أوصيك بالمستحيل.
د.مروان الغفوري
د.مروان الغفوري

عندما بلغ إدوارد سعيد ال 38من عمره أصدر كتابه اﻷشهر " اﻻستشراق ." كان أشبه بمنفيستو تاريخي ألقاه شاب غادر بلدته القديمة، القدس، ليدين العالم المتحضر ويكشف انحيازاته الثقافية عبر تفكيك أدبه وفنه وكتابته للتاريخ .

رحل إدوارد في العام .2003 بعد رحيله صدر كتابه اﻷخير " موسيقى بلاحدود ."

بموازاته صدرت طبعة جديدة باللغة اﻷلمانية لكتاب اﻻستشراق .

عرفت دار النشر بمؤلف الكتاب : المفكر اﻷصولي إدوارد سعيد .

الموقف المناهض للتحيز الثقافي اﻷوربي، لمركزيته الحضارية واﻷخﻼقية هو بالضرورة موقف أصولي، هكذا تنتج الثقافة الغربية بطريقة ميكانيكية تصنيفاتها .

روستيك، وهو ناقد موسيقي ألماني، علق على كتاب إدوارد اﻷخير :

موسيقى بلا حدود، بقوله إنه أصيب بالخيبة بعد أول مائة صفحة، بخيبة أكبر بعد مائتي صفحة، ثم باﻻستياء واﻻستنكار بعد ثلاثمائة صفحة .. كان يحاول أن ينتقم من صاحب اﻻستشراق بنفس طريقته .

رثته الثقافة العربية كثيرًا بعد رحيله، ولم تنتبه إلى حقيقة أنه لم يكن أحد منجزاتها . فضلاً عن أنه كان إدانة فادحة لواقعيتها .

في قصيدة طباق يقول  إدوارد لدرويش :

إذا مت قبلك أوصيك بالمستحيل .

يسأله درويش :

هل المستحيل بعيد؟

- على بعد جيل .

بعد خمسة أعوام رحل درويش .. ترك إدوارد المستحيل خلفه، الفجوة الهائلة التي فشلت الثقافة العربية برمتها في تجسيرها .

ورحل درويش، الذي قيل عنه أنه جسر المسافة "الفارغة " فنياً ما بين المتنبي وعصرنا الراهن .  ترك مستحيلاً آخر .

عندما كان إدوارد يفكك كتابات ونصوص فلوبير ليستخرج منها ضلاﻻت اﻻستشراق الغربي وتنميطه النهائي للشرق كان ورثة اﻷنبياء في الخليج يتداولون منشورات " قادة الغرب يقولون دمِّروا الإسلام أبيدوا أهله " وكان كتاب عائض القرني "سبع ليال في أفغانستان " يبيع مئات آﻻف النسخ .

فهم إدوارد اﻷسرار الكبرى في الثقافة اﻷوربية فتحدث عن الشرق بوصفه اختراعاً غربياً .

كان ورثة اﻷنبياء يقلبون العالم بطريقة أخرى .

يحشدون المنشورات السريعة ذات المهمة اﻵلية، تلك التي بمقدورها أن تخلق أكبر موجة ممكنة من الممتثلين المتشابهين كي يكون بالمقدور صناعة " الصف " من خلالهم . الصف هنا سيكون هو أيضاً :

جيل النصر المنشود . ستكون هناك دائماً معركة . حرب . خسارة ونصر . شهداء وقتلى .

بعد عشرة أعوام من رحيل إدوارد يتحدث رفاقه عن البطالة، الحرية، العدالة. بينما ﻻ تزال الثقافة العربية اﻻسﻼمية تتحدث عن اﻻستشهاد، في مضامينها العميق تمجد الفقر بوصفه القدر العظيم مدفوع الثمن أخروياً .

تتحدث الثقافة الإسلامية، عبر منابرها العملاقة، عن منتهى الكمال المنشود :

أن يكون عدد المصلين في الفجر والجمعة متطابقاً .

عندما رحل إدوارد سعيد كان أيضاً يحلم بذلك اليوم، لكنه تخيله بطريقة مختلفة، اليوم الذي يختفي فيه الفقراء من شوارع المدن ويحصل الجميع فيه على فرصة في الرفاهية .. هاهي سوريا اﻵن تنتقل من الثورة إلى الحرب اﻷهلية .

في العام 1961 كتب شاعرها أدونيس في أغاني مهيار الدمشقي : حين تكون اﻷرض  مقصلة خرساء، أو إله .

نتيجة فيزيائية للثقافة المحاربة، للتربية القاتلة، لهوس الجنَّة.

ها هي أرضنا العربية، التي أفلت منها إدوارد سعيد في طفولته فرأى ما لم نر، ﻻ تزال تحارب نفسها بنفس التكتيك والذرائع ونزوﻻً  عند نفس قائمة الغايات كما كانت تفعل قبل أكثر من ألف عام .

بعد سنين طويلة من معركة بدر مر الرسول على قبور الشهداء. تمنى أصحابه لو أنهم كانوا قتلوا في تلك الحرب، وأنهم أصبحوا في الجنة .

صمت الرسول قليلاً . ثم حدثهم بكلام كثير عن جمال الحياة وقداسة العيش وروعة اﻷرض. قال لهم إنهم، وهم لم يستشهدوا، أفضل من الذين استشهدوا مع الزمن . ضرب مقارنات دينية أيضاً .

ﻻ يزال النص مدفوناً في كتب الحديث كما ورد، لكن ﻷنه ليس من النصوص المقاتلة فإنه لم يحظ بالشروح الكثيرة.

قتل بالترك واﻹهمال، بالصلب، مثل غيره من النصوص التي تمجد الحب والتسامح، وتتحلق حول إنسانية اﻹنسان وجمالية الموجودات .

كما فعل اليهود مع يسوع عندما أخبرهم أنه ﻻ يحمل أفكاراً عن القتال بل عن الحياة والجمال..


في الأربعاء 01 مايو 2013 06:39:17 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://m1.marebpress.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://m1.marebpress.com/articles.php?id=20231