دبيب في الظلام
عبدالعزيز العرشاني
عبدالعزيز العرشاني

بدأ الظلام يزحف ويسدل غشائه برفق على المدينة وكأنه يعرف ما تعانيه من متاعب جمه فلا يُريد أن يثقل كاهلها ايضاً؛ بينما هو كغيره من المساجين يزاحم على الشباك الوحيد المسدود بعوارض حديديه لتحظى عيناه بأكبر قدر من الضياء وليكون أخر عهده قبل أن تغرق المدينة في الظلام كما تغرق في المجاري الآسنة والشباك المسدود هو كحبل السرة لهم فهو يربطهم بالحرية والناس والهواء والضوء.. تدخل منه أضواء السيارات فتبعث في قلوبهم الأمل ولكن سرعان ما تبتعد وعلى أثرها يختفي الضوء مبدداً معه أحلامهم فيعودون إلى يأسهم وقنوطهم وغربتهم, وبالرغم من وجود مصباح معلق بسلك كهربائي يتدلى من وسط الغرفة إلا أنه لا يضيء إلا نادراً في الأعياد الوطنية أومن قبل سلطات عليا كما سمع ممن سبقوه؛ وكأن وجوده ليس إلا للتذكير بأن هنالك ما يسمى بالكهرباء أو لتمييز المدينة عن القرية أو حتى للدعاية عن نوعيته,وعند الغروب تنطفئ الحياة في عالمهم المحدود بسقف وأربعة حيطان والمكتوب عليها اسماء لزوار سابقين بعظهم مازال نزيل المكان تسبقها كلمة ذكريات بأشكال مختلفة وعبارات متعددة ولركاكتها يخيل لمن يراها أول وهلة أنها مكتوبة بكل اللغات العالمية وغير العالمية المعروفة والمجهولة.. في أول يوم دخل فيه السجن أخذ يقتل الوقت بتأمل الغرفة التي اُنزل بها- وينطق كلمة غرفة تعمداً وتحبباً فهي أهون من كلمة السجن- حتى حفظ كل شبر فيها عدد البلاط والعبارات المكتوبة على الجوانب وعدد أخشاب السقف وكل شيء تحتويه, وفي الغرفة او السجن حاول أن يُلغي أوعلى الأقل أن يتجاهل حواسه ماعدا حاسة السمع فلا يستغني عنها فهي الصلة والرابط الوحيد بينه وبين العالم الخارجي فهي تبعث فيه الشعور بنبض الحياة حتى أصبح يميز ويدرك ما يحدث خارج عالمهم الضيق فأصبح يُفرق ويُميز بين خطوات الجنود الثقيلة وخُطى المساجين الواهية الضعيفة التي تشبه دبيب الحشرات, وهو كما يميز الجنود من خلال خطواتهم كذلك يميز بين أنواع السيارات وسرعاتها من خلال صوت محركها وأكثر ما يؤذي سمعه صوت محركات السيارات الفارهة بصوت محركها الوحشي الأجش وسرعتها الجامحة وكأنها مثله كانت محبوسة ثم فُك أسرها فانطلقت كالرصاصة تريد أن تعوض ما فاتها حتى انه يخشى أن تقتحم عليهم المكان وتدهسهم في ثورة جموح.

هذا هو اليوم الخامس له في السجن ومازال متحسراً على المجيء من قريته ولكن ما باليد حيلة فقلة مردود الأرض الزراعية جعلته يركب الصعب ويبذل الغالي والنفيس ويغترب عن أسرته ويعاني لواعج الفراق وبخاصة لجدته وأخيه الصغير اللذّين يفتقدهما كثيرا, وكانت خطته ببساطة شديدة شراء عربة يبيع عليها الفواكه أو لخضار والربح يرسله لأسرته لإعالتها, ويالها من لحظات مشئومة يوم ان وصل للمدينة وكأنها كابوس لا يريد أن يبارحه؛ فلحظة أن وصل ونقد البائع قيمة العربة من المبلغ الذي جمعه من بيع بقرتهم الوحيدة الذي خُيل أليه أنه ينقد البائع عضواً من أعضائه فقد كانت معيلهم الوحيد وكانوا يعتبرونها أحد أعضاء اسرتهم البسيطة؛ وما أن وضع يده على العربة ودفعها أمامه مؤملاً الاتجاه مع من سبقوه من أبناء قريته إلى ميدان التحرير الذي سمع عنه ولم يره حتى اللحظة طلبا للرزق والتكسب حتى ظهر العسكر فجأة وكأنهم على موعد سابق معه وهجموا عليه دون إشعار وقادوه ومعه العربة التي لم يَعرف مصيرها الى الآن إلى الطقم العسكري ثم إلى السجن مباشرة ومنذ اليوم الأول وحتى هذه اللحظة لا يعرف سبب اختطافه وسجنه وبالتالي لا يعرف موقعه من القانون؛ كما أنهم حتى الأن لم يقولوا له شيئاً إلا نظرات الغضب في عيون الضباط والعسكر تصليه كالحمم كلما نظروا إليه حتى بات يتحاشى النظر إليهم؛ ومحاولاته لإفهامهم وتوسلاته لاستعطافهم لم تُجدي نفعا, ظن بادئ الأمر أنهم كانوا يريدون شخصاً غيره وأوقعه حظه العاثر بأيديهم؛ ثم أعتقد أنهم اشتبهوا في تجارته البسيطة فأخذ يحلف بـ أغلظ الأيمان كل ما لاحت له الفرصة للتطرق لموضوعه أنه لم يرد بيع الممنوعات أو المنكر والمحرم فلما وجد كل حججه ومبرراته ودفاعه عن نفسه لا تجدي استكان وهدء ليخرج وينسلخ عن نفسه ويراقب الآخرين من المساجين أمثاله ولا يعود لنفسه إلا عند مقارنته بهم, وكانوا أغلبهم إن لم نقل كلهم من أصحاب العربات أمثاله.

في تلك الليلة لم يستطيع النوم فقد انتهت نقوده ولم يتبق من رصيده إلا مبلغ زهيد بالكاد يطعمه وجبتين دون حد الشبع؛ فإلى جانب قيمة السندويتش يجب ان يدفع أجرة الجندي الذي سيجلبه لهم بعد أن يستعطفه وبقية المساجين بالكلام والنظرات كي يذهب ويشتري لهم جماعياً سندويشات بالكاد تقيتهم؛ خاصه بعد أن أصبحت قطعة الخبز كنصف الكف؛ وأحياناً كثيرة لا يجدون محتويات السندويش والسبب معروف لديهم حيث أن الجندي يدخل يده في بطن قطعة الخبز ويلتقط منه الجبن أو البيض ويعطيه اياهم فارغاً ولا يستطيعون الشكوى أو التعليق ولو حدث ما زاد الجندي إلا نقمة وسخطاً ثم تحرشاً بهم.. في الصباح الباكر وبشيء من الخوف تجرأ وطلب من جندي الحراسة إخراجه من السجن فرد عليه الجندي: "المفتاح ضائع" انتظر حتى نجده ثم نتفاهم, وظلت الأفكار تتلاطم في رأسه ما مصيره؟ ومتى سيخرج؟ وما الحل لو لم يجدوا المفتاح لا سمح الله؟.


في الأربعاء 23 أكتوبر-تشرين الأول 2013 06:43:53 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://m1.marebpress.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://m1.marebpress.com/articles.php?id=22472