ليس من السنّة
أ. د/أ.د.أحمد محمد الدغشي
أ. د/أ.د.أحمد محمد الدغشي

مأرب برس – خاص

إذا كانت السنّة في أصلها اللغوي: الطريقة والسيرة وابتداء الأمر الذي لم يُعرف فيقال: سَنَّ الطريق سَنَّاً وسَنناً (ابن منظور في لسان العرب جـ6ص-399 -400 (مادة سنن) )؛ فإنها في اصطلاح عامّة المحدَّثين: ما روى عن النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ من قول أو فعل أو تقرير أو صفة خلُقية أو خَلقية، لكن عامّة الأصوليين(علماء أصول الفقه) يقصرون معنى السنّة على ما روي عن النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ من قول أو فعل أو تقرير. وبالموازنة بين التعريفين لدى المحٍّدثين والأصوليين يُلاحظ مدى الإعزاز الذي يوليه المحدِّثون للسنّة النبوية، ولذلك أدرجو الصفتين الخَِلقية( بفتح الخاء وكسرها) والخُلُقية (بضم الخاء)، ضمن مقاصد مشمولات التعريف للسنّة. غير أن ذلك- من الجهة المقابلة- لايؤذن باتهام بتفريط أو تجاوز الأصوليين– معاذ الله – لمقام النبي محمّد –صلى الله عليه وآله وسلّم- بيد أنّهم – من وجهة نظر كاتب هذه السطور- كانوا أكثر ضبطاً علمياً، وأدّق في فهمهم لمقصد السنّة ودلالاتها التعبّدية. ومن المعلوم أن المرء مكلّف بالجوانب التعبّدية لا غيرها.

إنّ الصفات الخُلُقية جزء من قوله – عليه الصلاة والسلام- أو فعله لا تخرج عن هذه الدائرة. ولذلك كان اقتصار الأصوليين على تعريفهم.

أمّا إدراج الصفة الشخصية الخَِلقية للنبي – صلى الله عليه وآله وسلم- فمما يعدّ خارج الإرادة الإنسانية، وفوق قدرتها، والقاعدة الأصولية الشهيرة تؤكّد أن ( الدين لايكلِّف بما لايطاق). وهنا نتساءل: كيف يُتعبد المسلم بلون جسم النبي– صلى الله عليه وآله وسلم- أو حجم قامته، أو لون عينيه، أو صفة شَعْره ، أو نحو ذلك مما يتصل بشكل هيئته الأصلية الشريفة، وإنما حديثنا عن السلوك الإرادي الذي يمتلك الإنسان فيه قراره ليحاسب أو يجازى في ضوء إرادته وقراره النابع من محض اختياره، اسجاماً مع عدالة الله المطلقة.

إن تحديد هذا المدلول جدّ هام لتمييز ما هو من السنّة- بعيدا عن العاطفة المؤمنة الجيّاشة وحدها- عمّا هو ليس منها، إذ يترتب على ذلك سلوكات سليمة أو خاطئة، ولا سيما في الميدان التربوي حين تلتبس مثل هذه الفوارق على بعض المعلّمين المتدينين، وهو ماينكعس تلقائياً على تلامذتهم من الناشئة المتدينين، فيقعون في مسلك الغلو والتشدّد في بعض جوانب سلوكهم كلباسهم الذي هو من عاديات الأمور – لا من عباداتها- إذا روعيت فيه الضوابط الأساسية من حشمة وعدم تشبّه صريح لا موهوم، ونحو ذلك، أو مأكلهم ومشربهم، وهما من وسائل الحياة المتغيّرة لا من مقاصد الدين وغاياته، إذا روعي في ذلك الضوابط الأساسية من تحرٍّ للطيّب الحلال ، والتزام بآداب الطعام المنصوص عليها في صحيح السنّة، ونحو ذلك.

أجلّ لابدّ من التأكيد على ضرورة التزام التوجيهات النبوية الكريمة في السلوك الإرادي التعبّدي، لكن لابدّ من التأكيد كذلك على ضرورة أن لا يلتبس ذلك بما هو من قبيل عاديات الأمور،أو جبليات الطبع البشر، أو خبرة حياتية لا علاقة لها بالعبادة، فما كان طبعاً جِبِلِيّاً للنبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ أو ممارسة عادية في الحياة ناتجة عن الخبرة البشرية العادية، فإنّه لا يصدق عليه معنى التأسي بمفهومه الشرعي المتعبّد به، وإن صدق من الناحية اللغوية، لكن العبرة بالأول. ولعلّ من أبرز الأمثلة الجليّة على المعنى الأول أي النابع من الطبع الجبلي البشري امتناعه ـ عليه الصلاة والسلام ـ من أكل لحم الضب ،ولكن ذلك ليس نابعاً من كونه حكما شرعيا(محرّماً) بل لعدم استساغته ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ لطعمه ومذاقه، نظراً لكونه غير مألوف في بيئته الخاصة، إذ عللّ ذلك لمن ظن امتناعه عن أكله حراماً فسأل: "أحرام هو يا رسول الله"؟ فقال: "لا، ولكن لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه" قال خالد(رواي الحديث): "فاجتررته فأكلته ورسول الله ينظر"، وفي راوية أخرى قال ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ : ((الضَبُّ لست آكله ولست أحرَّمه) (البخاري، جـ9ص663 حديث رقم 5537، عن خالد بن الوليد).

وكذا فإنّ الممارسة الحياتية الناتجة عن الخبرة البشرية العادية لا تعدّ من قبيل السنّة التعبدّية لقوله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ : "أنتم أعلم بأمر دنياكم" جواباً على من ظن أن إشارته على قوم مرَّ بهم وكانوا يلقِّحون النخيل بقوله: "لو لم تفعلوا لصلح" لكنه خرج شِيصَاً (رديئاً) فقال: "ما لنخلكم؟" قالوا: "قلت كذا وكذا" فقال: "أنتم أعلم بأمر دنياكم" (صحيح مسلم، جـ15ص117-118 عن أنس بن مالك).


في الأحد 04 نوفمبر-تشرين الثاني 2007 06:21:09 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://m1.marebpress.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://m1.marebpress.com/articles.php?id=2777