وطن في علبة كبريت
سلوى الإرياني
سلوى الإرياني
 

شيء مقرف أن تكون البنت في اليمن مثلي بائعة علب كبريت فوق رصيف من أرصفة الحارات الشعبية. شيء مقرف أن أبيع الكبريت ساندة ظهري لجدار منزل أسرتي البلوك خوفا من المتحرشين وكي لا أبتعد عن منزلي فأتوه. شيء مقرف أن يكون والدي عامل بناء يذهب منذ الصباح الباكر إلى جولة البنائين بانتظار حضور مقاول لأخذ عدد من البنائين للعمل في بناء منزل أو عمارة داعيا الله أن يكون أحدهم.شيء مقرف أن لا يأتي دوره إلا في الأخيربعد رحيل كل البنائين الشباب من زوايا و أرصفة الإنتظار لأنه كبر في السن و المقاولون يختارون البنائين الشباب. شيء مقرف أن تشيخ في هكذا وطن فتضيع،تجوع، تذل و لا تجد لك رزقا و لا لأولادك. شيء مقرف أن تبيع الفتاة علب كبريت، فيرميها أطفال الحارة بحبيبات حجار صغيرة و يصيحون قائلين :-  » ادخلي منزلك أشرف لك، « شيء مقرف أن يكون هذا الكلام هو كلام أمهاتهم،إناث يأكلن لحم الإناث، شيء مقرف أن يكون هؤلاء الأطفال، أطفالا بلا طفولة، يتعاطون الرجولة الزائفة فتصيبهم بالفصام عندما تنضج أعمارهم في اليمن،. شيء مقرف أن تظل البنت طوال حياتها مطبقة الشفاة، هؤلاء الأطفال لا يفهمون أنها لا تخرج إلى الشارع لأخذ حمام شمس فيصير لون يديها برونزيا مثلا لكنه الجوع ُيخرجها، شيء مقرف أن يكون جنس الإنسان "أنثى" في اليمن.شيء مقرف أن يكون العلم نور و عماد المستقبل و تكون الدراسة الجيدة في اليمن مجرد رفاهية حصرية للأغنياء فقط. شيء مقرف أن تكون فقيراً للغاية فيشفق عليك الفقر من فقرك،و يستحي منك لأنك أفقر منه في أرض اليمن.شيء مقرف أن يكون للأيام وجوه بعضها، نفس الملامح الكئيبة، الأحداث المقبضة، النهايات المملة، للأيام في بلادي رتابة قاتلة، ُتشعر بالذعر و الفزع كأنما الأيام صكوك بقالب واحد صكها إمام جامع ، ليس إمام جامع من أئمة السابق، الجميلي الأرواح و العقول ، المنيري الوجوه،السليمي القلوب، بل من أئمة القرف الحديث،الذين يؤمنون أن المسلمين كفار و لا مسلمين سواهم! شيء مقرف أن يلعب باليمن حفنة من الرجال المزورين،هم في أرذل العمر نحيا بسببهم أرذل الحياة.... شيء مقرف!

قبل أذان الظهر كنت قد بعت 15كبريت .و عاد والدي من الجولة واجما و قد أحضر بصلة و 2 طماط و 5 بطاط.... شيء مقرف أن يكون غدائنا -إن كان- يوميا نفس البطاط ! أخذت ما ربحت من بيع الكبريت و أخذت من يد والدي الخضروات هههههه، بصلة 2 طماط و 5 بطاط هل بإمكاني أن اسميها ""خضروات""...أدخلتها إلى الدار و أمسكت بمعصم والدي و أدخلته الدار .أخبرته أنني سأذهب لشراء خبز و حقين ثم أعود لأطهو الغداء...حتى كلمة "غداء "أضحكتني. مقرف أن يطعمنا حفنة من الرجال المزورين هكذا غداء.

في الطريق أسرعت ،،لأن أبي فيما يبدو لم يأخذه أي مقاول ، كنت أعرف صفحة وجهه المنحوت فيها القلق. حفرت الهموم في جبين أبي أوتار قيثارة، و من تنهيدته موسيقى ناي كلما رأيته سمعتها فتشجيني حتى أبكي عليه .حفظت تقاسيم خدية و جبينه و أسفل عينيه. مسكين ! قال لي مرة :-  « لو كان لي أن أختار لأخترت الموت. » ..لم اشهق لم أجزع...أجبته :-» و أنا يا والدي ظلك. » توفيت والدتي قبل حوالي 10 سنوات أثناء ولادة أخ لي حيث مات الإثنان لتعسر الولادة و كانت بطبيعة الحال تلد في الدار. شيء مقرف أن تلد النساء في المنازل لأنهن لايملكن المال. لي أخوات ثلاث أكبر مني متزوجات في قرى و مدن أخرى.كنت وحدي، شيء مقرف أن أكون وحيدة. لا أحب أن أترك والدي وحده حين يستعمره المحتل و الحزن محتل عنيد، فأسرعت في الشارع لأعود إليه سريعا. من تعجلي تعثرت بحجر فسقطت على وجهي و سال دم أنفي ، استلقيت على الأرض من شدة المفاجأة ثم رفعت نقابي ، مسحت أنفي بيدي. شيء مقرف أن تسيل دماء مني و أنا لست ذاهبة لأحارب ، بل لشراء خبز و حقين...وجدت رجلا يساعدني، نهضت أنفض الغبار عني. ما أن رفعت عيني و أنفي و شفتي مغطات بالدماء حتى أصبت بالذهول. كان رجلا أجنبيا. له عينان زرقاوان. شديد البياض، قامته طويلة و كتفيه عريضتان، خمنت أن يكون في أربعيناته ، قال لي بلهجة عربية مصرية مكسرة :- « إنتي كويسه؟ » تعلم العربية في القاهرة حتماً. تتدلى 3 كاميرات فوق صدره. شيء مقرف أنني لم أخرج يوما من حارتي فهي بالنسبة لي اليمن و لم أر يوما أهرامات القاهرة، و لا اقتنيت يوما كاميرا. أخرج منديلا و مطهرا أحمرمن حقيبة صغيرة تلف خصره. تأثرت لتعاطفه، مسحت أنفي و فمي.سألني : تهبي أوصلك؟ فين إنتي كنتي رايهه؟ » أجبته محاولة الإبتسام :- « أشتري خبز و حقين للغداء. الدكان قريب. شكراً لا توصلني. » شيء مقرف أن يربي اليمنيون بناتهم أن كل ذكر إنما يريد إفقادهن عذريتهن الغالية. أبتسم مبتعداً خطوتين ثم عاد متسائلا :- « تيب منكن أسورك سورة ؟ » يا إللهي! ماذا أقول له؟ ماذا لو فضحني ونشر صورتي في التنترنت أو نزع ثيابي عني في الصورة ثم نشرها؟ قد سمعت قصص يشيب لها الرأس عن الصور و التنترنت. قلت له بفزع:- « العفو منك،عندنا عيب يتصوروا.آيب فهمتني؟ » قلتها بلكنته كي يفهم! هز رأسه بأسف ظاهر. ودعته قائلة:- « شكراً على المنديل ،مع السلامة. » تذكرت والدي فأسرعت الخطى إلى الدكان ، قال لي صاحب الدكان :- « ماذا كان يريد منك النصراني؟ » أجبته :- » أعطاني منديلا لأمسح دما نزل من أنفي لأنني سقطت، هل رأيتني؟ لماذا لم تقترب لمساعدتي ، النصراني أفضل منك! » قاطعني :- « ألم يقل لك شيء كذا و الا كذا؟.... » أخذت الحقين و الخبز و رميت له المائتين ريال قائلة:- « و الله ما كذا و إلا كذا إلا في رأسك. » حمدت الله في طريق عودتي أنني لم أتصور إذ لكان هذا النجس نشر الخبر ، حكى قصص عن خلاعتي و مجوني. شيء مقرف أن تحاصرنا، تكممنا، أكياس متحركة من الزبالة ! فيحيلون رائحة دنيانا كلها إلى رائحة كريهة تزكم الأنوف.

عدت للمنزل فوجدت أبي قد نام. هكذا عندما يكون جيبه خاوي. ينام حتى صباح اليوم التالي. هل أطبخ البطاط أم تراني وحدي آكله؟؟ أنا يكفيني خبز و حقين و سأحتفظ بالبطاط للغد. شيء مقرف حين يكون القوت قليل. أكلت خبزة و شربت قليلا من الحقين. قمت لأرفع الغطاء فوق كتف أبي الناحل. لعله مريض لأن وزنه ينزل بشكل سريع. شيء مقرف أن تمرض و تموت لأنك لا تملك قيمة المعاينة و العلاج في اليمن. رتبت علب الكبريت استعدادا للخروج للبيع بعد صلاة العصر. سمعت طرقا على الباب. قلت :- « من؟ » أجاب صوت الأجنبي:- « أنا اللي جبت لك المنديل لما وئئتي ،منكن تفتهي الباب؟أوز أتكلم مئاكي » ابتسمت للعربية المضحكة التي ينطق بها و لكنها مفهومة. رحت لأتأكد أن أبي مستغرق في نومه. عدت و فتحت الباب. سألته:- « خير؟؟ ماذا تريد؟ » أجابني :- « أنا هبيت اسألك لو أنتي أوزة إشتغلي؟ » أجبته بأنفه و خيلاء: - « أنا لدي وظيفة! أنا أبيع كبريت. » قال لي:- « تيب جيبي كولو،أنا إشتري منك كولو كبريت. » لم اصدق إذني ذهبت أتقافز و ألقيت في حضنه 50 علبة.أعاطاني 5000ريال. ابتسمت ابتسامة فرضت نفسها على وجهي. شكرته. عاد ليسألني:- « إنتي مش أوزة تشتغلي؟ تنظفي مكتب. تجيبي شاي و نسكافيه للموظفين؟ هيكون أندك مرتب كل شهر أنا. ممكن كل شهر أجيب لك كمان أكل. » تفكرت في كلامه، لما لا؟راتب و أكل؟؟ بيع الكبريت بهذلة، و تنظيف مكاتب الناس بهذلة لكنها بهذلة أقل فأجبته :- « أنا موافقة، بس لازم استأذن من أبي. » ابتسم الرجل الأجنبي فبدا وجهه كوجه الطيبين:- « تيب، زي بئضه، إسألي بابا بئدين قولي لي. هوا موجود؟ أئدر أسلم عليه؟ » قلت له بأنه نائم. في تلك اللحظة سمعت صوت أبي يناديني ، لقد قام من نومه. ماذا سيقول؟ أخبرت الأجنبي و أنا أدفعه بعيدا عن الباب أن يرحل الأن. دخلت لأبي الذي قال لي: « أنا جائع ، اعطيني بعض البطاط. »  أجبته:- « سامحني يا أبي ، عودتني عندما تعود قبل الظهر أن تنام حتى صباح اليوم التالي فلم أطهُ. أكلت بعض الحقين مع الخبز و ادخرت البطاط للغد. » تنهد المسكين، شيء مقرف أن لا يحترف رجال اليمن إلا التنهيد فيدمن عليهم. حكيت له عن الرجل الأجنبي.سألني:- « و أين الخمسة آلاف؟ » أجبته:- « موجودة ،غدا لا تذهب للعمل ، سنطبخ دجاجة و أرز و طبيخ باميا...كرهت البطاط! » قال لي:- « اتفقنا . اخرجي معي حين أذهب لشراء الخضروات لكي تشتري لك صندل، صندلك تمزق. » قلت له :- « و أنت يا والدي أيضا اشتر لك صندل و شال جديد. ليس عيبا أن نلبس جديد. » أضاف :- « هيا نشتري موز؟ » استرجعت منظر الموز فأجبته:- « و موز يا أبتي و لا يهمك، و ببس! » قال أبي:- « ما رأيك لو لا نشتري دجاجة مذبوحة تطهينها أنت، و لكن نشتري دجاجة محمرة من التي أشاهدها و أشتهيها يوميا و أنا أراها تتقلب على النار في المطاعم. » أجبته :- « كل ما تشتهيه يا أبي. »  سكتنا لبرهة. خيم صمت الحرمان بطعمه الحزين. بصوت خفيض سألت أبي :- « ماذا عن الوظيفة؟ هل أعمل فيها؟ » أجاب أبي :- « هل تجدين في نفسك رغبة في ذلك؟ » أجبت:- « طبعا يا أبي ، الراتب ثابت و مضمون...بيع الكبريت ضياع. » هز والدي رأسه، سمعته يعزف على الناي. نمت يومها و ظل أبي ساهرا حتى الصباح يتخيل الدجاجه المحمرة و ما سنأكله صباح اليوم التالي. أغمضت عيني لكن ظللت مستيقظة طوال الليل أتخيل الوظيفة الجديدة ، و الراتب الذي سأستلمه نهاية كل شهر دون أن أبيع اي شيء.

في صباح اليوم التالي سمعت طرقا على بابنا. سألت :- « من في الباب؟ » أجابني صوت الأجنبي : - « انا اللي جبت لأنتي المنديل. » لبست نقابي ، فتحت له الباب و دخلنا لدى والدي الذي فوجئ بدخول هذا الأجنبي بيتنا المتواضع. جلس الأجنبي يحكي لأبي أنني سأعمل في مشروع مليء بالنساء و الرجال و أن الجميع في غاية الإحترام. وصف وظيفتي بأنها تنظيف المكاتب و تقديم الشاي و القهوة للموظفين. لم يخرج الرجل إلا و قد أخبرنا بأن باص العمل سيأتي غداً لأخذي إلى مقر المشروع. فرحت كما لم أفرح في حياتي. أخبرت أبي ألا يخرج إلى العمل غداً فضحك قائلاً :- « لن تستلمي إلا آخر الشهر فمن أين نأكل حتى ذلك اليوم؟ » شيء مقرف أن يحارب الإنسان ليس من أجل طموح أو هدف محفوف بالتحديات بل من أجل القوت فحسب.  شيء مقرف أن يسرق حكامنا منا كل شيء حتى قوتنا.

في صباح اليوم التالي كان حجابي و نقابي و البالطو جميعها قد جفت. لبستها و جاء الباص فذهبت. وظيفة ممتازة المواصلات فيها مجاناً. دخلت لأجد نساء يرتدين حجاب إسلامي لا نقاب، و بعضهن أجنبيات بشعورهن. بدأت أقوم بعملي بعد أن جاءت المنظفة في الدور الأرضي لتشرح لي بالضبط مهامي. نفذتها على أكمل وجه. كنت مسؤولة عن المشروبات أيضاً. جاء آخر الشهر فناداني الأجنبي و قدم لي كرتون كبير. فتحه أمامي ، بداخله زيت، أرز،سكر، مكرونة،شاي، حليب مجفف جبن و صابون. أشياء كثيرة للغاية. قال لي أنني إذا واصلت عملي بإتقان فسوف يعطيني كرتونين و ليس واحدا ! ابتسم ابتسامة عريضة. لم أفهم أين الراتب الذي وعدني؟ مرت أيام بعدها و لم يسلمني أحد راتبا. أشار على أبي أن أسأله ثم تراجع و قال ما يعطيه لنا من أطعمه يطعمنا لمدة تزيد عن الشهر اسكتي و بس يا بنتي، والدك قد كبر. لست ادري ماذا ذقت في طرف لساني. لعله الإستعباد. لماذا أقبل أن أعمل مقابل الغذاء؟ جاوبتني نفسي لأنك كنت تتضورين جوعاً! دون علم أبي لأنه كان سيعترض ، دخلت إلى مكتب الأجنبي و باستحياء عظيم قلت له :- « لم أستلم أي راتب؟ أما وعدتني براتب؟ » قال :- « الراتب؟ أيوة، أيوة ُقريب أوي حتستلميه. » انتظرت و لم أستلم شيئا. كان الأجنبي ابن كلب . هكذا أصف الكاذب. بدأ الكرتون الذي أستلمه يشمل ثيابا للشتاء و بطانية. فرحت لكنه فرح بلا أجنحة،أحسستني معاقة أو كسيحة. أحسستني، كأني سأطير بالوعد الذي وعدني، لكنه تركني كسيحة. لماذا لم يساعدني بتسجيلي في مدرسة لأتعلم؟ لماذا لم يعلمني حرفة أكسب منها قوتي بيدي. هذا الأجنبي ليس طيبا كما كان يبدو. لمس أنني أتضور جوعا، فوظفني مجانا مقابل الطعام.بمرورالوقت لاحظت أن الموظفات اليمنيات يتغامزن كلما خرجت بعد وضع الشاي. في أحد الأيام أمرتني نفسي فتنصت. هالني ما سمعت ،كلام غريب عجيب. لم أفهم معظمه. لكن ما فهمته كان مريع.قالت الموظفات أن الأجنبي يسجل فيلم وثائقي عن الفقر في اليمن وأن في مكتبه كاميرات مخفيه، و أنه أحضرني لهذا العمل لكي يصورني دون أن أعرف و ليقوم ببعض التجارب عن حالتي.قلن بأنه سيحصد أموالا طائلة بسبب هذا الفيلم عندما ينشره. سمعتهن يصفنني بأنني فأر تجارب، سمعت جمل متقطعة "كم ستتحمل دون راتب؟" "متى ستثور على عدم الراتب؟" "هل علمها الفقر الإذعان"......بكيت خلف الجدار حتى سال دهان الجدار على خدي. سمعتهن يذكرن أن الأجنبي لا يساعد إلا لينتفع ، فما الذي جعل أمريكا تساعد ليبيا في ثورتها و لم تساعد غيرها؟ لماذا في دول الخليج لم تحدث ثورات أصلاً؟ لماذا تدخلت فرنسا في مالي؟ لماذا أمريكا تتفرج على الشعب السوري يموت في مجازر؟ بدت الأسئلة بالنسبة لي كأنها لغة صينية إذ لم أفهم منها شيئا سوى أنني "فأر " حتى تجارب لم أفهمها ! سألت نفسي، هل أترك الوظيفة؟ تذكرت رصيف البنائيين ، علب الكبريت و أطفال اليمن حارتي....فقررت أن أستمر في عملي كفأر تجارب.لا بأس، لماذا أخجل من ذلك؟ هل أنا أغلى من أرض اليمن،باعوها بثمن علبة كبريت فوق رصيف.... أنا فأر تجارب و وطني كله في علبة كبريت.

 
في الثلاثاء 05 مارس - آذار 2013 03:47:06 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://m1.marebpress.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://m1.marebpress.com/articles.php?id=19505