أضواء على حديث الدكتور عوض القرني على الجزيرة
د. محمد معافى المهدلي
د. محمد معافى المهدلي

كان حديث الشيخ د. عوض بن محمد القرني بالأمس الاثنين : 16/7/1434هـ على قناة الجزيرة ماتعاً ورائعاً وعميقاً وموفقاً، تناول فيه موضوع (الإسلاميون ووظيفة الدولة) تناول هذا الموضوع بشكل علمي وشرعي وسياسي جدير بالثناء والإطراء ،بيد أنّ هذا الحديث مع روعته وعمقه وعلميته وشرعيته ، بحاجة إلى إلقاء بعض الأضواء عليه ، ليس من باب الاستدراك ، فمثل الشيخ د. عوض القرني لا يستطيع مثلي أن يستدرك على مثله ، وفقه الله ، وإنما الغرض من هذه الأضواء أو الإضاءات – على الأصح- الغوص في حديثه حفظه الله للاستفادة والفائدة العلمية ، واستخراج بعض الدرر العلمية والكوامن الفقهية ، ليس إلا .

أولا : تحدث فضيلته من ضمن ما تحدث فيه على الجزيرة ، تعريف مصطلح \"أهل الحل والعقد\" وكنت أتوقع من فضيلته أن يعرّفه بالتعريف الذي درج عليه فقهاء السياسة الشرعية ، بأن المراد بهم \"العلماء المتبوعون والأمراء المطاعون\" .

بيد أن الدكتور حفظه الله لم يتطرق إلى هذا التعريف ..وقطعاً مثل الشيخ الدكتور /عوض القرني لا يخفى على مثله هذا التعريف المتداول والشائع ، ولكنه أعرض عن هذا التعريف صفحاً، وجنح إلى تعريف آخر لأهل الحل والعقد وهو قوله بأنهم: \"رؤوس القوم وأهل الكلمة والرأي\" ولم يشر فضيلته إلى ضرورة كونهم من العلماء والفقهاء، وهذا رأي أعتبره تجديدي بامتياز في باب السياسة الشرعية، فوجود العلماء أو الفقهاء في أهل الحل والعقد يبدوا أنه ليس بشرط ، وإنما يعدّ أمرا قد يقع وقد لا يقع، بحسب قدرة العلماء أنفسهم على إثبات حضورهم ووجودهم في الأمة والمجتمع ، فإن كان هذا فذاك ، وإلا فليس أصلا وجودهم بشرط لازم، ويكتفى بأن يكون أهل الحل والعقد من أولي الرشد والرأي والمشورة من رؤوس القوم وساداتهم وكبرائهم، لأن وظيفة أهل الحل والعقد أو قل من أهم وظائف أهل الحل والعقد اختيار الحاكم، وهذا الاختيار ليس بالضرورة أن يكون صاحبه فقيهاً عالماً مجتهداً بل يكفي فيه أن يكون من أهل الملة والدين وسلامة المعتقد وصحة التدين .

وهذا رأي اجتهادي أحسب أن فضيلته أراده أو ألمح إليه ، وربما صرح به ، من خلال التعريف الذي ذكره فضيلته آنفاً، إلا اللهم أن يصدر من فضيلته ما ينفيه أو يبينه ويجليه .

كما أنه لا يُفهم من حديثي هذا الترويج لاستبعاد العلماء والفقهاء من مجالس أهل الحل والعقد في الأمة، لأنه لا قائل بهذا ، بل النصوص الشرعية تدعونا دوما إلى اتباع منهجهم واقتفاء طريقتهم، لكن إن تعذر وجود العلماء في أهل الحل والعقد لسبب من الأسباب، فوجودهم ليس بشرط لازم ، وعلى الأمة حينئذ، البحث عن الأمثل فالأمثل، إلى أن تصل إلى أن يكون العضو في مجلس أهل الحل والعقد، مسلما متبوعا ذا رأي في قومه وعشيرته، على النحو الذي أشار إليه فضيلة الدكتور القرني، وهو ما صرح به الإمام ابن القيم في الطرق الحكمية والإمام الماوردي في الأحكام السلطانية ، وشيخ الاسلام في فتاويه، وغيرهم من أئمة السياسة الشرعية قديما وحديثا .

ثانياً : ذكر في حديثه الماتع وفقه الله الدولة الدينية ، والدولة المدنية ، فذكر أنّ هذه مصطلحات مستوردة ، فالدولة الدينية في الغرب لا صلة لها بالسياسة، والدولة المدنية كذلك لا صلة لها بالدين .. والواجب على الأمة الإسلامية أن تحرر هذه الألفاظ من التبعية .

إلا أن فضيلته ذكر نقطة هامة وهي أنه لا مانع من استعمال مصطلح \"الدولة المدنية\" مع بيان أنها ليست تعني الدولة المتحررة من الدين أو بشرط بيان أن الدولة المدنية ليست هي الدولة العلمانية لئلا يقع اللبس .

وهذا رأي هام وجميل من أحد رموز المدرسة السلفية المعاصرة في الجزيرة والخليج ، يجعلنا لا نتوجس خيفة –كعامة أو طلبة علم - من استعمال هذا المصطلح، إذا ما تم تحريره أو فهم المراد منه بلا لبس .

ثالثاً : ذكر فضيلته أمراً في غاية الأهمية وهو أنّ السياسة الشرعية لا تعني عدم التقيد بالدين على اعتبار أن مجال الاجتهاد فيها – أي السياسة الشرعية – واسع ، بل يجب أن تكون السياسة الشرعية في إطار الدين ، لأن الدين عندنا ليس \"كهنوتيا\" كما الغرب ، بل هو دين سماوي إلهي يتناول كل مظاهر الحياة الإنسانية ومجالاتها المختلفة 

وبالتالي فيجب أن تتقيد السياسة الشرعية في أصولها العامة والكلية بالدين، كالشورى والعدالة والمساواة والحرية، وتوزيع الثروة توزيعا عادلا، وغير ذلك ، أما التفاصيل فهي شأن اجتهادي بشري موكول إلى الرأي والاجتهاد .

أخيراً : يكتسب حديث الشيخ الدكتور / عوض القرني أهمية خاصة في تقديري لكون الرجل من أبناء المدرسة النصية أو ما يسمى بمدرسة النقل، ذات الأثر المبارك في الأمة ، والمعروف عن هذه المدرسة تغليب النقل والاعتماد عليه، وربما أدى هذا إلى نوع من أنواع \"تحجيم\" أو\"تقزيم\" العقل، بيد أنّ الدكتور القرني بطرحه هذه القضايا وغيرها من القضايا على الجزيرة وغير الجزيرة ، أثبت أن ثمة تطورا فقهيا وعلميا وفكريا جدير بالإشادة والثناء الحسن، بدأ يطرأ على هذه المدرسة المباركة ، التي بدأت تتيح للعقل مساحة أكبر وأوسع من النظر والاستدلال، بما لا يعارض النقل، سيما في باب السياسة الشرعية والحكم ، تستحق الثناء والإكبار من الجميع .

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .


في الإثنين 27 مايو 2013 03:56:16 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://m1.marebpress.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://m1.marebpress.com/articles.php?id=20592