خواطر في فلسفة الحب والزواج
منير الغليسي
منير الغليسي

مفتتح

حين شرعت بكتابة هذه الخواطر الأدبية المتنوّعة في موضوعاتها فيما يدور بين كثير من الأزواج ، و رُمْت إحالتها من فكرة مجردة إلى قضية اجتماعية ، على المجتمع - أفراداً وجماعاتٍ ومؤسسات - أن ينهض بها ؛ هممت بنوعية القارئ ، فهناك صنف من الناس سيسيء الفهم ، و سوف يعاتبني لتحيزي إلى صف المرأة الزوجة عن الرجل الزوج ، و له الحق في ذلك إن كان التحيز لمجرده .

لكن ، ينبغي له أن يعلم أنني ما قصدت الوقوف مع كل النساء ؛ فإن منهنّ من يكفرْن العشير و الإحسان ، حتى لو أُحسن إليهن الدهر كما ورد في الأثر . كما أنني بالمقابل لم أقصد الوقوف ضد كل الرجال ؛ فإن منهم رجالاً أكْفاءَ ، قائمين على أسرهم حق القيام .

إنني ما أردت (بذلك) إلا تلك الزوجة الصالحة َ الواعية ، التي تعرف حقوق زوجها و بيتها :

الزوجة التي تتعب ليرتاح زوجها و أولادها ، تشقى ليسعدوا ، تأرق ليناموا . . . و ليس بالضرورة أن تتعب و تشقى و تأرق كل التعب و الشقاء و الأرق ، إلا أن ذلك منها تفان ٍ و إخلاصٌ لا يعدلهما أو يزيد عنهما أيُّ تفان و إخلاص ، إلا من عبدٍ مخلص لربه في عبادته ، أو رجلٍ بارٍّ بوالديه ، خافضٍ جناحه رحمةً بهما .

أردتُ الزوجة َ القريبة من القلب والعقل والروح ، لا البعيدة . . الأليفةَ ، لا النّافرة . . الزوجةَ الصابرةَ المصابرةَ . . الأنثى لا المستأنثة . . الزوجةَ (الأم) ، و الزوجةَ (الحبيبة) .

الزوجةَ التي تؤسس لبناء الأبناء – ذكورا و إناثا- و تضع لبِنَةَ الأساس ؛ أملاً في أن تفتتح و زوجُها أهمّ مشروع تربوي أسري في حياتهما ، لكنك تجد أنها هي تفتتح و هو يغلق ، هي تقصّ من ناحيتها شريط التربية و الإرشاد ، و هو من جهته يقص شريط التسيّب و اللامبالاة و الإفساد ! !

هي مثال للمواطن الصالح العادل ، و هـو أنموذج لحكومـة فاسدة ظالمة . هـي ترعى الصلاح و الرشاد ، و هو يرعى الخراب و الفساد ! !

تلك الزوجة التي يقابل زوجُها كلّ فضل منها بجحوده ، و كل و اجب تقوم به و خدمة تسديها له ولبيته بنكرانه وصدوده ! !

تسعى لتوطيد أواصر القربى ، و توثيق عرى المحبة الزوجية ، و يسعى لحلحتها و خلخلتها . هي تبني ، و هو يهدم ! . هي كالنحلة ، و هو كدودة الأرضة : الأولى تبني و تنتج ، و الأخرى تستهلك و تخرّب ! !

لسان حالها :

(( متى يبلـغ البنيـانُ يوماً تمامَهُ . . . إذا كنتَ تبنيه و غيرُك يهـدمُ )) ؟ ! !

الزوجة التي تعطي عطاءً بلا حدود ، مقابل نكران و إساءة و جحود ! !

***

عجباً لهم ! !

كثيرون هم الأزواج - الذكور- المشاكسون العَنَدَة ، الذين يأبـَون إلا أن يعيثوا في أسرهم فسادا ! , و أن يعيشوا بعيداً عن السكينة و الاستقرار الأسري ، اللذَين لا يريدونهما لا لأنفسهم و لا لأولادهم و أهليهم ! ! فعجباً لهم .

إن هؤلاء مثَلهم كمثَل اللّص الأحمق ، مَن أدمن السرقة ، و الذي لا يغمض له جفن ، و لا يهنأ أن ينام إلا و قد سرق أي شيء ، حتى لو كان المسروق تافها ! ! فإنه إن لم يجد مبتغاه ، يغمـض عينيـه و يسـرق قرشـاً من أحـد جيـوبه ؛ ليضعه في آخـر !... حينئذ ينام قرير العين ، هادئ البال ، مطمئن الضمير!

و هؤلاءِ الطائفة ُ من الأزواج هم لصوص ، لكنّهم ليسوا سوى لصوص قلوب تحمل عطاءً في عطاء : حباً ، إخلاصاً ، وفاءً ، و بذلاً . . . فيبيعونها في سوق الكره و الغدر و الخيانة و حبّ الأنا . و ما أكثرَ مثلَ هذه الأسواق التي بائعـوها و مروّجـوها و مشتروها على السواء ، قد خلعـوا عنهم ضمـائرهم ! - إن كان لديهـم ضمـائر - و أصبحوا أشكالاً آدميـةً مفرغـة من معانيها ! !

***

إن حياةً زوجيةً قائمةً من طرَف ، و لا يسودُها الودّ إلا من طرف ، لهي أشبه بحبل عقده صاحبُـه من طرف واحد- أيضا- و أراد أن ينشر عليه ملابسَه ! !

لذلك جهل أو تجاهل هؤلاء ، و نسَوا أو تناسَوا قول المشرّع - تعالى - فيما يخصّ ارتباط العلائق الزوجية ، وأنها لا تقوم إلا بالمودّة و الرحمة بين طرفي الزواج : ﴿وجعل بينكم مودة و رحمة﴾ .

فإذا لم تجد المودّةُ و الرحمة إلى قلبيهما طريقاً معبـّدة بالألفة و الانسجام ، فأيّ طريق أخرى ينتظران هما عبورها ، إلا أن تكون موصلةً إلى هُوّة من الفوضى و التشرّد و الضياع الأسري ؟ ! !

و إذا كان أحدهما أو كلاهما لم يفقه ذلك ، فلمَ لا يفقه هو : ﴿فإمسـاكٌ بمعـروف أو تسـريح بإحسـان﴾ . على أن الطـلاق قرار من الصعب بمكان أن يخطر على قلب رجل عاقل ، أو على عقل رجل له قلب ؛ لما يترتب عليه من مآس ٍوخيمة على الزوجين كليهما ، و على الأطفال و الأبناء ، لاسيّما المآسي النفسية .

لكن تلك المعاناة َ ، و تلك الآثارَ المترتبة على الطلاق ، لن تكون أكثر منها في حال البقاء على زواج ، بيته أوهن من بيت العنكبوت ، و لو ادّعى من ادّعى أنه من حديد و حجارة وإسمنت ! !

و مادام ذلك كذلك ، فإنّ البيت سينهار على من فيه ، و الانفصال واقع لا ريب فيه ، إذا لم يكن عن رضاً ، سيكون بما لا يحمد عقباه – عياذا (1) .

و إذا كان الطلاق أبغض الحلال عند الله ، فإنه - في نظري- و الحال هذه ، من الواجبات ، بل القُربات ، و إلا لم يقرّه الشارع سبحانه . ودعوتي للطلاق ليس على إطلاقها ألبتة ؛ فإنه إن لم ينفع علاج الطبيب الماهر لمرّة وثانية وثالثة ، حيناً بالتلميح والإشارة ، وحيناً بصريح اللفظ والعبارة ، ولم يجدِ معهما حَكَم من أهله وحَكَم من أهلها مؤتمنان في تحكيمهما ، لا مراوغان ولا مزايدان على زيجة ديمومتها قد تكون أكثر فشلاً ، وعواقبها ونتائجها أكثر جرماً وبعداً ونُفرةً وخراباً ، وأكثر ظلماً . . إن لم ينفع ذلك ؛ فإن آخر العلاج وأنجعه هو (الكيّ) . وليس بالضرورة أن يأتي متأخراً بعد عديد سنيين تكون قد أتت على الأخضر من عمرهما ، ثم لا يأتي (الكيّ) إلا على جلدةٍ أكثر سخونةً وأشدّ حرارةً منه ! !

***

فإلى طائفة الخواطر الحوارية بين زوجين ، وهما أنموذج لغيرهما من الأزواج ، على أنني تناولت مادة الحوار فيها بأسلوب مترفّع عن الإسفاف ، وإلا فإن أيّ حوار – إن صحّ تسميته - في الواقع يدور بلغة مُسفّة ، وطريقة عنيفة . . إلا ما رحم ربك ، وقليلٌ ما هم .

- 1-

( قلب فضائي ! )

قالت : يا قرة عيني ، و يا سعادة قلبي ، روحي بروحك قد مزجت ، فصرنا جسدين بروح واحد ،

أينما ذهبت كنتُ معك : علوتَ جبلاً أو هبطتَ وادياً ، مشيتَ في برّ أو سريت في بحر . . .

إنني معك أسمع و أرى ، أفرح و أترح ، آلم و آمل . . .

لطالما نأيتَ بعيداً في سفر ؛ إذ أشعر بوعثاء سفرك يدبّ في جسدي ،

و أحسّ نفسي تكاد تستل من جسدي ، بل من نفسي ! و أنا المقيمةُ المنتظرة رجوعك ،

وكأنني أنا المسافرة لا أنت يا عزيزي !

قالت : أوَ تذكر يوماً قدمتَ فيه . . . و أنت عبوس الوجه ، مكلوم الفؤاد ؛ إذ فاجأتكَ بما جرى لك في عملك،

و حاولت أن أمسح عن وجهك غمامة حزنك السوداء بماء السماء : لا تحزن ، إن الله معك...

فذهلتَ : كيف لي أن أعرف ذلك ، وقلتَ : لا يمكن لأحد أن يصف ما حدث لك هذا الوصف

وهو لم يرك و لم يسمعْك ، إلا أن يكون نبياً , أو وحياً من عند الله ،

أو أن يكون الواصف من الجان ! أعاذك الله من شر الشيطان .

فرددتُ عليك : أن لا نبي بعد محمد و لا وحي ، ما أنا إلا زوجك ، أتنبأ عنك بفِراستي ..

و نفسي أنت وحيُها ، يا وحيَ نفسي و إيحاءَها !!

فلئن كنت قد تواريتَ عن عينيِّ رأسي ، على بعد ما بيني و بينك من مسافات وحواجز تحول دون رؤيتكك ،

فإني أراك وبجلاء بعيني فؤادي ، و أسمع هديرك عبر ذبذباته التي تستقبله ،

حيثما وجهت وجهك : قبل المشرق أو المغرب .

و حيثما كنت فولّ وجهك ... فإنّ لي( قلبا فضائيا) يراك و يسمعك ..

آه ! أيها الحبيب ...!!

 ***

قال : دعيني من هلوساتك ! و من خيالك المجنح في فضاء الشعوذة ،

لابد و أنه قد أصابك طائف من الشيطان .

أعوذ من شيطانك و منك إن كنتِ كذلك !

إن ثرثرتك لا تسمن و لا تغني من جوع بطني . إنها تتضور جوعاً ، هاتيني لقيمات ،

و اتركيني يا عابدة الخيال أعيش مع ( أعشابي الخضراء) (2) ،

فإن لها نضارةً و رواءً و رونقاً ليس كمثله عند أجمل جميلات العالم !

هي معشوقتي منذ صباي ، و ستظل كذلك مادمت حيّا !

دعيني معها و لها ، و لا تقطعي عليّ (كيفي) معها و بها ، بنزغاتك الشيطانية !

و إلا سأضطر إلى أن أرقيني بأذكار الصباح و المساء ؛

حتى لا تتخبطيني أنت و شياطينك بمسّكم أيتها الشيطانة !

سأرقيني ، و حينها لن تهتدي إليّ سبيلا !!

***

- 2-

( جـدل )

قالت : ما أجمل صوتَ المؤذن و أعذبَه ! كأنه ملَك من السماء ينادي

قائلا : يا أهل الأرض ، من يُرد الجنة فليلبّ النداء (( حيّ على الصلاة)) (( حيّ على الفلاح )) .

بل كأنه يخصّنا بهذا النداء ! ما رأيك أن تذهب و معك أحمد إلى المسجد ! ؛

ليتعلّم كيفية الصلاة ، و يتعرف على أهل الصلاح . . . بدلا من أن يسرح هو مع رفاق السوء ،

الذين ما برحوا يجرّرونه من نادٍ إلى آخر ؛ حتى لكأني به قد تغيرت أخلاقه ، و ساءت تصرفاته ،

و كأني أراه غدا شابا ضائعا مائعاً لا يحسن ألا مشط شعره ، و انتقاء ملابسه و عطره !

قال : دعي الخلق للخالق ! . . . و اتركي ولدك في نزقه ! و لسوف يكبر عقله ، وتمتاز الأمور لديه .

قالت : و أنت . . ماذا عنك ؟ !

قال : أنا . . . أمّا أنا . . . ! لا . . لا شأن لكِ بي !

ثم . . . ثم من أنتِ حتى تحاسبينني ؟ ! و ثم ليس كل شيء صلاة !

دخول الجنة التي تنشدينها برحمة الله !

ردّت : و من قال لك أيها العزيز : أن كل شيء صلاة ؟ !

و ثُمّة كيف تريد أن يرحمك الله و أنت لم ترحم نفسك ؟ !

إن نفسك لو أن لها قدرةً على أن تخرج منك لفعلت ذلك رحمة بك و بها !

ردّ عليها حانقاً : هيّا اذهبي ، و صلّي ، و ادخلي الجنة ،

و اتركيني أيتها الشيطانة مع (وريقاتي ) ! و إلا سأطردك بأذكار المساء !!

ثم لا تنسي أن تعدّي العَشاء ، و تغسلي الثياب ، وتكنسي . . . !

و تتركيني بعد ذلك أنام حتى الظهيرة ، و إلا فأنتِ طــــــــــــــــــــــــــــــــــــالق ! ! (3) .

الحاشية:

(*) كنت قد شرعت بكتابة هذه المادة قبل بضع سنوات ، عندما اتفق اجتماع العقل والقلب والروح ، على أن أجعل منها وحدة متكاملة تتناول كثيراً من موضوعات الخلاف والاختلاف الدائرة بين كثير من الأزواج ، لكنّ نواحيَ الحياة ومناحيَها حالت دون ذلك ؛ فبقيت محفوظة حتى اليوم ، ثم بدا لي من بعدُ أن أضيف لها موضوعات الاتفاق والتوافق عند طائفة منهم ، سواء أكان عرض ذلك بطريقة الحوار أو السرد ، وقد ارتأيت أن أبدأ بنشر ما تيسّر منها ، ومتى ما أتيح للعقل أن يجتمع بالقلب والروح من جديد أكمل ما بدأت إن شاء الله.

1- الشواهد على ذلك عديدة . ما أن تتصفح مجلة أو صحيفة خبرية إلا وتقرأ وترى ما تشمئز منه النفوس ، و تتأوّه له القلوب ، و تدمع له المقل ؛ سواء في مثل قضيتنا هذه ، أو قضايا اجتماعية سواها .

2- الشجرة الملعونة في القرآن ، هي شجرة الزقوم ، التي تنبت في أصل الجحيم ، لا أرى توأماً لها ملعونة ً عند أهل الأرض ، وتنبت في أصل الأرض وأعاليها ، غير شجرة القات ، الأولى ورد في وصفها أنها مرّة المذاق ، كريهة الرائحة ، قبيحة المنظر ، طلعها كأنه رؤوس الشياطين . . والأخرى مرّة المذاق ، وإن لم تكن كريهة الرائحة ، وقبيحة المنظر ، فإنها بذاتها شيطان مارد . فالشيطان يوحي لأوليائه موَسوساً ونافثاً شرّه في العقد ؛ ليضل الناس عن طريق الهدى . . وشجرة القات - التي ابتلي بها اليمنيون - توحي لأوليائها في سويعات من النشوة الشيطانية السحرية بأن الحياة المثلى أمام ناظريهم ، وأن مقاليد أبوابها بأيديهم ، ما عليهم إلا أن يفتحوا هذه الأبواب غداة أن ينفضّوا من جلستهم ، بل تخديرتهم . . أصلُها ثابت في عروق مدمنيها ، وفرعها منتشر في سلالتهم حتى حين . كم أخربت من بيت ، وشرّدت من أسرة ، وأفقرت من غني ، وأذلّت من عزيز ، وأمرضت من صحيح ، وشيبت من شاب . . . ! ! 

3- يحتار المرء في أمر كثير من الرجال ، أيّ عقول يحملونها ، كلمة (الطلاق) في ألسنتهم أسهل من شرب كأس الماء ، تجد الواحد منهم لأي سبب لا يرعوي في رميها ، أمام زوجه وأولاده ، أو أمام قرنائه ، أو أمام عامة الناس أو خاصتهم ، في أيّ مكان ، في بيت ، أو في سوق ، في مكان عام أو خاص . حين يتقدم للزواج من الفتاة تراه يركض بخيله ورجله ، ويريد أن يُتم الزواج في أقرب سانحة ، ويأتي بالوسطاء ، وعلى استعداد أن يقدّم مهجته فداءً للحبيب المرتقب ! ! ، وما أن يأويا إلى مأوى السُّــكنى والطمأنينة ، حتى يسفر عن مخبوء لسانه وقلبه ! ! وحين يجدّ الجدّ تراه يقسـم الأيمان المغلظة ما قالها ولقـد قالها . . نسي هذا المغفّل أو تناسى أنهما قد أخذ على نفسيهما من الله ميثاقاً غليظا .


في السبت 24 يوليو-تموز 2010 05:54:31 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://m1.marebpress.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://m1.marebpress.com/articles.php?id=7590