لا أتقرب لحراك, والشمال لم يكن ملجأي الوحيد(الجزء4)
نجيب قحطان الشعبي
نجيب قحطان الشعبي

ذكرت في الحلقة الفائتة أنه عندما التقيت في يونيو1981 بالرئيس علي عبدالله صالح لأول مرة وذلك في أول زيارة لي لليمن الشمالي، أبدى تفاؤله بقرب إطلاق سراح والدي (الذي مضى عليه نحو 12 عاماً في الحبس الانفرادي دون محاكمة أو تحقيق أو حتى تهمة) فقد توسط لدى الرئيس علي ناصر محمد فوعده بإطلاق سراحه، قلت للرئيس بأنني غير متفائل، لكنه كان متفائلاً للغاية.

لم يمض غير أسبوع على ذلك اللقاء إلا وبلغني بأن السلطة في عدن نقلت والدي للإقامة بمستشفى مصافي النفط بعدن لعمل فحوصات طبية فانزعجت أشد الانزعاج فمنذ اعتقاله لم يحدث أن اهتمت السلطة بصحته فلماذا تنزله الآن بالمستشفى ليقيم فيه لعمل فحوصات طبية؟! لقد داخلني شعور قوي حينئذ بأنهم في طريقهم لاغتياله بالمستشفى، ولم يخب شعوري فلم تمر غير بضعة أيام إلا وأذاعت عدن (في 7 يوليو 1981) أنه توفي بالمستشفى على أثر نوبة قلبية(وكان عمره حينئذ 57 عاماً) وقد أشعرني بهذا الخبر الصاعقة بعض أقاربي بصنعاء بعدما استمعوا إليه في نشرة أخبار القسم العربي بهيئة الإذاعة البريطانية فاتصلت بإخوتي إلى القاهرة في مساء نفس اليوم واكتشفت بأنه ليس لديهم خبر ولإشفاقي عليهم لم استطع أن أبلغهم الخبر.

في مساء نفس اليوم اتصل بي الرئيس ليعزيني وأفادني بأنه اتصل بالرئيس علي ناصر وأبلغه بأنه سينزل إلى عدن لحضور جنازة قحطان الشعبي إلا أن علي ناصر رد بأنه لن يتم تشييع الجنازة رسمياً! فأحاطه الرئيس بأنني موجود بصنعاء وسأله عما إذا كان بالإمكان أن أشارك في تشييع جثمان أبي، فرحب بذلك, فعرض عليَّ الرئيس النزول لعدن لحضور الجنازة لكنني اعتذرت عن عدم استعدادي للنزول، فقال الرئيس "إذا كنت تخشى أن يمنعوك من المغادرة بعد الجنازة فسأبعث معك وزيراً أو وزيرين لمرافقتك والعودة معك، وهناك طائرة خاصة بالمطار ستأخذكم لعدن وتنتظركم لتعودوا إلى صنعاء فور انتهاء الدفن" فكررت اعتذاري "كون أبي انتقل إلى رحمة الله ولن يفيده نزولي إلى عدن فقد غادرتها وهو حي ولن أعود إليها الآن لمجرد أن أرافق جثمانه إلى القبر", وما لم أوضحه للرئيس هو أنني لم أرغب في أن تستفيد السلطة بعدن, التي منذ سنين تركنا لها البلد والجمل بما حمل, من حضوري جنازة والدي فهذا سيوفر لها فرصة إعلامية ثمينة لإظهار أسرة قحطان الشعبي وكأنها لا تزال تعيش بعدن بدليل أن أبنه الأكبر يشارك في الجنازة، فهل بعد كل ما فعلته بنا تلك السلطة منذ 22 يونيو 1969 فأنني أخدمها بنفسي؟ طبعاً كلا, إذ يكفي أن السلطة استثمرت وفاته – وبالأصح اغتياله – في مستشفى المصافي فذكرت في بيان النعي بأنه توفي في مستشفى المصافي لتوهم الناس في الداخل والخارج بأنها كانت ترعاه صحياً وفي أفضل مستشفى بعدن!

وجرى تشييع الجثمان رسمياً وشعبياً بإصرار من علي عنتر (الرجل الثاني في عدن بعد علي ناصرمحمد) وقد اعترض عضو بالمكتب السياسي للحزب الاشتراكي فوبخه علي عنتر بشدة ولدرجة الإهانة فقد قال له "أخوك لما مات أخرجنا له جنازة كبيرة باعتباره مناضل كبير مع أنه لم يكن مناضلاً ولكن نحن جبناه من الشارع وقلنا للناس بأنه مناضل كبير، بينما قحطان أتى بنا من كل مكان بالجنوب وقاد بنا الثورة ثم الآن تعترض على أن تخرج له جنازة؟!".

ملاحظة: عضو المكتب السياسي الذي اعترض لا يزال حياً يرزق ويعيش على رصيف الحياة السياسية بعد أن غادر السلطة وغادرته للأبد, وهو ممن كانوا يملأون الدنيا "نخيطاً" وهم في سلطة عدن.

وبعد صلاة عصر اليوم التالي8 يوليو شيّع الجثمان رسمياً وشعبياً من مسجد العسقلاني بكريترإلى مقبرة العيدروس(الشهداء)وسار في المقدمة علي عنتر(عضو المكتب السياسي للحزب, النائب الأول لرئيس الوزراء, وزير الحكم المحلي) وعلي شائع هادي (عضو المكتب السياسي, رئيس لجنة الرقابة الحزبية) وأنيس حسن يحيى (عضو اللجنة المـركزية, نائب رئيس الوزراء, وزير الثروة السمكية) وعدد من أعضاء اللجنة المركزية وهيئة الرئاسة .

وأنا لم ألتق في حياتي بأنيس لكنني ممتن له فقد كان شجاعاً ولديه مشاعر وطنية فحضر الجنازة وهو الذي لم يكن أثناء حرب التحرير منتمياً للجبهة القومية (كان بعثياً) بينما توارى عن الجنازة "جبناء" المكتب السياسي واللجنة المركزية للحزب ممن كانوا ينتمون للجبهة القومية أثناء حرب التحرير. أما الجانب الشعبي للجنازة فكان عظيماً فقد شاركت جماهير غفيرة (وهذا إعترف به الخبر القصير الذي بثه الإعلام الرسمي لعدن على الرغم من تعتيمه شبه الكامل للجنازة حتى أن الصحيفة الحكومية اليومية الوحيدة "14أكتوبر" إكتفت بنشر الخبر الرسمي القصير ولم تنشر أية صورة لمراسم التشييع) وشارك في التشييع مئات من مناضلي حرب التحرير الذين كانوا ينتمون للجبهة القومية ونجوا من التصفيات الجسدية التي مارسها "الرفاق" في حقبة السبعينات (ونحو 95% منها كانت بحق مناضلي الجبهة القومية) لقد كانوا مناضلين في غاية الوفاء فبعد أن تواروا عن الأنظار وعاد كل منهم ليعيش في قريته فإنهم خرجوا عن صمتهم وجاءوا من مختلف أنحاء الجنوب إلى عدن ليشاركوا في تشييع جثمان قحطان الشعبي إلى مقبرة الشهداء بكريتر, وقد اندهش علي عنتر عندما رأي كثيراً من أولئك المناضلين فقد كان يظن بأنهم ممن جرى تصفيتهم جسدياً في السبعينات وعبر عن سعادته برؤيتهم بأن قال لبعض من حوله "أنا اليوم فخور بأن أرى هؤلاء المناضلين وقد جاءوا ليودعوا قائدهم أثناء حرب التحرير".

وللإنصاف فإنه من بين حكام العهد الماركسي بالجنوب كان علي عنتر أفضلهم على الإطلاق في التعامل معنا فقد كان فيه مرؤة الرجال ونخوتهم (وهناك واحداً أعتبره "علي عنتر الشمال" وهو علي الشاطر, فليس فقط الإثنان عسكريين وبنفس القامة الجسدية ولكن أيضاً فيهما مرؤة ونخوة, والشاطر خدوم ولقربه من رئيس الجمهورية يحل مشاكل كثيرين, وهو وفي لأصدقائه, كما أنه لا يفرق بين شمالي وجنوبي).

بعد أسابيع من وفاة والدي بعث علي عنتر رسولاً إلى صنعاء ليقول لي "علي عنتر يقول لك أنه كان يتمنى أن تحضر جنازة والدك لترى تقدير الشعب والمناضلين له، وهو يدعوك للنزول لعدن في زيارة ولو قصيرة وستكون في ضيافته شخصياً" وقد رددت عليه بالشكر ومعتذراً عن عدم استطاعتي القدوم لعدن حالياً وربما أعود إليها أو أزرها مستقبلاً. وفي العام التالي (1982م) بعث لي رسالة شفوية عبر قريب لي تربطه به علاقة جيدة, جدد فيها دعوته لي لزيارة عدن و" قل لنجيب إذا أي مسؤول كبير أو صغير اعترض على مغادرته الجنوب بعد الزيارة أنا با......عاره" (النقاط من عندي تأدباً، واللفظ شائع الاستخدام لدى أبناء الضالع وردفان، وأثناء الانتخابات النيابية الأولى 1993م كان يقع في الدائرة الانتخابية التي ترشحت فيها بمحافظة لحج معسكر العند ومسجل منه نحو 4500 ناخب عسكري وكان وزير الدفاع حينها هيثم قاسم طاهر-من ردفان- متعاطفاً معي وقال لقاسم يحيى الذي يدخل معسكر العند تحت قيادته قال له أمامي وبمنزله، أي بمنزل هيثم قاسم " قل لضابط العند يأمروا الجنود بالتصويت لنجيب قحطان وقل للضباط والجنود هيثم قاسم يقول لكم أن الذي لن ينتخب نجيب أنا با...... عاره" ثم رتب لي لقاء مع ضباط العند داخل المعسكر وطلبوا صوري فبعثتها، وعقب حرب 1994م أبلغني كثير من المقاتلين في صف الوحدة بأنهم عندما دخلوا معسكر العند وجدوا صوري ملصقة على جدرانه، ومع ذلك لم أفز في تلك الانتخابات فقد انتزع الحزب كل مقاعد الجنوب بالحق وبالباطل وتخلى بمزاجه عن مقعدين فقط أحدهما بحضرموت للمناضل الكبير الحاج صالح باقيس الذي كان عضواً بالقيادة العامة للجبهة القومية تقديراً لدوره النضالي المتميز أثناء حرب التحرير, والمقعد الثاني بمحافظة أبين تلبية لطلب من محمد علي هيثم رئيس وزراء عدن عقب22يونيو1969 وإلى أغسطس 1971 الذي صار عقب الوحدة اليمنية عضواً باللجنة العليا للإنتخابات فحينئذ طلب من قيادة الحزب الإشتراكي أن تمنحه مقعدين من المقاعد النيابية بالجنوب فمنحته مقعداً واحداً. وربما أحكي ما حدث في تلك الانتخابات في مقال آخر ليتذكر أصحاب الحزب أيام أن كانوا هم أيضاً "ينخطون" على عباد الله, ومساكين عمر الجاوي ومحسن بن فريد فقد صدّقا وعد البيض قبيل انتخابات1993م بأنه إذا ترشح رئيس أو أمين عام أي حزب أو تنظيم سياسي فلن ينافسه الحزب الاشتراكي فترشحا بالجنوب وأخلف الحزب الإشتراكي وعد أمينه العام فلم يفوزا!)

في رحاب من حوت كل فن!

عقب وفاة والدي ارتأيت أنه من الأفضل أن تنتقل اسرة قحطان الشعبي من القاهرة للاستقرار بصنعاء، فعلى الرغم من أنه كان بإمكاننا الاستقرار في أي دولة عربية أخرى ممن كانت تفتح لنا ذراعيها (حسبما أوضحت في الأجزاء السابقة من هذا المقال) إلا أنني فضلت تلبية دعوة الرئيس علي عبدالله صالح كوننا سنعيش في اليمن، فإذا كنا قد اضطررنا للنزوح عن شطرها الجنوبي فإننا سنعيش في شطرها الشمالي.

وبالطبع لم يكن هناك بيت مملوك للدولة ليمنح لنا حسب أمر الرئيس (ولا يعقل أن يترك بيت للدولة بصنعاء دون أن يستولي عليه متنفذ) فجرى استئجار سكن لنا فيما مكثنا بالفندق (فندق سبأ وكان قد افتتح حديثاً) نحو شهرين ريثما يتم استئجار سكن مناسب وتأثيثه, وكان من لطف رئيس الحكومة عبدالكريم الإرياني أن سهل مسألة إستئجار السكن وتأثيثه واستخرج من الرئيس أمراً بشراء سيارة لنا.

ولن أنسى أن علوي السلامي وكيل وزارة المالية حينئذ (وزير المالية لاحقاً، وحالياً عضو مجلس الشورى) اختلق عثرات أمام صرف ثمن الأثاث فأفادني البعض بأنه يتعاطف مع النظام بعدن ولذا يعرقلكم، فذهبت للإرياني وأبلغته بأننا لم نترك القاهرة لنتبهذل في صنعاء، فتأثر مما فعله السلامي وكتب أمراً صريحاً بخط يده إلى وزارة المالية بصرف ثمن الأثاث فوراً فصرفه السلامي وهو على مضض، والشهادة لله فإن علوي السلامي وبالذات عندما صار وزيراً للمالية كان من أكثر أبناء الشمال الذين عرفتهم "نخيطاً".

وبعد استقرارنا بصنعاء فوجئنا بأن ما أعتمد لنا هو إعاشة شهرية قدرها 6500 ريال يمني (حوالي1400 دولار, فحينئذ كان الدولار الأمريكي الواحد يساوي 4.6 ريالاً فقط) وبالنسبة لأمر الرئيس بتخصيص 2000 دولار شهرياً لنا تصرف عبر السفارة بالقاهرة فلم أتابعه كون الأسرة انتقلت لصنعاء، وعندما سألت الإرياني عن سبب تحديد هذا المبلغ القليل كإعاشة قال "هذا باعتبار أن والدك كان وزيراً في الشمال"! وكان ذلك أول مسمار في طريق إقامتنا بصنعاء التي سنرى فيها بعد ذلك أياماً "أسود من قرن الخروب" كما يقول المثل المصري! حتى أن القائم بالأعمال الليبي بصنعاء أتاني بعد بضعة أشهر من استقرارنا بصنعاء ومعه دعوة كريمة بإنتقالي وكافة أفراد أسرة قحطان الشعبي إلى طرابلس لنعيش معززين مكرمين في رعاية العقيد القذافي شخصياً.

وسأواصل حديثي بالأسبوع القادم بإذن الله في الحلقة الأخيرة من هذه السلسلة, التي سيتبعها إن شاء الله مقال جديد بعنوان "بين إنفصالية الإنفصاليين وإنفصالية الوحدويين!".

تنويه: بلغني يوم الأربعاء الفائت نبأ حزين هو وفاة المناضل الكبير الحاج صالح باقيس (المذكور آنفاً بهذه الحلقة) وقد دفن جثمانه بنفس اليوم بعدن وبدأ ذووه في إستقبال المعزين, وتنفيذاً لوصيته يوزع ذووه على المعزين صورته مع صورتي قحطان محمد الشعبي وفيصل عبداللطيف الشعبي كما رفعت صور الثلاثة على مدخل قاعة العزاء فقد أبى باقيس إلا أن يسلك سلوك المناضلين الصادقين حتى وهو يغادر هذه الحياة الفانية, الله يرحمك ياباقيس ويسكنك جنته ويجزيك خيراً على نضالك الكبير في سبيل تحرير وطنك من الإستعمار البريطاني, وصدق الله العظيم القائل "من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه, فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا".


في الأحد 04 إبريل-نيسان 2010 03:14:10 ص

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://m1.marebpress.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://m1.marebpress.com/articles.php?id=6811