فريكيكو، لا تلمني
د.مروان الغفوري
د.مروان الغفوري

كل شيء أصبح باهتاً ، من الحب إلى الموت. حتى الموت، حقّاً، أصبح ضعيفاً وهشّاً ولم يعُد يتواجد في غير الأماكن الضيقة والفقيرة .. في الأحياء الشعبية وفي سيارات النقل الجماعية، وفي المظاهرات العشوائية. يتحاشى الأغنياء ، والأبراج العالية، والأحياء النظيفة .. كما لم يعد مثيراً وساحراً مثلما تعوّد أن يكون.

 ملعون أبو الدنيا، هكذا كان نجيب محفوظ يصرخ بصوته الاحتياطي في رواية خان الخليلي.

كان د. أحمد عكاشة، رئيس الجمعية العالمية لأطباء النفس، يقول لنا ونحن في قاعة الدراسة : لا تسمحوا ليومكم أن ينتهي دون أن تحققوا إنجازات حقيقية تتسبب في إدخال الفرح إلى قلوبكم. إنكم لن تستمروا في الحياة بغير أسباب تنجز لكم الفرح والبهجة. وعندما نمازحه بالقول أننا نفشل في العثور على ما يصنع فرحنا، كان يقول لنا : تابعوا مباريات كرة القدم وشجّعوا الفريق الذي أنتم على ثقة من قدرته على صناعة الفوز. افرحوا لفوزه كما لو كان يفوز لكم أنتم. وهكذا شجّعنا ريال مدريد، وبرشلونه، وإيه سي ميلان، والمان يونايتد ؛ وتخلينا عن الفرق الوطنية التي تفوز بالدوري في بلداننا منذ عصور ما قبل كرة القدم وتفشل في كل المباريات الخارجية منذ أزمنة سحيقة. بيد أننا سرعان ما اكتشفنا أن تلك الفرق الكبيرة تحوّلت إلى سوق نخاسة للإتجار باللاعبين المحترفين وأنها ستخذلنا من وقت لآخر. وكانت النتيجة المتوقعة أن ينال فريق ليس على قدر عالٍ من الكفاءة ، مثل ديبورتيفو، من برشلونه في مباراة لم يكن توقيتها مناسباً أبداً. وكان فريقٌ مثل ريال مايوركا يتسبب في إحباطي لبقية أيام الأسبوع لأنه نجح في اختطاف أربعة أهداف في مرمى ريال مدريد. وفي نهاية المباراة عادياً ما كنتُ أصرخ في وصايا د.عكاشة : فريكيكو لا تلمني، سأستمر في تشجيع المهزومين.

فريكيكوووو لا تلمني، هكذا كان يكتبها نجيب محفوظ في روايته الشهيرة " ميرامار" التي ما زلتُ أصرُّ على أنه اختطف فكرتها من رواية " جسر الموت" للأمريكي الكبير ثورنتن وايلدر. وحتى في جسر الموت، الرواية التي تدور أحداثها في القرن الثامن عشر في " بيرو" بأمريكا الجنوبية، كان كل شيءٍ باهتاً وساذجاً بما في ذلك الموت الذي اختطف الناس من على الجسر، وفسّره الكهنة على أنه غضب الإله على جماعة دون العشرة من العصاة.

فريكيكو لا تلُمني.

د. عكاشة كان يعتقد أن الحياة الحقيقية هي عدد ساعات الإنجاز الحقيقي the achievements .. وهو نفس المعنى الذي واجهه المواطن العربي جبر في طريقه إلى أرض الروم. فعندما مرّ بمقبرة رومية قرأ على شواهدها : فلان بن فلان، من مواليد 1904 ، توفي سنة 1990 ، عاش سنة ونصف. فلان بن فلان، من مواليد 1922 ، توفي سنة 1989 م ، عاش ستة أشهر. ولمّا سأل أهل البلدة المطلة على المقبرة عن سر كتابة التأريخ على هذه الشاكلة المحيّرة أخبروه أنهم يسجلون العمر الحقيقي بعدد ساعات الفرح التي قضاها الميّت في حياته. فقال لهم : إذا متّ هنا فاكتبوا على شاهد قبري: هنا يرقد العربي جبر، من بطن أمه للقبر.

وعلى نفس الفكرة علّق العراقي أحمد مطر : إذا ما عدت الأعمارُ بالنعمى وباليسرِ، فعمري ليس من عمري.

لطالما اعتقدتُ أن البكاء يطهّر الذات البشرية. وكنتُ أحاول أن أصطحب البكاء معي عندما أكتب شعراً وأستدعيه في ساعات النجاح الأولى. قال لي أرسطو، في ما قرأته من كتبه ، أن الشعر ، التراجيدي منه بالتحديد، هو عملية تطهير واسعة. كأن الشاعر يقول للناس: تعالوا ابكوا معي واشتركوا في مأساتي. وفي أحايين كثيرة عندما لا يكون بوسعي أن أبكي ولا أن أكتب الشعرَ كنتُ أحس بأن العالم أضيق من دمعة، كما كانت اللبنانية العظيمة ليال نبيل تكتب قبل رحيلها. وسرعان ما أشتم رائحة دخان تطلع من صدري، أنظر إلى أرسطو ، أتذكر د. عكاشة، وبأسى أقول لأيّ منهما: فريكيكو لا تلُمني، لم أعد قادراً حتى على البكاء.

من بلكونتي كل صباح، أتأمل الشارع الممتد أمامي ، أحسبه جثّة هامدة. في منتهاه أرى الشمس تغطسُ في المغيب. أتساءل : كيف سأقطع هذا اليوم وأنا على هذه الصورة من الإحباط واليأس؟ يهاتفني صديقي خالد السناوي: برشلونه سيلعب هذا المساء. أعلّق نصف ابتسامة على وجهي: سحقاً لريكارد، النخّاس النتن، وسحقاً لكابيللو، العصبي الأحمق. وأتلمّس ، طيلة يومي، ما يمكن أن يصنع لي فرحاً. الفرح ذلك الذي ربما قصده ابن علوان في عنوانه الشهير : الكبريت الأحمر. هل هناك ما هو أقل وفرة من الكبريت الأحمر؟ لا تلمني يا فريكيكو، حتى برشلونه لم يعد قادراً على صناعة الفرح.

كتب أبو النجوم، أحمد فؤاد نجم، منذ أيام عن اليأس الذي غطى كل شيء. في مقاله، في الدستور، تحدّث نجم عن صديقه الذي قال له بإحباط: فين أيامك يا بو النجوم لما كانت الدنيا بتزرزرنا كنا بنلجأ ليك. لم تكن السخرية التي رد بها نجم على صديقه كافية للتغطية على الحقيقة. من يوم ما عرفتك والدنيا مزرزراك يا سيدي. اعترف بعدها نجم بأن كل شيءٍ أصبح باهتاً بحق حتى أنه، على عشقه للأهلي، لم يستطع أن يفرح لفوزه بالدوري هذا الموسم. لستُ الوحيد الذي علّق على كلام نجم : كلّنا في الهم شرقُ، بمثل مقولة أحمد شوقي لمدينة دمشق. وحتى أنتَ، يا صديقي، فإنك ستقول لي باسترخاء وأنت تقاوم الملل الذي ينام على صدرك الآن، مثل ساقية راكدة : لا تلمني يا فريكيكو، ليس بمستطاعي أن أحزن أو أفرح.

هل يمكن أن يصبح هذا واقعاً؟ أن تجد نفسك في منتصف النهار، تدخلك الأحداث والأصوات. تنهزم، وتنتصر في آن واحدةً، وأنت في مكانك لا تأبه للهزيمة ولا تفرح للفوز؟ كان النفسانيون يجرّبون مثل هذه الملاحظة على فأر. وضعوه في إناء موصل بسلك كهربائي. ولمرّات متتالية كانوا يكهربون الإناء. في المرة الأولى، كما يقول د.عكاشة، تحرّك الفأر برعب. قفز، سقط، اصطدم بجدران الإناء، دون خلاص. وبعد أربع مرات شعر الفأر باليأس والإحباط. وعندما كهربوه للمرة الخامسة نظر إليهم من قاع الإناء بملل ، ولم يبدِ أي حركة. لقد كان الفأر يردد في داخله مقولة المتنبي: وصرتُ إذا أصابتني سهامٌ، تكسّرتِ النصالُ على النصال.

في الجانب الآخر، يبدو الفرح مملّاً وكلاسيكياً. يبدو أن هذه الصورة هي التي تقفُ وراء فكرة الموضات والتقليعات الجديدة وتطوير نماذج الاستهلاك، وابتكارات الإخراج السينمائي، وانفجار النص الروائي، وإقامة الشعراء عند مستوى ندب الخيبة وعبادة العتمة، وتنويعات التعاطي الجنسي حتى وصلت إلى حد ممارسة الجنس مع النمور، وعادت مرّة أخرى لتهدم البناء البشري من أعماقه القديمة، زنا المحارم، للقضاء على الملل والمألوفية. كل هذا لأن الفرح أصبح باهتاً، ولأن القيمة المطلقة التي يفترض أن ينتظم حولها إيقاع الكون ، الله ، تنحّتْ مفسحة الطريق للقيم الجزئيّة العدمية ذوات البعد المادي الأحادي. كانت القيمة المطلقة ، الإيمان، في المركز، وكان الإنسان في المدارات. حدث في عمليات الثورة على الكنيسة والإصلاح الديني، ابتداءً باللوثرية 1519م، أن تنحى الإيمان إلى المدارات ، ثم إلى الأطراف، ليحل الإنسان محل الإله ، في المركز. وفي المركز سكنت مع الإنسان نقائصه ليستحيل هو ذاته إلى مركز، وهكذا يصبح للكون سبعة مليار مركز. وفي أوج ذروة الحداثة، التي عرفت باعتبارها  value – free  ، أو اللاقيمة، تم طرد الإنسان من المركز ليحل محله الشيء ، السلعة ، السوق بكل قيمها المجسّدة، المادية. انتهى زمن التجريد، زمن الإيمان، زمن الإنسانيات، وها نحنُ نلج " ما بعد الحداثة" حيثُ يغدو العالم كله سديماً، بلازما، سائلاً لا يمسكه شيء. إنه الانتقال المريع، من مركزية الإيمان إلى السيولة المحضة!

وهكذا وجدتُ نفسي في هذه الدوّامة ، تائهاً ، ضليلاً ، أتسمّع جريراً وهو يقول للفرزدق: إني انصببتُ من السماء عليكمُ، حتى اختطفتُك يا فرزدقُ من علِ. حتى أنتَ يا جرير انصببت علينا، مثل أولئك الذين لا ينبغي أن نتحدث عنهم، مثل كل الأشياء والسلع والقيم المرافقة لها. لا تلمني يا فريكيكو، أريد فقط أن أغني معك أغنية فولجانج جوته " دعوني أبك محاطاً بالليل" من ديوانه كتاب زليخا. تلك القصيدة - الأغنية التي نسجها على منوال" قفا نبكِ" لامرئ القيس، بعد أن تخلّت عنه حبيبته الشاعرة مريانة فيلمار، سنة 1814م :

دعوني أبك محاطاً بالليل

في الفلوات الشاسعة بغير حدود

الجمال راقدة ، والحداة راقدون...

ألم يبكِ آخيل على حبيبته بريسياس

وأكسركس بكى على الناجين من جيشه

وعلى خليله الذي قتله بيده بكى الاسكندرُ.

دعوني أبكِ فإن الدموع تحيي التراب

وها هو ذا يخضوضر.

ـــــــــــــ

* ينشر بالتزامن مع صحيفة المصدر


في الثلاثاء 06 مايو 2008 05:44:25 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://m1.marebpress.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://m1.marebpress.com/articles.php?id=3702