزمة التي يمر بها الجنوب فإن الأمور ستزداد تعقيداً وخطورةً، ومع الأسف أننا لم نلمس أي بوادر للانفراج منذ انتخاب رئيس الدولة وتشكيل حكومة الوفاق الوطني، لكننا أكدنا أنه لا حل لمشاكل اليمن إلا بحل يرضي شعب الجنوب ولا نجاح لحوار وطني من دون معالجة آثار ومخلفات حرب 1994 وما قبلها وما بعدها.

يتعين علينا أن نتعلم ثقافة الاختلاف في الرأي فهذه وجهة نظرنا وعلى الآخر تقديم وجهة نظره من دون الحاجة إلى الانصياع لمقررات التطرف والانجرار إلى تخوين الآخر، ومع الأسف فإن البعض بارك لقاءنا مع وفد الاتحاد الأوروبي والسفير البريطاني بينما هاجم لقاءنا مع الدكتور عبدالكريم الأرياني رئيس لجنة الاتصال والتواصل.

وكما أشرت آنفا فقد بذلنا جهوداً لا يستهان بها بدأت مع أزمة حرب 1994 وفيها حاولنا تقريب وجهات النظر بين القوى السياسية والاجتماعية على مستوى الجنوب والشمال، وتواصلنا مع الدول الشقيقة والصديقة التي يهمها مصلحة اليمن وأمنه واستقراره، لأن استقرار اليمن هو استقرار المنطقة وضمان سلامة مصالحها والمصالح الدولية.

تحذير من الصوملة

إننا اليوم أمام وطن يعيش في ظل أعلى منسوب للتمزق والانقسام شمالاً وجنوباً، شرقاً وغرباً لم يعرفه في تاريخه، وامتدت الخلافات إلى الأحزاب والحراك وعلى مستوى القرى والمدن وفي داخل البيوت وضمن الأسرة الواحدة مما ينذر بكارثة مدمرة لنسيج المجتمع، بينما تسلك الدول المتحضرة طريق التعاون والاتحاد كالإمارات العربية ومجلس التعاون الخليجي والاتحاد الأوروبي والاتحاد الآسيوي (آسيان) ومجموعة دول أميركا اللاتينية وغيرها من التكتلات السياسية الاقتصادية في العالم. وأكدت أكثر من مرة ومنذ سنوات أن قوة الحراك في وحدته ومقتله في خلافاته، ونتيجة لكل تلك الخلافات والسياسات الخاطئة فقد تعاظمت أزمة الثقة بين مختلف الأطراف وباتت مستعصية واهتزت الوحدة الوطنية في النفوس، وهذا يعني لمن يدرك تشخيص الأزمة ومعالجتها أننا أحوج ما نكون إلى الحوار وإلا فإن مصيرنا هو الصوملة بل أسوأ منها. ومن يتأمل أكثر في المعطى الواقعي الراهن والاهتمام الدولي الملحوظ باليمن ويستطيع فهم لغة المصالح، سيدرك بأننا إن لم نتحاور فسوف نسلم لهم مصالحهم ليحمونها بعيداً عن مصالحنا التي تتقاطع اليوم مع مصالحهم، على نحو لم يحصل مثله من قبل، وهذه لحظة الممكن والاستفادة منه، أو حشر أنفسنا في زاوية التباكي على الدولة المسلوبة والوقوف على أطلالها كحال شعراء الجاهلية، كما لا نريد لأحد أن يبكي كما جرى في الأندلس بعد سقوط غرناطة.

وفي هذا الصدد يسرني أن أشيد بدور الأشقاء في دول مجلس التعاون الخليجي والجهات التي تحاول رعاية أي حوار ينقذ اليمن ويحل مشكلاته، ونتمنى لجهود الأصدقاء سفراء الاتحاد الأوروبي والسفير البريطاني وروسيا التي باركناها وباركها أيضاً من يختلفون معنا حول الحوار، أن تتلمس طريقها الصحيح لما فيه مصلحة البلاد وبما لا يضر بمصالح المجتمع الإقليمي والدولي، وأن نبحث عوضاً عن المهاترات عن إيجاد ضمانات جدية يرضى بها شعبنا لا أن نضع العربة قبل الحصان.

اليوم وأنا أسرد بعضاً من جوانب ومشاهد قصتي مع الحوار والطريق إلى الفيدرالية لم يخطر ببالي قط مقام التبرير أو التفسير، فالواضح لا يمكن توضيحه أو كما قال ذلك الصوفي عن الله تعالى أنه «من فرط وضوحه لا يُرى» ، ولكنني أعلن صرخة لاستنهاض الهمم والصحوة من السبات العميق، ويجب ألا ننسى أن الوطن هو ملاذنا الأخير وعلينا جميعاً إنقاذه لأننا سنعيش فيه ويعيش أبناؤنا وأحفادنا، وعملية الإنقاذ هذه تأتي من استقراء الواقع بإيجابية والتفاعل مع المتغيرات.

ويدرك المراقب الحصيف لتطورات الأوضاع في اليمن بأن عجلة التغيير تحركت ولا يمكن نكران ذلك، وأنها بحاجة لدفعة أقوى ليرتقي الأمر إلى مستوى طموحات الشباب وكافة فئات الشعب، ولا شك أن الرقابة الدولية المصاحبة لما يعتمل من تغيير نسبي سيكون لها الأثر في أن لا تتوقف العجلة وحدوث هذا لا يزال ممكناً باستمرار صمود الساحات الثورية من جانب، وبقيام رئيس الجمهورية وحكومة الوفاق بدور فعال في معالجة الشأن السياسي والتهيئة الفعلية للحوار من جانب آخر وفقاً للرؤى المطروحة من الأطراف المعنية، ومن بينها ورقة القيادة الجنوبية الموقتة وغيرها من الرؤى والأوراق التي قدمها الآخرون، ومعالجة الشؤون الاقتصادية وإعادة الحقوق لأصحابها، وأن يلمس المواطنون تغييراً في هذا الاتجاه من شأنه أن يساعد على نجاح الحوار، إضافة إلى وقف كل أشكال العنف المتنقل شمالاً وجنوباً، لا سيما ما حدث من جرائم في مدينة المنصورة بعدن وحضرموت، وإمضاء حكم العدالة في حق مرتكبي هذه الجرائم وسواها.

وفي هذا الإطار وجهت رسائل عدة للقيادة الجديدة أحث فيها على سرعة الاهتمام بالقضايا الأساسية، وفي مقدمها القضية الجنوبية وقضية صعدة وغيرها من القضايا التي طالب بها الشباب بوصفهم الأداة الأساسية والمتقدمة في ما حصل من تغيير، وهم من أوصل حكومة الوفاق الوطني ورئيسها ورئيس الدولة لهذه المناصب. وما نترقبه أن تحدث معالجات حقيقية لمختلف المشكلات التي عرضناها في الورقة المقدمة من ممثلي مؤتمر القاهرة الأول إلى لجنة الاتصال والتواصل.

بلاء التطرف

كما أكدت على مكافحة الإرهاب أو من يسمون بأنصار الشريعة في محافظة أبين وشبوة وبقية المحافظات الأخرى، التي حققت القيادة فيها نصراً عسكرياً وإنجازاً مشهوداً به ستكون له انعكاساته على المستوى المحلي والإقليمي والدولي. ونطالب اليوم بالعمل على توفير فرص عمل لهؤلاء الشباب المغرر بهم وتوعيتهم من أجل الانخراط في المجتمع، لأن الحلول الأمنية وحدها لا تكفي. وعلى ذكر الإرهاب فإنه غني عن القول بأنه محصلة التطرف والفقر والجهل والسياسات الخاطئة، وإذا ما عولجت هذه القضايا فإننا سنصل إلى مرحلة تجفيف منابعه.

لكننا في اليمن قد ابتلينا بالتطرف السياسي وهو شكل من أشكال الإرهاب الفكري، وعانينا في الجنوب منذ 1967 من موجة التطرف، وإلى اليوم وما حصل ويحصل لنا هو من آثاره المدمرة، وما حدث لقيادات الجنوب ليس بعيداً عن التطرف، فقد وضع أول رئيس جنوبي (قحطان الشعبي) تحت الإقامة الجبرية (حكم من 30 تشرين الثاني 1967 إلى 22 حزيران 1969)، وأعدم ثاني رئيس (سالم ربيع علي) (حكم من 22 حزيران 1969 إلى حزيران 1978)، وكان المصير المجهول لثالث رئيس (عبد الفتاح إسماعيل) (حكم من كانون الأول (ديسمبر) 1978 إلى 20 نيسان 1980)، والرابع علي ناصر محمد (إلى صنعاء فدمشق) (حكم الفترة الأولى من حزيران 1978 إلى كانون الأول 1978، والفترة الثانية من 20 نيسان 1980 إلى كانون الثاني 1986)، والخامس والأخير في حكم الجنوب حيدر أبو بكر العطاس (إلى جدة) (حكم من نهاية كانون الثاني 1986 إلى أيار 1990 يوم إعلان الوحدة)...

وإذا كان التطرف السياسي أقل حضوراً في الشمال إلا أن التآمر حل محله، فذهب أول رئيس شمالي إلى عاصمة العباسيين (المشير عبدالله السلال) (حكم من 1962 إلى 1967) وتبعه الثاني إلى عاصمة الأمويين (القاضي عبد الرحمن الإرياني) (حكم من تشرين الثاني 1967 إلى حزيران 1974)، واغتيل الثالث (الرئيس إبراهيم الحمدي) (حكم من حزيران 1974 إلى تشرين الثاني 1977) وتبعه الرابع (أحمد حسين الغشمي) (حكم من تشرين الثاني 1977 إلى حزيران 1978)، وخامسهم علي عبدالله صالح (حكم من 17 تموز 1978 إلى 23 تشرين الثاني 2011)، ولا تزال نظريات التطرف والتآمر تتخلق من جديد تخفى نزعات التسلط والاستملاك المُهلكتين، من دون أن نستفيد من كل مآسي تاريخنا، ونأمل أن يستفيد الرئيس الجديد من هذه الدروس والعبر التي مرت بها القيادات شمالاً وجنوباً. ومن المفارقات أن التغييرات على مستوى القيادات العليات التي أشرنا إليها آنفاً قد تم معظمها في شهر حزيران.

التخوين المتبادل

إننا وفق المشهد الراهن أمام تحديات خطيرة ومفصل تاريخي غاية في التعقيد، وهنا أنوه إلى الجميع، لا سيما القيادات التي أجرينا معها حوارات وتفاهمات، بضرورة الارتقاء إلى مستوى المسؤولية للخروج من هذا المأزق والوصول إلى رؤية ومرجعية قيادية للقضية الجنوبية، وإلا فإن البديل على مستوى القيادة هو أن الشعب وقواه الحية ستتجاوز الجميع، وهي قادرة على اختيار قيادتها للحفاظ على ما تبقى والبناء عليه بعيداً عن تباكي بعضنا وتغابي البعض الآخر، تماماً كما حدث مع الحراك الجنوبي حين تجاوز الجميع، لأنه من دون ذلك فإن الجنوب سيتمزق والشمال سيتمزق والمؤشرات إلى إمكانية حدوث ذلك لا تخطئها عين. وهناك مؤشرات بعودة الجنوب إلى ما قبل الاستقلال عام 1967. وقد بدأت ترتفع بعض الأصوات والأعلام المطالبة باستعادة السلطنات والمشيخات باعتبار جذورها التاريخية وحكمها العائدة لمئات السنين، وأنا أعتبر أن هذا التطرف الذي يرفض الحوار والحلول سيقود إلى ضياع الوطن وتمزقه. وهناك قوى إقليمية ودولية لها مصالح في تغذية هذا التشرذم.

إن ممارسات التخوين والتحريض التي يتبناها البعض في القنوات الفضائية والصحف والمواقع الإلكترونية سهلة، ولكن نتائجها كارثية وتبث الكراهية بين الناس بدلاً عن التقريب بين وجهات النظر واحترام الرأي والرأي الآخر، وإذا كانت الخلافات والمهاترات والمزايدات بينهم مستمرة وهم خارج الوطن حول استعادة الدولة فكيف ستتسع لهم السلطة أو الدولة التي يطالبون بها.

بوصفي مواطناً أولاً وسياسياً ثانياً ورئيس جمهورية في وقت سابق، ووفقاً لمعرفتي وتجربتي، أستطيع القول إن سياسة العبث والتطرف لا تزال تهيمن على فريق واسع ممن لهم صلة بتعقيدات الملف اليمني شمالاً وجنوباً. لكنني في الوقت ذاته لا أقبل لنفسي الخوض في هذا العبث لمجاراته حتى لو بلغ الغالبية العظمى، فقراءة الواقع بأولوياته ومقتضياته تتباين، ولأجل ذلك لم ولن أبتعد عن مبدأ الحوار الذي لا يرتبط بزمن ولا بمكان معين فهو قاعدة تمضي في كل الظروف.


في الأربعاء 01 أغسطس-آب 2012 10:04:10 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://m1.marebpress.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://m1.marebpress.com/articles.php?id=16733