التفجيرات والاغتيالات ومن يقفون خلفها ؟!!
السراج اليماني
السراج اليماني

ان الناظر لمايجري من حوادث قتل وتدمير وجرائم ارهابية في ساحتنا وبتأمل يسير يعرف ان من يرتكبون هذه الجرائم البشعة هم ممن فقدوا مصالحهم وممن لايريدون لليمن الامن والاستقرار وممن تورطوا بجرائم في فترة حكم النظام السابق وقد علموا علما يقنيا انهم سيحاسبون لامحالة على ما اغترفته اياديهم وتلطخت بدماء اليمنيين فلذلك هم تحالفوا فيما بينهموا وقرروا تطبيق قاعدة علي وعلى اعدائي وقاعدة اما انا واما الطوفان وقاعدة ليهلك من هلك على بينة ولهذا سأذكر لكم مناقشة الشيخ ابي الحسن الماربي مع هؤلاء المجرمين الذين يقتلون المسلمين بشبه عارية عن الحقائق :

فلا شك أن العلماء كانوا- ولازالوا- يَئِنُّون ويَشْكُون من إعراض كثير من الناس عن طاعة الله عز وجل، وانغماسهم في المعاصي واللهو والبدع، بل انغماس طوائف منهم في الشرك الأكبر، عياذاً بالله من فتنة المحيا والممات.

وذلك لأن العلماء يدركون أن هذا الحال جالب للفساد في الأرض، والعذاب الشديد في الآخرة، والله عز وجل يقول: ( ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ )0سورة الروم الآية 41)

ولعلمهم أن الكفر والفسوق والعصيان سبب في محق الخير، وحلول النقمة، وتَحوّل العافية والنعمة، كما قال تعالى: ( لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ )(سورة إبراهيم الآية 7) ، وقوله تعالى: ( وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)(سورة النحل الآية 112) والنعم إذا شُكِرتْ قَرَّتْ، وإذا كُفِرَتْ فَرَّتْ، وشُكْر النعم إنما يكون بطاعة الله عز وجل فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر.

* ولقد فرح المؤمنون بعامة، والدعاة المخلصون بخاصة، بعودة كثير من المسلمين - لا سيما الشباب منهم- إلى الاستقامة، وطلب العلوم الشرعية، والدعوة إلى الله تعالى، وإحياء ما اندرس أو انطمس من السنن والفضائل: فلقد عَمَرَتْ بهم المساجد، وازدحمت بهم مجالس العلم، وزخرت المكتبات الإسلامية بنتاجهم العلمي المبارك: هذا في العقيدة، وذاك في الحديث وعلومه، وذلك في الفقه وأصوله، ونحو ذلك من العلوم النافعة، والخيرات الواسعة: من بناء المساجد، وإحياء المراكز العلمية، ودعوة الكفار للإسلام، وطباعة كتب السنة ونشرها في جميع أنحاء العالم، وانتشار الأعمال الخيرية هنا وهناك وهنالك...... إلى أمور أخرى من الخير لا يعلمها إلا الله تعالى.

* إنك -والله- لتشعر بالخير العميم، والأمل العظيم للأمة؛ عندما ترى أكثر عُمَّار المساجد من الشباب، بعد أن كانوا في ضياع وخراب!!!

فمنهم الإمام والخطيب، ومنهم المؤذن والمقيم، وقد امتلأت الجامعات الإسلامية والمراكز العلمية الدعوية بشباب الأمة، وحُقِّقَتْ رسائل جامعية، تدل على مهارات علمية، وعقول ذكية، وظهر الحجاب في الشوارع والمساجد، وراجت سوق الكتاب والشريط اللذَيْن يحملان العلم الشرعي، أو الموعظة البليغة، ونحو ذلك، وكثر رهبان الليل، وانتشرت الفضيلة، وتقهقرت الرذيلة، والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

لكن هذه الفرحة - وللأسف- لم تدم طويلاً، فسُرْعان ما تقلَّص هذا المدُّ المبارك، عندما ذرّ قرن التحزب الممقوت بين الجماعات، والتناحر المذموم بين الطوائف، وَرَفَعَ الغلو في صفوف أهل الحق عقيرته، وادَّعى أصحاب هذه الأفكار أنهم - وحدهم- أهل السنة، ومن سواهم فإنما هو دَعِيٌّ لا يُفْرحُ به!!

وهذا الغلو - الواقع في صفوف أهل الحق- قد أخذ صورتين متنافرتين، مع وجود تشابه بينهما في عدة أمور، كما سيأتي- إن شاء الله تعالى-.

فالصورة الأولى للغلو: غلو من أقام الأحزاب السرية، والتكتلات البدعية، وهيج العامة والدهماء، على الحكام والأمراء، واشتغل بذكر عيوبهم ومثالبهم، وإشاعة ذلك من فوق المنابر وغيرها من وسائل الإعلام الأخرى - فضلاً عن المجالس الخاصة، وهم في ذلك على مراتب بين مُقِلٍّ ومستكثر، ومُظهِر ومُتسَتِّر- فأوغر صدور العوام على الحكام، وحرَّضهم على الخروج والمواجهة، وأسقط هيبة الملوك والرؤساء أمام العامة والدهماء، وأظهرهم جميعاً- بلا استثناء- في صورة الذئاب التي تنهش في جسد الإسلام- كذا، ولم يُفَصِّل- وزعزع مبدأ السمع والطاعة للحكام في المعروف، وأثار الفتن، وقلقل الأمن والاستقرار - على ما في المجتمعات الإسلامية من عوج وجور عن الجادة، وعلى ما عند كثير من الحكام من إعراض أو غفلة - وكفَّر الحكام وأعوانهم، بل تسلسل به الأمر، حتى كفَّر بعضُهُمْ الموظَّفين والجنود والطلاب في المدارس، بحجة أنهم في نظام الطاغوت، أو دين الملوك والرؤساء!! ولم يقتصر الأمر عند هذا الحد؛ بل طعن في كبار العلماء المخالفين له، ورماهم- على أحسن الأحوال- بالسطحية، والجهل بالواقع، وإلا فبعضهم أو كثير منهم يصرح بأنهم علماء سلطة، باعوا دينهم بِعَرَض من الدنيا، وبعضهم يقول: هم عبيد العبيد، وبعضهم يقول: هم أصحاب ذيل بغلة السلطان، بل بعضهم قد كفَّرهم، وغير ذلك مما لا يجوز التفوّه به في حق علمائنا أهل العلم والحلم، أهل السنة والجماعة، ف سورة الكهف الآية 5 كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ !!!

واعلم أن هذا خلاف منهج أهل السنة والجماعة، واتباع لمنهج أهل البدعة والفُرقة، وسيأتي تفصيل هذا كله - إن شاء الله تعالى-.

وأما الصورة الثانية للغلو في صف أهل الحق: فهم قوم شغلوا أنفسهم بتعقب وتتبع أخطاء أهل السنة، ونشرها في الناس، مع التشنيع والتجديع، وربما سموا ما ليس بخطأ أصلاً: بدعة، ومروقاً من السلفية!!وأمروا بهجْر مخالفهم- وإن كان أقوم منهم قيلاً، وأهدى سبيلاً- وأمروا بهجْر من لم يهجْره، وهَجْرِ من لم يهجر من لم يهجره........... وهكذا!! حتى جعلوا المهجور الأول- سواء كان هجْره بحق أو بباطل- كالتيار الكهربائي، من لمسه؛ صُعِق، ومن لمس المصعوق؛ يُصْعَق، وهكذا!!!

وإذا تكلموا على المخالفين من أهل البدع والأهواء؛ لم يتكلموا باعتدال أهل السنة وإنصافهم وعلمهم، بل أسرفوا وتجاوزوا الحد، مما لا يجعل لكثير من كلامهم قبولاً عند العقلاء المنصفين، وقد قال الله عز وجل: ( وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)(سورة المائدة الآية وقال سبحانه: ( وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا )(سورة الأنعام الآية 152) وقال عز وجل:( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ )( سورة النحل الآية 90) .

ولقد استفاد أهل المنهج الأول من تهور هؤلاء، وظهروا بصورة المظلوم البريء أمام من يثق بهم، فيالله، كم من إنسان ارتمى في أحضانهم، ظاناً أنه ينصر الحق وأهله، ويدفع عنهم ظُلْمَ الظلمة، بسبب غلو هذه الطائفة!!!

ولعلَّ تهاون الطائفة الأولى في التعامل مع أهل البدع الكبرى، وتهوينهم من شأن بِدَعهم، وتلميعهم دعاتهم، وفي مقابل ذلك: تراهم قد أسرفوا في الكلام على الحكام- الذين لم يحكموا بما أنزل الله في كثير أو قليل- بدون تفصيل أو ضوابط شرعية؛ فلعل كل ذلك كان سبباً من جملة أسباب ظهور هذا الغلو عند الطائفة الثانية، حتى أدى بهم الأمر إلى هَجْر كثير من أهل الحق، بدعوى أنهم مبتدعة، وإلى رمْي من حذَّر من المنكرات الشائعة بدون تصريح أو تلميح بالطعن في الأمراء- مع كونه سليم الصدر في باب السمع والطاعة لولاة الأمور- فيرمونه بأنه خارجي خبيث، يُهَيِّج على أهل الحل والعقد!!وليس الأمر كذلك، فالعقلاء الصادقون من المسئولين؛ لا يقبلون من مجامل مداهن أن يجعل الباطل حقاً، والمنكر معروفاً، وأن يتزلَّف إليهم بما يُغضب الله ويُسخطه، فلا إفراط ولا تفريط!!!

وقد قال سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز - رحمه الله - بعد ذكره ذم من يذكر عيوب الحكام على المنابر، فقال:\"..... وإنكار المنكر: يكون مِنْ دون ذِكْر الفاعل، فيُنْكر الزنا، ويُنْكر الخمر، ويُنْكر الربا، مِنْ دون ذِكْر مَنْ فَعَلَهُ، ويكفي إنكار المعاصي والتحذير منها، من غير أن يُذْكر أن فلاناً يفعلها، لا حاكم ولا غير حاكم....\" اه.

أقول هذا هو الأصل في إنكار المنكر، والله أعلم.

إذاً فقد وقع إفراط وتفريط في هذا الأمر: فهناك مَنْ يُشَهِّر بعيوب الحكام، ويثير عليهم الخواص والعوام، وهناك من إذا سمع رجلاً يقول: الربا حرام، والبنوك الربوية لا يجوز التعامل معها بالربا، أو نحن نخاف أن تحل بنا عقوبة - من الله- بسبب ظهور المنكرات، فاتقوا الله أيها المسلمون، وطهَّروا بيوتكم، ومجالسكم، وغير ذلك من المنكرات.... الخ، فإذا سمع من يعظ الناس بهذا؛ قال: هذا يُهيِّج على ولاة الأمور!! فتأمل ما قاله سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - فإنه العدل والوسط، والله تعالى يقول: ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا )(سورة البقرة الآية 143) .

* وهاتان الفرقتان - على التنافر الشديد بينهما، وعلى صِدْق وإخلاص في كثير من أتباعهما -؛ قد تشابهت أحوالهم في أمور كثيرة- شعروا أو لم يشعروا- منها:

1 - وقوعهم في الغلو والتنطع، وقد ذم الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ذلك ذماً شديداً، كما سيأتي - إن شاء الله تعالى-.

2 - الجهل - عند كثير منهم- بمقاصد الشريعة وقواعدها الكلية، أو عدم التوفيق في مراعاة ذلك؛ مما يجعلهم لا يبالون بعواقب أقوالهم وأفعالهم!!! كما أن كثيراً منهم - يجهل معاني كلام أهل العلم في التكفير والتفسيق والتبديع والهجر وغير ذلك، أو يسيء إنزاله على المعيَّن، فينسب إلى العلماء ما ليس من مذاهبهم!!

قال شيخ الإسلام - رحمه الله - في رده على من أطلق الهجْر وعدمه:\" وكثير من أجوبة الإمام أحمد وغيره من الأئمة، خرج على سؤال سائل قد علم المسئول حاله، أو خرج خطاباً لمعيَّن قد عُلم حاله، فيكون بمنزلة قضايا الأعيان الصادرة عن الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، إنما يثبت حُكْمُها في نظيرها، فإن أقواماً جعلوا ذلك عاماً....\" اه من\" مجموع الفتاوى\" ( 28\\213 ) .

3 - قلة مراعاة منهج أهل السنة- القائم على العلم والعدل- في التعامل مع المخالف، مما أدى إلى تضليل المخالف وتبديعه، ورمْيه بالركون إلى الدنيا، أو اللهث وراءها، وإن كان الخلاف قد يقع في المسائل الاجتهادية، التي يسوغ فيها الخلاف، والمخالف فيها بين أجر وأجرين، ومغفور له خطؤه!!

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- كما في\" مجموع الفتاوى\" ( 19\\ 73- 74 ) مبينا بعض أصول أهل البدع:\"..... وهذا أصل البدع التي ثبت بنص سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وإجماع السلف أنها بدعة: هو جَعْل العفو سيئة، وجعل السيئة كفْراً، فينبغي للمسلم أن يحْذَر من هذين الأصليْن الخبيثين، وما يتولَّد عنهما من بُغْض المسلمين، وذمِّهم، ولعْنهم، واستحلال دمائهم وأموالهم....\" اه.

فيا لله، كم رأينا مِنْ هؤلاء الشباب مَنْ جَعَلَ مسائل الاجتهاد من جملة مسائل العقوبات والأصول، يُعْقد عليها الولاء والبراء، وكم رأينا من كفَّر بمعصية دون حياء أو خجل، وكذا من كفَّر بها لكن بقيود مُحْدثة، وأوصاف مخترعة، لا تبْعُد كثيراً عن مذهب أهل الأهواء الأوائل - كما سيأتي إن شاء الله تعالى-.

وكم رأينا ما ترتب على هذا الانحراف مِنْ لَعْن وتضليل وتبديع وتكفير، وهجْرٍ وشرٍّ، واستحلال للدماء والأموال والأعراض، وتفريق بين المرء وزوجته - بدون حق - كما هو فعل شياطين الإنس والجن!! فالله المستعان!!!

4 - بَذْلُ الجهد والمال والجاه في التشنيع على المخالف، ومحاولة إسقاطه بأي وسيلة، حتى خرج النزاع في كثير من الأحوال- عن كونه ابتغاء مرضاة الله، والانتصار لحرمات الله؛ إلى الانتصار للأهواء والأشخاص، وهذه فتنة في الدين، ولا يجوز التشبه بأعداء الله في إنفاق المال والجهد في الانتصار للأهواء، وقد حكم الله بهزيمة من كان كذلك، فقال: ( فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ)(سورة الأنفال الآية 36) والله المستعان.

5 - لقد أَحْدَثَتْ كل من الطائفتين مسألة أو مسائل، وجعلتها مناط الولاء والبراء بينها وبين الآخرين، فمن خالفهم فيها؛ فلا يُقْبل منه صَرْفٌ ولا عَدْلٌ، ولا تنفعه شفاعة الشافعين عندهم!!! ومن وافقهم عليها؛ فقد أدى ما عليه، وليس عليه - عندهم- بعدها شيء، ولو خالف فيما هو أعظم!!هذا لسان الحال، وهل الحزبية المذمومة إلا كذلك؟! وصدق الله عز وجل القائل: ( أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ)(سورة فاطر الآية glasses والقائل: ( أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ)(سورة محمد الآية 14) والقائل سبحانه: ( أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ )(سورة الملك الآية 22) .

فمما أحْدَثَتْ إحداهما: ما يسمونه بمسألة:\" الحاكمية\" وأطلق دعاة هذه الطائفة القول بتكفير من حكم بغير ما أنزل الله دون تفصيل - وإن كان بعضهم قد يفصِّل، إلا أنه لا يُنكر على الآخرين الذين لم يفصِّلوا-، وجعلوا مخالفهم في ذلك -وإن كان من أهل العلم- فاسد المعتقد والقصد، لاهثاً وراء شهوته، مُعْرضاً بدنياه عن آخرته!!

ومما أحْدَثَتِ الطائفة الأخرى ما يسمونه بمسألة:\" المنهج\" وبَدَّع دعاتها كثيراً من أهل السنة - وإن كانوا من أهل العلم والتقى- بزعم فساد منهجهم، واستباحوا الوقوع في الأعراض، بدعوى:\" إحياء علم الجرح والتعديل\"!! فنعوذ بالله أن نكون ممن زُيِّن له سوء عمله فرآه حسناً!!

وعلى كل حال: فقد وقع كل من الطائفتين فيما لا يُحمد من الحزبية، والله المستعان.

وقد رد كثير من طلبة العلم على من غلا فيما يسمونه ب\" المنهج\" ردوداً كثيرة، فكشف الله بها الحق - والحمد لله تعالى- وظهر لكثير من طلاب الحق مبلغ هؤلاء من العلم بطريقة السلف!! وصرف الله بها الكثير من طلاب العلم عن هذا الغلو، والفضل في ذلك وغيره لله وحده القائل: ( وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ)(سورة النحل الآية 53) فأسأل الله أن يجعل كتاباتي وأقوالي وأعمالي خالصة لوجهه الكريم، جالبة لي ولأهلي وذريتي جميعاً وإخواني الحياة الطيبة في الدارين.

كما رددت على من غلا في مسألة\" الحاكمية\" وعلى مثيري الفزع والتفجيرات ردوداً متفرقة قبل ذلك، وهذا الكتاب خاص بمناقشة هذه الأفكار - إن شاء الله تعالى- فأسأل الله أن يرزقني فيه التوفيق والسداد، وأن لا يجعل عَجْزي وتقصيري وضَعْفي حائلاً بيني وبين الهدى والرشاد، وأن ينفع به في الدنيا والآخرة.

6 - أن في كلتا الطائفتين من لا يألو جهداً في استصدار فتاوى من كبار العلماء تؤيد ما هم عليه - ولو في الظاهر، أو لمدة مؤقتة- ويتخذون لذلك وسائل مُرِيبة، وطرقاً عجيبة، وذلك في كيفية إلقاء السؤال على العلماء، وكذا يُنْزلون عمومات فتاوى العلماء على من يريدون، انتصاراً لرأيهم، وخَسْفاً بمخالفهم، ويطيرون بذلك كل مطار، ومع ذلك: فإذا خالفهم العلماء؛ غمزوا فيهم بأساليب ظاهرة وملتوية، والله تعالى يقول: سورة البقرة الآية 235 وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ ويقول سبحانه: سورة فاطر الآية 43 وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى... .

7 - أن كُلاً من الطائفتين يمتحن الناس بمقالاتهم المحْدَثة، واجتهاداتهم الخاطئة، ومشايخهم وقادتهم الذين يصيبون ويخطئون، فمن قال بقولهم، أو مدح مَنْ يمدحون؛ رفعوه فوق قدره، ومن خالفهم، أو ذم بحق مَنْ يمدحونه بباطل؛ نزل مِنْ أعينهم، وَوُجِّهت إليه سهامهم، وحطوا مِنْ شأنه، فمرة يكون عميلاً جاسوساً، أو مغفلاً لا يدري ما يدور حوله!! وأخرى يكون دسيسة على الدين، حزبياً متستراً، أَخْبَث من على وجه الأرض!!( وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ )( سورة المؤمنون الآية 71) .

ومعلوم أن امتحان الناس بهذه الأمور؛ من عمل أهل البدع، لا من عمل أهل السنة:

فقد قال شيخ الإسلام - كما في\" مجموع الفتاوى\" ( 3\\413- 414 ) - في رده على من يمتحن الناس بيزيد بن معاوية:\" فالواجب الاقتصار في ذلك، والإعراض عن ذكْر يزيد بن معاوية، وامتحان المسلمين به، فإن هذا من البدع المخالفة لأهل السنة والجماعة....\" اه.

وفي ( 3 \\ 415 ) قال:\" وكذلك التفريق بين الأمة وامتحانها بما لم يأمر الله به ولا رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم\" اه.

وفي ( 3\\416 ) ذكر الأسماء التي يسوغ التسمي بها، مثل انتساب الناس إلى إمام: كالحنفي والشافعي والحنبلي.... أو مثل الانتساب إلى القبائل: كالقيسي واليماني، وإلى الأمصار: كالشامي والعراقي والمصري، ثم قال:\" فلا يجوز لأحد أن يمتحن الناس بها، ولا يوالي بهذه الأسماء، ولا يعادي عليها، بل أكرم الخلق عند الله أتقاهم، من أي طائفة كان\" اه.

وفي ( 20\\164 ) قال:\" وليس لأحد أن ينصب للأمة شخصاً، يدعو إلى طريقته، ويوالي ويعادي عليها، غير النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولا ينصب لهم كلاماً يوالي عليه ويعادي، غير كلام الله ورسوله، وما أجمعت عليه الأمة، بل هذه مِنْ فعْل أهل البدع الذين ينصبون لهم شخصاً أو كلاماً، يُفرِّقون به بين الأمة، ويوالون به على ذلك الكلام أو تلك النسبة ويعادون..... فمن ابتدع أقوالاً ليس لها أصل في القرآن، وجعل مَنْ خالفها كافراً، كان قوله شراً مِنْ قول الخوارج\" اه.

8 - أن مِنَ الطائفتين مَنْ قد طعن في كثير من كبار العلماء المخالفين له!! وتقاسموا مقالة السوء في العلماء الذين لهم قدم صِدْق في الأمة، فطائفة قالت: هم عملاء، جبناء، ضعفاء، فُتنوا بالقصور والسيارات الفاخرة، وهم تَبَعٌ للحكام، وعبيد العبيد، وعلى أحسن الأحوال: فهم - عند بعضهم- سطحيون، لا يفقهون الواقع، وإن كانوا مخلصين صادقين!!

وطائفة قالت في بعض هؤلاء الكبار- إذا خالفوهم-: هم لا يعرفون مسائل\" المنهج\" والجرح والتعديل، ونحن المتخصصون في معرفة منهج أهل السنة من مناهج أهل البدع، ونحن أعلم الناس بالحزبية ومناهجها، وإن هؤلاء العلماء مُلَبَّس عليهم، وسلفيتنا أقوى من سلفيتهم!! وعلى أحسن الأحوال: فهم - عند بعضهم- حولهم حزبيون، والعلماء يحسنون الظن بالحزبيين، فيخدعونهم، بل وبعض هؤلاء الكبار من أهل البدع والضلال، وهو قطبي، أو إخواني بنّائي، أو إخواني على الخط العام، ونحو ذلك من العبارات الشائعة بينهم وبين طلابهم!!

وعلى كل حال: فقد عمل هذان السهمان عملهما في جسد توقير العلماء وإجلالهم!! وقد أثخنت هاتان الطائفتان في الصف - شعرا أم لم يشعرا- فسقطت مرجعية كثير من كبار العلماء في نظر الشباب هؤلاء وأولئك، وإن تمسك كل منهما بنتفة من كلام العلماء؛ فلمقاصد أخرى - عند البعض- والله تعالى يقول: ( يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ )(سورة الطارق الآية 9) ويقول: ( يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ )(سورة غافر الآية 19) ويقول سبحانه: ( وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ )(سورة البقرة الآية 235) .

9 - أن كُلاًّ من الطائفتين يَدَّعي أنه قد أحيا فرائض ميتة!! ويا ليته كان كذلك- فهم وإن نفعوا في أبواب أخرى- فقد هدموا كثيراً مما يَدَّعون إحياءه!!

فطائفة تَدَّعي أنها أحيت علم العقيدة، وقررت\" لا إله إلا الله\" في القلوب والأذهان، بعد تحريرهم مسألة\" الحاكمية\" -حسب نظرتهم- وأنهم أحيوا عَلَمَ الجهاد بهذه التفجيرات والاغتيالات!!! فهدموا بذلك كثيراً من الخير - كما سيأتي إن شاء الله تعالى-.

هذا، وإن كان الكلام في مسألة الحكم بغير ما أنزل الله؛ من مسائل العلم الشرعي، إلا أنه لا يجوز الخوض فيها إلا للمتأهلين، وبالضوابط الشرعية، والنظر في مآلات ذلك، ودون إفراط أو جفاء، شأنها في ذلك شأن جميع المسائل العلمية، والله أعلم.

وأخرى تَدَّعي أنها أحيت ما يسمونه ب\" عِلْم المنهج\" وعِلْم الجرح والتعديل، والواقع أنهم قد فتحوا باب العصبية المقيتة لآرائهم وشيوخهم، وطاشت سهامهم في أعراض وعقائد أهل الحق، وإن رمَوْا أهل الباطل بسهم - مع إسرافهم وتجاوزهم في كثير من الأحيان- فقد رمَوْا أهل الحق بالمجانيق!!! فلا الإسلام نَصَروا، ولا العدو كَسَروا، والله المستعان.

وعلى كل حال: فصدق الله عز وجل القائل: ( فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ )(سورة القصص الآية 50) ويقول سبحانه: ( إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى)0سورة النجم الآية 23) .

10 - أن كثيراً من الطائفتين قد وقع في فتنة الاعتقاد الباطل ثم الاستدلال، وهذا مخالف لما عليه أهل الحق، فترى البعض يرفعون عقيرتهم بأمرٍ ما، فإذا حُوققوا، وطُلِبتْ أدلتهم على قولهم؛ استدلوا بكُسَيْر وعُوَيِر وثالثٍ ما فيه خير، وهذا من شؤم الاعتقاد قبل الاستدلال!!

* وبعد الكلام على هاتين الصورتين من صور الغلو في هذا العصر، وذِكْر كثير من وجوه الشبه بينهما- دون رغبة في التشابه منهما، ولا قصد مني للاستيعاب- وبعد الإشارة إلى أنه لا يلزم من ذلك نفي إخلاص الكثير من الطائفتين، إلا أن الإخلاص وحده لا يكفي، فلا بد من صحة الاتباع، وسلامة الطريق، كما لا يلزم من ذلك أنهم ليس لهم جهود أخرى نافعة، إلا أن هذا لا يُسَوِّغُ السكوت عن أخطائهم.

وليس تحذيري من أخطائهم؛ مُسَوِّغاً لادِّعاء ما ليس فيهم، أو قلْب حقهم باطلاً، وحسنتهم سيئة؛ فإن هذا كله ينافي العدل الذي أُمِرْنا به، كما أن ما عندهم من جوانب صحيحة؛ لا يُسوِّغ التقليل من خطورة مناهجهم التي يسيرون عليها، فالإنصاف عزيز، وأهله قلة سورة ص الآية 24 وَقَلِيلٌ مَا هُمْ .

واعلم أنه لا يلزم من ذلك أن المخالفين جميعاً على درجة واحدة في كل ما سأذكره عنهم أو غيره، ولاشك أن لكل حال حكماً، فبعض الأحوال تجعل صاحبها من أهل الأهواء، وبعضها يكون المرء مخطئاً فيما ذهب إليه، ويُخشى عليه إن تمادى به هذا الحال السيئ؛ أن يلحق بركب أهل الأهواء.

ولما كان المقام مقام دفع فِكر مخالف للسنة - وإن تفاوتت درجاته-؛ ذَكَرْتُ الكثير من مقالاتهم، دون عزو هذا القول أو ذاك لفلان أو غيره، فالمقام ليس مقام إثبات قول بعينه أو نفيه عن فلان أو غيره، إنما المراد بيان أقوال مخالفة، وآثار هذه الأقوال في الصفوف، فاحتجت إلى حشد الكثير من هذه الأقوال، وإن تعدد أو تنافر القائلون ببعضها، وقد يُنكر بعضهم أن هذا القول أو ذاك من أقوالهم، وهذا نفي بمجرد علمه فقط، ومن علم حجة على من لا يعلم ( وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ )(سورة يوسف الآية 76) والله تعالى أعلم وأحكم.

وبعد هذا كله؛ فهناك عدة أمور أقدمها بين يدي موضوع هذا الكتاب- إن شاء الله تعالى- ومنها:

* الأول: أن الغلو بجميع صوره - وهو مجاوزة الحد الشرعي - مَنْهِيٌّ عنه، لأنه تَقَدُّمٌ بين يدي الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وقد نهى الله عز وجل عن ذلك، فقال: ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ )(سورة الحجرات الآية 1) وما ذُمَّ الغلو إلا لأنه يؤدي إلى ظُلْمِ العبدِ نَفْسَهُ وغَيْره، وتضييع العبد بعضَ ما أوجبه الله عليه، وقد يكون ما ضيَّعه أوجب مما غلا فيه، والغلو سبب في الانقطاع عن العمل، وصَدٌّ عن سبيل الله، وتنفير للناس عن الدين، وتشويه لسماحة الإسلام وجماله، وطَيٌّ لفراش شمولية هذا الدين!!!

وقد وردت أدلة متنوعة في ذم الغلو، فمن ذلك:

أ‌- ما جاء في النهي عن الغلو صراحة، كما في قوله تعالى: ( قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ)(سورة المائدة الآية 77) وقال تعالى: ( يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ )(سورة النساء الآية 171) وقال سبحانه: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا)(سورة هود الآية 112 ) .

ب‌- وقوله صلى الله عليه وسلم: إياكم والغلو في الدين .

وقال أيضاً: هلك المتنطعون، هلك المتنطعون، هلك المتنطعون فهذه نصوص صريحة في ذم الغلو.

‌ج- ومنها ما جاء في الحضِّ على التيسير، ورَفْعِ الحرج والعَنَتِ، والحثِّ على الرفق، وذم العنف- وفي هذا ذم للغلو والتنطع أيضاً- ومن ذلك قوله تعالى: ( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)(سورة الحج الآية 7 glasses وقوله تعالى: ( يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)(سورة البقرة الآية 185) وقوله تعالى: ( يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ)(سورة النساء الآية 2 glasses فكل صور الغلو لا يريدها الله عز وجل، لأنها عُسر، وليست بيُسر ولا تخفيف.

ومن ذلك قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: بُعِثْتُ بالحنيفية السمحة .

وقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: إن هذا الدين يُسْر، ولن يُشادَّ الدينَ أحدٌ إلا غلبه، فسددوا، وقاربوا..... الحديث ، وقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: إن الله رفيق يحب الرفق، ويُعطي على الرفق ما لا يُعطي على العنف وقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: إن الرفق لا يكون في شيء؛ إلا زانه، ولا يُنْزَع من شيء؛ إلا شانه وقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: من حُرم الرفق؛ حُرم الخير وقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: إذا أراد الله بأهل بيت خيراً، أدخل عليهم الرفق .

‌د- ومنها الأمر بالتوسط وعدم الإفراط أو التفريط : فأهل الإسلام وسط بين الملل، وأهل السنة وسط بين الفرق والنِّحل، قال تعالى: ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا )(سورة البقرة الآية 143) فلا تُعْتَمد إلا شهادة العدل الوسط، وهذه صفة للأمة المسلمة، فمن غلا؛ شابه اليهود، ومن جفا؛ شابه النصارى، فنعوذ بالله من المغضوب عليهم ومن الضالين.

وقد نهى الله عز وجل عن الانحراف عن الجادة في كل شيء، حتى في الأكل والشرب، فقال سبحانه:( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا )( سورة الأعراف الآية 31) وقال تعالى في شأن النفقة: ( وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا )(سورة الفرقان الآية 67) وقال سبحانه: ( وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا )(سورة الإسراء الآية 29) .

ولم يرخص رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في رمي الجمرات بالكبير من الحجارة، وعدَّه غُلوّا، ولم يُرخِّص لعبد الله بن عَمرو في اشتغاله عن أهله بالعبادة، وحَثَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم من عزم على الصيام أبداً، وكذا من عزم على تَرْك النوم، وتَرْك النكاح، على التوسط في الأمر، ثم قال لهم: من رغب عن سنتي؛ فليس مني فلم يرخص في مجاوزة الحد حتى في العبادة والزهد، فكيف بمن يتجاوز الحد؛ فيستحل دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم، أو يجر على الدعوة شراً؟!! وقد قال الله تعالى: ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً)(سورة البقرة الآية 20 glasses وقال سبحانه: ( خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ )(سورة البقرة الآية 63) .

* الأمر الثاني: أن الغلو أو البغي في هذا الزمان: قد وقع من بعض المنتسبين للأديان كلها، كما وقع من اللادينيين أيضاً، فمحاولة ربط الغلو والبغي بالمنتسبين للإسلام فقط؛ محاولة ماكرة، ويدفعها الواقع العملي العالمي: فما يقع للمسلمين في فلسطين من تدمير وتخريب، وحرقٍ وتشريد، وإبادة وتهويد؛ أليس من العدوان والبغي في الأرض بغير الحق؟!!

وما جرى من الصِّرْب، ونصارى الفلبين، والوثنيين في الهند وغير ذلك ضد المسلمين؛ أليس من الجور والظلم، والتسلط على عباد الله؟!!

وضَرْب المدن والشعوب - قديماً وحديثاً- بالأسلحة الفتاكة والمدمرة الشاملة؛ أليس من الظلم المبين، والبغي الأليم؟!!

ومع أن ما يجري من بعض أفراد المسلمين، من تفجير وفساد - على نكارته وفُحْشِه، ونُشْهِد الله على إنكاره- إلا أن هذا الفساد ما جرى إلا من آحاد وطوائف قليلة في الأمة، شذَّت - بتأويلات خاطئة، وتعبئة فاسدة- عن سواء السبيل، وأما كبار العلماء ومن تبعهم من الدعاة وطلاب العلم- وهم المرجع الموثوق به عند الكثير من الأمة- وكذا جمهور المسلمين وعامتهم؛ فلا يرضون بهذا: إما لأنه اعتداء على حق مسلم معصوم الدم والمال والعرض، أو لأنه اعتداء على غير مسلم له عهد وأمان، أو لأنه اعتداء على غير مسلم ليس له أمان؛ إلا أنه لا يؤاخذ بجريرة غيره، أو لأن هذا الفساد لا ينكأ عدواً، ولا يقتل صيداً- وإن كان ضد محارب بعينه- إنما يجرّ على المسلمين الويلات والشرور التي لا طاقة لهم بها، فيشرع عندئذ الصبر واتخاذ الوسائل الشرعية، التي سيأتي ذكرها بمشيئة الله، والله تعالى أعلم.

ومع أن ما يجري من هذه الطوائف المسلمة الضعيفة في العدد والعتاد؛ يُقابَلُ ببغي وغطرسة من دول منظمة، تملك الطاقات الهائلة من الأسلحة والموارد، وتملك إعلاماً قادراً على تشويه الأمور، وقلب الحقائق!! ومع أن بغيها ليس على أفراد قلائل- وإن كان البغي لا يجوز أصلاً- بل تظلم شعوباً كاملة، وتغير دولاً وأنظمة - حقاً كانت أو باطلة-؛ إلا أن هذا كله لا يُتَعرض له إلا مِنْ طَرْف خَفي، أو مع استحياء وخجل شديديْن، بل ربما عُدَّ ذلك منقبة وفخراً!!

وكأن الأمر كما قيل: قَتْلُ امرئ في غابة جريمة لا تُغْتَفر وقتلُ شعبٍ كاملٍ قضيةٌ فيها نظر ويجب أن يُعلم أن هذه الأحوال الجائرة، سبب من أسباب فتنة التفجيرات والاغتيالات، فقوبل الباطل بالخطأ، ولو قوبل بالحق، لكان خيراً وأقوم.

* إن كلامي هذا لا يُسوِّغ الغلو من بعض المسلمين، فالغلو محرم شرعاً وعرفاً وعقلاً، وقد سبق ذِكْر أدلة ذلك، ولكن المراد بيان أن العلاج للغلو والفساد يجب أن يكون جذرياً وشاملاً بالطريقة الشرعية، فلا يُدْفع الباطل إلا بالحق، كما قال تعالى: ( بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ )(سورة الأنبياء الآية ويقول الله سبحانه: ( وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ )(سورة الشورى الآية 24) ولا نعالج الفساد بغلو آخر؛ فتكون هناك رَدَّةُ فعل أخرى؛ فيتسع الخرق على الراقع من المخلصين الصادقين، والدعاة المؤْثِرين لمنهج أهل السنة والجماعة، أهل الاعتدال، والعلم بالحق، والرحمة بالخلق، وإلا فنحن - معشر أهل السنة- وإن ظُلِمْنا؛ فلا نرد الظلم إلا بطريقة السلف الصالح، والنظر في قدرة المسلمين وضعفهم، وما تؤول إليه أمورهم - على تفاصيل في ذلك- وعلى كل حال: فحسبنا الله ونعم الوكيل على كل من ظلمنا، ونعوذ بالله من شره، وندفع به في نحره، والله عز وجل لا يَذِلُّ وليُّه، ولا يَعِزُّ عدوُّه، والله المستعان، وعليه التكلان.

* الأمر الثالث: أرى أن يُعالَجَ هذا الفكر المخالف للسنة باعتدال وإنصاف - وإن كانت آثاره سيئة جداً على الأمة- فنحن مأمورون بالعدل، كما في قوله تعالى: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا)(سورة الأنعام الآية 152 ) وقوله عز وجل: ( وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى )(سورة المائدة الآية ولأن الاعتدال سهل الوصول إلى القلوب عند العقلاء - وإن كان من عدو- وإذا أنصفْتَ الخصم؛ فقد فتحتَ له باب استقامة، فتبرأ بذلك ذمتك، وتسلم الأمة من شر هذا الفكر، ويشرح الله صدر مخالفك إلى التراجع إلى الحق، ومعلوم أن مقارعة الحجة بالحجة- مع الرفق في ذلك-؛ خير من العكس - لاسيما والردود على هذا الفكر وحملته قد كثرت جداً، وقد استفاضت في كشف عواره في عدة جوانب.

وحرصاً على إيصال الحق بدلائله وبراهينه إلى كثير من الذين اغتروا بهذا الفكر وشبهاته، ورغبة في إعانة كل من خُدِع ببعض الشبهات، وخشيةَ الإعراض من المخالفين عن سماع نصائح مشايخنا وكبار العلماء في هذه الأمة؛ آثرت اختيار هذا الأسلوب- ما أمكن - في مناقشة هذا الفكر ومن تأثر به، وبالله التوفيق.

ولا يلزم من ذلك تركُ الأحكام الشرعية على كل من يستحق العقوبة شرعاً، فهذا أمر آخر.

ولو تصورنا أن مِنْ هؤلاء الذين قد وقعوا في هذا الفكر المخالف للسنة بعضَ أبنائنا، أو إخواننا، أو قرابتنا؛ فكيف كنا سنعالج ما وقعوا فيه؟!

إن العلماء يعاملون أبناء الأمة برحمة وعلم، وأهل السنة هم أهل العلم بالحق والرحمة بالخلق، والله عز وحل يقول: ( رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا )(سورة غافر الآية 7) فلا بد من العلم الشرعي الذي يحرر بدقة وأمانة ووضوح مقدار الانحراف عن الحق، بدون إفراط أو تفريط، ولابد من الحلم الذي تبرأ به الذمة، وتنتفع به الأمة.

إن من الخطأ أن يُظَن أن الدعوة إلى فتح باب المناقشة العلمية؛ تعني غض الطرف عن أحكام وآثار التفجيرات والاغتيالات، أو تمييع حُكْم من قام بشيء من ذلك!! إننا مأمورون بالقيام بأمر الله عز وجل من جميع جوانبه.

ولقد رأيت بعض من تظاهر بعلاج المشكلة، فجانب الإنصاف في كيفية علاجه، بل قد وقع في الكيد للدعاة إلى الله جميعاً، واتخذ أعمال هؤلاء الشباب ذريعة لنفث سمومه، وتشويه الدين وحملته جميعاً!!! كما يظهر ذلك من بعض المقالات في الصحف وغيرها!!

كما أن البعض الآخر قد سلك مسلكاً مقابلاً، ولم يعالج المشكلة من جميع جوانبها، مما أدى إلى إعراض الكثير - حتى من الموافقين - عن الاستفادة من جهده في هذا الباب - وإن كان جهداً مشكوراً-!!

وبين هذين المسلكين مسالك أخرى، ذات مراتب متفاوتة، والحق وسط بين طرفين، ومقبول من كل أحد، والباطل مردود على كل أحد - مع شكري لكل من سعى في بيان الحق، والدفاع عن السنة والأئمة، ودعائي بأن يهدي الله الجميع سواء السبيل-.

والمسلمون في كل مكان يعانون من آثار هذا الفكر - وسيأتي ذلك مفصلاً إن شاء الله تعالى- وعلاج هذا الفكر لا يكون بسلوك مسلك الإفراط أو التفريط، فإن هذا أو ذاك يزيدان المخالف إصراراً على قوله، ومن ثَم تزيد التضحيات والمصائب في الأمة!! وإنما يكون العلاج بإنصاف وتجرد- مع الوضوح والحزم - سورة البقرة الآية 269 وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا والمرء لا يبرئ نفسه من التقصير، لكني أسأل الله الذي بيده قلوب العباد، أن يمسك قلبي ويحفظه بسلامة الإيمان، وصحة القصد، واستقامة الحجج والبراهين، وأن يدفع عني حظوظ نفسي الأمارة بالسوء، وأن يجنبني سخطه وعقابه، وشر عباده، إنه على كل شيء قدير.

* الأمر الرابع: إن كتابي يعالج فتنة التفجيرات التي وقعت في عدة أقطار من العالم الإسلامي وغيره، في هذه الأيام وغيرها - مع إدراكي التفاوت بين كثير من المجتمعات، ودورها في أسباب وآثار وعلاج هذه الفتنة -.

وعلى ذلك: فليس كتابي خاصاً ببلد معين، مقتصراً على أحوال أهله فقط، ولذلك فسأذكر ما حضرني من أسباب هذه الفتنة، ومقالات الشباب وأدلتهم هنا وهناك وهنالك،- وإن لم يوجد بعضها في بعض البلدان - حتى يكون العلاج عاماً نافعاً بمشيئة الله عز وجل، وحتى لا تبقى قيمة الكتاب العلمية مرتبطة بأحداث بلد معين، سائلاً المولى عز وجل أن يُذهب جميع الفتن عن المسلمين في كل مكان.

* الأمر الخامس: كنت قد قاربت على الانتهاء من هذا الكتاب، وقبل المراجعة الأولى؛ أُتي لي بكتاب:\" مشكلة الغلو في الدين في العصر الحاضر: الأسباب- الآثار- العلاج\" للدكتور عبد الرحمن بن معلا اللويحق- حفظه الله تعالى - وهو عبارة عن رسالة\" دكتوراه\" في ثلاث مجلدات، فعندما تصفحت الكتاب؛ رأيت فيه ما يجعله رحلة الطالبين، وروضة الناظرين في التحذير من الغلو الذي وقع فيه الشباب، وهو حقاً موسوعة علمية زاخرة بالنقولات الشرعية والتاريخية في هذا الشأن، والله أعلم.

وقد استفدت من هذا الكتاب- وغيره- ومما قُدِّم له به، علماً بأنني لم أعرف المؤلف إلا من خلال كتابه، فجزى الله المؤلف وغيره خيراً، وقد قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: لا يشكر الله من لا يشكر الناس .

*

كاتب يمني وباحث في شؤون الارهاب الشارقة

من كتاب\"التفجيرات والاغتيالات\"لأبي الحسن مصطفى بن إسماعيل السليماني


في السبت 10 يناير-كانون الثاني 2015 10:40:17 ص

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://m1.marebpress.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://m1.marebpress.com/articles.php?id=40950