أيامٌ من البِشْر والأمل في دولة عمر البشير
د. محمد معافى المهدلي
د. محمد معافى المهدلي

ما أنْ حطّت بنا رحال الطائرة على أرض السودان، حتى شعرنا بمجرد وصولنا المطار أننا في وطننا الأول وليس الثاني، فما أنْ يراك السودانيون حتى يطيبون خاطرك بالحديث عن الإسلام والعروبة، ويبعثون في نفسك الأمل في نصر الإسلام وعزّ المسلمين، تلك هي اللغة الحديثة التي يتكلم بها الشعب السوداني اليوم عقب ثورة الإنقاذ التي أتاحت له مجالا أوسع وأرحب من الحريات والصلات والوشائج بأمته ودينه وثقافته وأصالته .

حدثنا بعض السودانيين عن معاناتهم أيام العيش المرّ والصعب، أيام ارتمائهم في أحضان الغرب، قبل ثورة الإنقاذ، وكيف كانوا يقفون طوابير طويلة بحثاً عن الخبز، وكيف فتح الله ومنّ على البلاد والعباد بعد ثورة الإنقاذ بألوان من الخير والنّعمة، وكيف انتقلت البلد من مرحلة الاستجداء والعالة على فتات الموائد الدولية، إلى مرحلة الاكتفاء الذاتي بل والتصدير لبعض المنتجات كالبترول والسكر والأغذية والحبوب والملبوسات.

أدّينا صلاة الجمعة : 13/7/1431هـ، في مسجد العلامة البروفيسور الداعية المشهور، الكاروري، بعد أنْ يئسنا من الوصول إلى المسجد الجديد الذي افتتحه الرئيس البشير، عسى أن نظفر برؤيا الرئيس هناك، ولكن نظراً لضيق الوقت، اتجهنا إلى مسجد البروفيسور الكاروري، وتيسرت لنا الصلاة في الصف الأول والثاني، حيث وجدنا بجوارنا الرئيس عمر حسن البشير، نفسه، الذي لم يكن بعيدا عنّا ولم تحطه أي حراسة مسلحة، بل كان في رفقته بعض مرافقيه الذين رأيناهم يصحبونه، وبلا سلاح، بل قام بعض الناس عقب صلاة الجمعة، لمصافحة الرئيس البشير ولم يتمكن هؤلاء المرافقين حتى من تنظيم السلام على فخامة الأخ الرئيس، فقد كان السلام على الرئيس يتم بعفوية وتلقائية تامة كواحد من المصلين، وكأني أسمع أحدهم يقول للرئيس كيفك يا زول؟! على اعتبار أنّ الرئيس السوداني ليس واحداً من الرؤساء العرب الذين يعتقدون أنهم من سلالة أو طينة ممتازة، أو دم أزرق قاني، أو لهم القداسة والفخامة والعظمة ..الخ، ثم هم في واقع الحال أهون من الجُعلان والحشرات في أعين أعدائهم، بل رأينا الرئيس البشير إنسانا سوياً يمشي في الأسواق ويغدوا ويروح بين شعبه، آمناً مطمئناً، يحضر الأعراس والأفراح والأتراح، في سيارة واحدة يتيمة، لا يخاف إلا الله وحده .

ثم علمنا فيما بعد من شيخنا البروفيسور/ عبد الله بن عبد الرحمن الزبير، عميد الدراسات العليا بجامعة القرآن الكريم، أنّ هذا دأب كثير من الرؤساء السودانيين كالرئيس جعفر نميري، رحمه الله، الذي توفي وليس له بيت أو حتى قطعة أرض لأبنائه وأحفاده، ولم يملك سوى قطعة أرض تبرع بها لبناء مستشفى في منطقته.

نعود إلى الخطبة الكارورية، حيث كانت الخطبة الكارورية حقاً رائعة وممتازة وعظيمة وعميقة الدلالات، رغم ما فيها من بساطة، تحدث فضيلته عن قصة قارون الذي بغى على شعبه فأهلكه الله، لا لأنه كفر بأنعم الله، وإنما سبب هلاك مملكة قارون البغي والعدوان، فيما صاحب الجنّة الذي ورد ذكره في سورة الكهف، كان عقاب الله له أنْ أحاط فقط بثمر جنّته، فأصبح يقلّب كفيّه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها ويقول ياليتني لم أشرك بربي أحدا، أما البغي والعدوان والظلم والطغيان الذي وقع من قارون وأضرابه وأشياعه، فعاقبته الاستئصال الإلهي والفناء العاجل والدمار الشامل، فتلك هي سنة الله في خلقه، ولن تجد لسنة الله تبديلا ولا تحويلا.

ثم زفّ إلينا العلامة الكاروري نبأ إسلام أكثر من خمسين شخصية من أرض الجنوب السوداني الذين منّ الله عليهم بالإسلام فآمنوا بالله وحده، وتم تلقينهم الشهادتين في المسجد عقب صلاة الجمعة وبحضور الرئيس البشير، وسط التهليل والتكبير.

وفي العادة السودانية تتم عقود الأنكحة في المساجد، وتمّت بالفعل عقود القران لعدد كبير من الشباب والشابات في المسجد، وفي أحيان كثيرة تقام الأعراس الجماعية للمئات من الشباب والشابات في السودان سيما في يوم الجمعة.

ولم تخل بالطبع خطبة العلامة الكاروري من الحديث عن فلسطين والأقصى وغزة، واليهود ومؤامراتهم على أمة المسلمين، فقد كَرّ الكاروري في خطبته على عدد من الأهداف المحلية والإقليمية والدولية، مستهدفاً الدولة اليهودية مبشّراً بزوالها وسقوطها ونهايتها ولو بانقراض سكانها الذي يتناقص يوما عن يوم، فيما شعب فلسطين يتكاثر ويتزايد في كل دقيقة.

أثناء تجوالنا في أسواق السودان، أعجبنا كثيراً بسياسة السودان وحكومة الإنقاذ الرشيدة، التي انتهجت أسلوبا رائدا في الأخذ بيد شعبها إلى صراط الله المستقيم، لا بسوط السلطة وقهرها، وإنما بسوط الرحمة والرغبة والدعوة بالمعروف والحسنى، فسلكت الدولة سياسة الأمر بالمعروف وتوسيع دائرته، قبل سياسة النهي عن المنكر، فأوجدت ما استطاعت من البدائل الشرعية في كل مجال تقريباً، فالبنوك الإسلامية والمدارس والجامعات الإسلامية وبيوت الزكاة، والمحاكم الشرعية ..الخ تعج بها البلد .

الشعب السوداني بطبعه شعب مسلم عريق في تدينه وقوة عقيدته، اختار الإسلام والتدين الوسطي المعتدل، منهجاً وأسلوباً، فلا يكاد يخلوا شارع في الخرطوم من مدراس تحفيظ القرآن الكريم والمراكز العلمية والتربوية، كما أحيت حكومة الإنقاذ، رسالة المسجد، وأقامت فريضة الزكاة في داخل السودان وخارجه حتى في السفارات والقنصليات السودانية، حيث تجد نوافذ لجمع الزكاة، لإعالة المحتاجين والمعوزين، وسد الفاقة وتيسير سبل العيش الكريم للفقراء، كما أنشأت معسكرات الجيش الشعبي، الذي يحمل رسالة الدفاع عن الوطن، وفق رؤية إسلامية صافية، يقوم على هذا الجيش العلماء وطلاب العلم والحفاظ لكتاب الله والخيرون والصلحاء والدعاة .

جهود جبّارة فيما ألمس تسلكها الحكومة السودانية لنشر الفضيلة والعفاف والبر والتقوى، وجهود جبارة أيضا تسلكها على صعيد التصنيع العسكري والأمني والاقتصادي، وعلى صعيد الاكتفاء الذاتي، ومنذ أول يوم لحكومة الإنقاذ رفعت شعار \"نأكل مما نزرع ونلبس مما نصنع\" وهاهي اليوم تقطف الثمار المباركة، فأضحى هذا الشعار واقعاً ملموسا في كل أرجاء السودان، فلم يعد السودان عالة على أحد لا في مطعمه ولا مشربه ولا ملبسه، ومن الجدير بالذكر في هذا المقام أننا تناولنا وجبة عشاء مباركة مع إخوة سودانيين ومع طول وضخامة تلك المائدة، إلا أنا لم نجد عليها شيئا مستوردا، فاللحوم والأجبان بأنواعها والفول السوداني وأنواع من الأطعمة والأشربة لا نعرفها ، كانت كلها إنتاجا محليا.

من جانب آخر خاض السودانيون غمار المجال الصناعي، كالسيارات والحديد والطاقة، مبتعدين عن الهيمنة الغربية، مستقلين بقرارهم الوطني، بلا وصاية من شرق أو غرب، وهو ما أزعج الغرب \"الأصدقاء\" عليهم كثيراً جداً ولذا يسعون جاهدين لإسقاط مشروع السودان الإسلامي الحضاري النهضوي بكل وسيلة وطريق، إلا أنّ السودان يمضي قدما وبقوة وشجاعة وصلابة، نحو تحقيق أهدافه في الحرية والاستقلال والسيادة والكرامة كدولة عصرية حديثة ذات مشروع وطني أصيل وإرادة حرة مستقلة.

ختاماً: لا أخفي القارئ سراً أن السودان يشق طريقه بنفسه، بلا عون من أحد ولا مساندة من أخ أو صديق، إلا من عون الله وحده الذي أسبغ على شعب السودان نعمَه ظاهرة وباطنة، وإلا فكل الأعراب يتوجسون خيفة، أو بمعنى أصح دول الأعراب لم تصلهم أي إشارة من قوى الهيمنة الدولية، لمدّ يد العون والمساندة للحكومة السودانية، وجُلّ الأنظمة العربية تفرض حصاراً اقتصادياً غير معلن، على شعب السودان، حتى إشعار آخر، خوفاً من تنامي ما يسمونه بالإسلام السياسي، الذي يهدد عروشهم وكراسيهم المهترئة، لكنّ الله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

حفظ الله السودان رئيساً وأرضا وشعبا وحكومة، وجمع كلمته ووحّد صفّه، ولَمّ شعثه، وأغناه من خزائنه التي لا تنفد، وأغناه بواسع فضله عمن سواه، وإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون،،، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.


في الإثنين 28 يونيو-حزيران 2010 08:32:05 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://m1.marebpress.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://m1.marebpress.com/articles.php?id=7432