تجربتي في محطة 'الجزيرة'... ومفارقاتها
احمد الشيخ
احمد الشيخ

ها أنت تجد من الوقت ما يتيح لك أن تجترح فعل الكتابة بعد طول انقطاع. وتحار ماذا تكتب وأنت تتجافى عن المضجع، وتدعو الله أن يفتح عليك لعلك تأتي بشيء يستحق أن يقرأ.

وقد تبين لك إذ تمسك بالقلم، أن الكلمة تجافيك هي أيضا إن أنت هجرتها، فهي مثل صب ما ضن يوما بقلبه ونفسه فكيف تقسو عليه بالهجر. صحيح أن ليل الصب طويل، كما قال شعراء الأندلس في أعذب آهاتهم، لكنك والله ما ابتغيت غيره حبيبا أو وليفا، فهل لك برمقة عتاب عله يرضى وله العتبى' كل العتبى حتى يرضى ويجود.

كنت منذ أربعة عشر عاما مشغولا بغيره عنه، وفي الست السنوات الأخيرة منها كدت تنساه أيها الجاحد. وها هو الصبح يتنفس بعد ليل عسعس طويلا.

نعم، أجدني اليوم أتصالح مع نفسي ومع الكلمة، إذ استأذن الصديق العزيز أبا خالد لعل 'القدس العربي' تتسع، على رحابتها إذ يتسابق الكل على الكتابة فيها، لعلها تتسع لقول بعد طول صمت وبوح بعد طول كتمان. فهذا عالم آخر اكتشفه اليوم، إذ انتقل من معمعة غرفة الأخبار إلى عملي الجديد في مكتب رجل عظيم الخلق كريم المحتد هو الشيخ حمد بن تامر آل ثاني.

ففي غرف أخبار التلفزيون عالم آخر يتماهى فيه الزمان مع المكان في طحن متواصل وجعجعة لا تسكن.

في كل دقيقة، تقذف إليك وكالات الأنباء بخبر، ومع كل ساعة يأتيك مراسل بنبأ، ووراء كل صورة متحركة تظهر أخرى، وفجأة تحمل لك الساعات من عواجل الأخبار ما' يقلب الغرفة رأسا على عقب، ويصبح اتخاذ القرار الصحيح والسريع في ثوان، أو اقل منها، نقطة الفصل بين النجاح والفشل.

ومعك بين الجدران الأربعة ذاتها ثلة من قوم، نحن معشر الصحافيين وأنا احدهم، يعتبر كل واحد منهم نفسه مرجعا في السياسة والثقافة حتى وان غلب سراب الوهم بريق الحقيقة. وفي الميدان فرسان وراء الكاميرا يظن كل واحد منهم، محقا في أحيان كثيرة، أن ما أرسله من تقارير تدور الأفلاك حولها، وكيف لا وأنت تزج به في المخاطر ولا ترحمه إن اخطأ أو قصّر.

وإن أنت تلكأت أو سبقك غيرك سلقوك بألسنة حداد! في مكان كهذا إما أن تظل يقظا ويندفع'الأدرينالين' عاليا في عروقك، أو تعتبر الجواد الخاسر فلا رحمة ولا عذر. وان أخطأت في تقدير أو توقيت فلا غفران ولا فسحة سماح، يتبخر كل سبق أو قرار صائب ولا يذكرون إلا العجز أو الخطل. ويعتريك في خضم ما حولك ومتابعتك الحثيثة وهم الأهمية وغرور الانجاز!

يهز انفجار قاتل حيا أو مدينة في شرق هذا العالم الإسلامي والعربي وفي غربه، ويسقط المئات قتلى وجرحى، تدمر الممتلكات ويزداد عدد الثكالى والباكين، وأنت تتباهى في قرارة نفسك، أو ربما أمام الجمع من الزملاء الذين يتراكضون في الغرفة حتى يبلغوا الهواء قبل غيرهم، تتباهى بأنك أول من أعلن النبأ الدامي! وان كنت من اولئك الذين ابتلوا بالكاميرا، فيتولد غرور ما مثله غرور، تصبح أنت، واهما، بؤرة الكون وقطب الزمان، وتنسى أن صورتك على الشاشة أوهن من ذاكرة رضيع وسرعان ما يخرجك الناس من ذكرياتهم ليعمروها بصورة غيرك.

وتبزغ شمس وتغيب، ينقضي يوم ويولد آخر، يطوى عام وينفتح آخر وأنت بين جدرانك الأربعة. تضيق حدقة العين وتتآكل البصيرة، والدنيا من حولك تدور أرحب وأوسع وأجمل وأنت عنها غافل.

تطلب وتأمر وتنهى وتفرح بالانجاز والسبق. هاتفك يكاد لا يتوقف عن الرنين. رؤساؤك وزملاؤك بين الجدران الأربعة والمراسلون في الميدان، ومسؤولون في حكومات وسفارات ومنظمات وحركات، وصحافيون زملاء في غير مكان يغبطونك على ما أنت فيه! كلهم يعرفون رقم هاتفك ويتصلون أنى شاؤوا في وضح نهار أو في جوف ليل.

وان تعطل شيء في مكتبك أو عجزت عن إصلاح أمر في جهاز حاسوبك يخف إليك الأمهر منهم بإشارة من طرف إصبعك أو إصبع السكرتيرة.

وها أنت تسلم لغيرك الدفة وتنتقل إلى محطة أخرى.

الآن عليك أن تتقن استعمال حاسوبك إلى حد الاحتراف، وان تخف إلى نفسك بنفسك، وان تفر إلى الواقع بكل صدقه وأصالته وغربتك عنه.

وأولئك الذين غبطوك يتداولون الأقاويل والثرثرات، وما أكثرها في نادينا نحن الصحافيين. هاتفك لاذ بصمت لا يقطعه إلا الخلّص من الأصدقاء أو أهل بيتك. وبريدك الإليكتروني يجف رويدا رويدا إلا من سقط المتاع وآفة الانترنت.

وربما أتيت أنت نفسك ذات يوم الفعل الذي تبثه اليوم في القرطاس، فلا تنزه أمارة السوء ولا تنه عن شيمة كانت فيك، إذ شاهدت غيرك يخرج. هكذا نحن بني البشر لا ينظر الواحد منا إلا لعيوب الناس ويغفل عن نفسه وكلها معايب.

ولكن مهلا، أليس جميلا أن تجد نفسك مشاهدا للأخبار بعد أن كنت طباخا لها؟ ألا تجد أن لها وجعا آخر غير السبق والتحليل، ووجها غير الذي ألفت بين الجدران الأربعة؟

نعم في كل ركن من هذا الوطن العربي وبلاد المسلمين، دم يسفك وحرمات تستباح بفعل غريب جاء بجيوشه غازيا، أو بفعل حاكم من أهل الدار يستقوي بالغازي الغريب أو المتربص عند الحدود. إنه جرح رعاف ما كان لك أن تتجاهله، وكثيرا ما قال لك الناس إن أخباركم مضرجة بالدماء ومسربلة بالعنف.

ومع ذلك كله، فانك تجد وأنت تتابع من خارج المعمعة أن في دنيانا بعض ما يبعث الأمل ويقوي العزيمة، وان فيها ما يرسم بسمة ويفرد عبوسا.

لكنك لم تذهب بعيدا. بل أنت اقرب إلى من أحببت على مدى عمر الجزيرة المديد بإذن الله. لقد عرفت قطر وأهلها عربا أقحاحا أهل نخوة وذوي شيم قل أن تجدها إلا في من تعمر الأصالة أنفسهم. عرفت الشيخ حمد بن تامر فكان خير مسؤول واصدق من قلدت في عنقه أمانة، والله أعلم بصدق ما أقول لا طمعا في مغنم أو نجاة من مغرم.

أنت في 'الجزيرة' التي عايشت قبل أن يراها الناس وتدهشهم وتفتح عقولهم، فهي لن ترحل منك وان رحلت أنت عنها يوما ببدنك، فكيف يرحل العاشق عن معشوقه الأبدي.

ومع كل سطر تخط يتبدل جفاء الحبيب وتنسى الكلمة الهجران فتأتيك طوعا باسمة حلوة كما تريدها.

' رئيس تحرير قناة 'الجزيرة' سابقا

 
في الإثنين 28 يونيو-حزيران 2010 07:16:20 ص

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://m1.marebpress.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://m1.marebpress.com/articles.php?id=7424