|
لم تكن مجرّد خمسة أيام, بل كانت في حساب التجربة, والمعاناة خمسين شهرا! أضافت إلى أعمار الشباب أعمارا, وإلى تجارب حياتهم تجربةً فريدة هائلة لا يمكن نسيانها. ولم تكن المسافة بين تعز وصنعاء مجرّد 250 كم-رغم طولها, وجبالها وكمائنها- بل كانت ملايين الخطوات العازمة المحتشدة بعنفوانٍ لا يُقَد, وآمالٍ لا تُحَد,.. وأصواتٍ انتبهت الجبال على صهيلها, واستيقظت التلال على هديرها, إنه صوتُ اليمن القادم يوقظ المدن من غفوتها, والقرى من غفلتها, والشعاب من سَرَحانها.
وعندما وصلت مسيرة الحياة إلى مشارف صنعاء في تلك الظهيرة الدامية الغادرة, فإن الشباب لم يعودوا أولئك الفتيان الذين غادروا تعز في ضحىً مبتهج مغامر من صباح الثلاثاء 20 ديسمبر 2011.. لقد أصبحوا أكبر من أعمارهم وأطول من قاماتهم. كأنّ المسيرة صبّت في أعوادهم الطريّة سنواتٍ من القوة والشجاعة, وقيم التضحية والمروءة, والصبر, والتجربة والاكتشاف والمعرفة.. اكتشاف أنفسهم أولا, ومعرفة بلادهم وناسهم ثانيا.. لقد أصبحت مسيرةُ الحياة فاصلا ضخما في حياتهم, ونقشا خالدا في قلوبهم, فما عاشوه وعاينوه خلال أيام المسيرة غيّرهم إلى الأبد.
لم يتخيل فتيان المسيرة وفتياتها, وهم يغادرون تعز مشاةً على أقدامهم في ذلك الضحى المبتهج المغامر ما سيواجهونه خلال أيام المسيرة وآماسيها الموحشة الباردة من كمائن ومكائد. لقد مرّوا بسلام من كمائن في سوق القرعي وبيت الكوماني, وقسوة لا تليق باليمنيين في خدار, وما أدراك ما خدار! وكمين آخر في قحازة والمحاقرة! ولم يخطر ببالهم أبدا أن خاتمة المطاف ستكون قاسيةً مروّعة ودامية في كمين أُعِدَّ بعناية في "دار سلم" وعلى أبواب صنعاء, وعلى قارعة حلمهم الأبيض الذي أصبح أحْمَرَ قانيا بعد أن تفجرت ينابيع دمائهم الشهيدة من الأعناق المشرئبّة والأجساد المتعبة المنهكة.
لكن ذلك لم يمنع الشباب من اكتشاف معدن شعبهم!
فرغم عذابات المشي الطويلة, وعناءات السير المضنية الجائعة, وصقيع أماسي الشتاء القارسة القارصة, وعلى ارتفاع 2700 متر, ورغم هواجس الخوف من بنادق الذئاب الملثمة, وكمائن الكلاب الضالة! فإن ما أبهج المسيرةَ مفاجِئٌ, ومدهشٌ مثل مطرٍ في فلاة,.. كان ذلك استقبال المواطنين لهم بالضيافة والطعام في معظم المدن والقرى التي مرّوا بها, وانضمام آلاف الشباب إلى المسيرة.. حتى لقد تقاطروا من محافظات نائية بعيدة كالبيضاء وأبين!
نعم, لقد اكتشف الشباب معدنَ شَعبِهم! اكتشفوه وعاينوه, وعاشوه, وما كان لكتابٍ أو محاضرة, أو حزبٍ, أو حتى جامعةٍ أن تعلّمهم أكثر مما تعلموا في مسيرةٍ أسمَوها بذكاء.. مسيرة الحياة!
اكتشف الشبابُ أن قُطّاع الطرق, وملثّمي الغدر ليسوا سوى حفنةٍ ضئيلةٍ تتبع رؤساء أو رئيسا يائسا ومراكز قوى تمتهن القتل والنهب, وأن الشعب بعمومه وهمومه مع المسيرة,.. واكتشف الشباب أيضا أن الوعي لدى عامة الناس أكثر نصاعةً ووطنيةً مما لدى كثيرٍ من النخب السياسية الهزيلة التي أصبحت تتقاسم البلاد مثل ميراثٍ في وصيّة! كأنها الشعب كله!
الآن وبعد سنةٍ على مسيرة الحياة الأولى, ونعيش الآن زهو مسيرة الحياة الثانية, لنا أن نتساءل.. هل ثمّة كمائن موتٍ أخرى ما تزال؟..
نعم, كمائن الموت ما تزال في كل منحنى, تترصد شباب مسيرة الحياة, بل تترصد كل رائع, وكل أمل.. أول الكمائن وأخطرها أن يترهل الشباب, وأن يهترئ عنادُهم, وتكلُّ عزائمهم, حتى يصبحوا مجرد ذكرى لمسيرةٍ كانت! أما كمينُ الموت الثاني في منعرج الوقت الراهن, فهو في داخلِهم! كيف أصبحوا ينظرون إلى بعضهم البعض!.. هل ما تزال أحلام الدولة المدنية الحديثة, وسيادة القانون, والمواطنة المتساوية, وكرامة الانسان بذاته, وحقه في حياةٍ كريمة في وطن عزيز متقدم, هي القواسم المشتركة التي تجمع الشباب الثائر في كل الساحات والمسيرات؟
أم أصبح البعض ينظر شزرا, ويفكّر شزرا,.. تماما مثل بعض السياسيين اليمنيين الذين يمشون شزرا أيضا! مثل ضباعٍ تائهة!
كمين الموت الثالث كامنٌ في انتظار ما لا يجيء! ونقاش ما لا يفيد!.. يكفي أن يحدّد الشباب الثائر أهدافه القريبة والبعيدة حتى تتضح الرؤية وتصح الرؤيا!
في الأربعاء 26 ديسمبر-كانون الأول 2012 07:49:34 م