قراءة مختلفة لحرب صعدة
محمد العبسي
محمد العبسي

عندما خرج زيد بن علي بن الحسين، عام 122هـ، على الحكم الأموي اجتمع حوله 40 ألف مقاتلاً في الكوفة. كان خروج زيد مُربكاً لا للأمويين فحسب وإنما للعباسيين أيضاً الذين كانوا يعدّون العدة، سراً، للانقضاض على الحكم. وإنه لمن دواعي استيائي أن أقول، جازماً، إن ما جرى فِي حرب 122هـ من تحت الطاولة جرى ويجري، اليوم، في حرب صعدة من تحت الطاولة أيضاً. وإن المقاتلين، من الطرفين، يذهبون إلى حرب يجهلون خفاياها ومن تخدم. وليس شيء أكثر مهانة للإنسان من أن يساق من غيره مثل الدابة وإلى أين؟ إلى الحرب!

لا بد من تكبير الصورة: في ذلك الوقت كان دُعاة بني العباس يُبشّرون، منذ مطلع القرن الثالث للهجرة، سراً في الأمصار بخروج إمام من أهل بيت النبي لا يعرف الناس، ولا حتى معظم أتباع الدعوة العباسية، عن نسبه وأوصافه سوى صفتين: أنه \"سيملأ الأرض عدلاً\" كما قيل، ويقال إلى اليوم، عن المهدي المنتظر! وأنه \"إمام الرضا من آل محمد\" (شعار الحركة العباسية) مخفين نسبه لدواعٍ أمنية. وبالتالي فأي رجل من أهل البيت، أكان عباسياً أو فاطمياً أو حتى علوياً، قد يقود ثورةً ضد الأمويين فمن البديهي أن يعتقد عامة الناس وسائر أتباع الدعوة السرية أنه هو بعينه إمام الرضا الذي ظل العباسيون يبشّرون بخروجه طوال أكثر من ربع قرن.

خشي العباسيون أن يقع أتباع دعوتهم، الذين عملوا على إعدادهم، في سوء فهم فينضمون إلى صفوف زيد بن علي، عن طريق الخطأ، لاعتقادهم أنه هو إمام أهل البيت المستتر. وهذا ما حدث فعلاً. فرُبع جيش زيد بن علي، كما هو شائع، كانوا من أتباع ورجال الدعوة العباسية. لكن سرعان ما تدرك العباسيون الأمر وخذّلوا الناس عن زيد ونجحوا في إفشال ثورته من الداخل.

كانت الخطة العباسية الحاذقة تقوم على نصرة زيد في العلن وإفشال ثورته في السر على النحو التالي: أرسل إمام الدعوة العباسية \"محمد ابن علي بن عبدالله بن عباس\"، في العلن، أخوه وولديه (أبي جعفر المنصور والعباس) إلى الكوفة من أجل نصرة ابن عمومتهم زيد بن علي ومحاولة إقناعه بعدم جدوى الخروج على هشام بن مروان البطّاش. ولدرء التهمة وحتى لا يُشك في صدق نواياهم فقد أمرهم والدهم أن يقاتلوا، إن استدعى الأمر، مع زيد قتالاً مصطنعاً ليس إلا على أن يتخلوا عنه أثناء المعركة أو حتى قبلها بحجة أنها معركة خاسرة. ويخيل إلي أن شيئاً من هذا القبيل جرى ويجري في معارك صعدة وبخاصة في صفوف الجيش!

بالمقابل، ولعدم وقوع التباس، أرسل إمام الدعوة العباسية سراً إلى قادة حركته في كافة الأمصار ألا تخرجوا. وخصّ قائد دعوته في الكوفة برسالة يأمره بجمع أتباعه والمغادرة فوراً إلى الحيرة. وبالفعل، وتنفيذاً لخطّة المخرج العباسي الخفي، انسحب بشكل مريب من جيش زيد 9 آلاف مقاتلاً، قبل المعركة، كما حدث لجدّيه الحسين وعلي بن أبي طالب من قبل. وقد حثّ انسحابهم، من حيث لا يدرون، على انسحاب آخرين لا علاقة لهم بهم. الأمر شبيه، نوعاً ما، بتساقط أحجار الدمنة المرصوصة خلف بعض إثر إسقاط الحجر الأول منها. والحال هذه أيضاً في صعدة: حجر يقع فيوقع أحجاراً عظيمة.

كان الانسحاب في ظاهره دينياً وفي باطنه سياسياً. وبغرض التمويه فقد ذهب المنسحبون، في البداية، إلى زيد بن علي طالبين منه أن يتبرأ من الشيخين \"أبي بكر وعمر\" باعتبارهما انتزعا الخلافة من العلويين مثلهما في ذلك مثل هشام بن مروان الأموي. فلما رفض زيد ذلك (وكانوا يتوقعون رفضه طبعاً) وفشل فِي إقناعهم بالفرق الشاسع بين خلافة الشيخين الراشدة وبين خلافة هشام الجائرة قرروا الانسحاب. وقد انطلت هذه الحيلة حتى على كثير من المؤرخين الإسلاميين الذين يعتبرون هؤلاء هم النواة الأولى للرافضة وفق تسميته لهم!

التقى الجيشان وقتل زيد بن علي وصلب وطاف الأمويون برأسه المقطوع، تشفياً وعبرةً، كافة الأمصار فقرّ العباسيون عيناً لا بمقتله بل بفشل ثورته. صنيعُ العباسيين بابن عمّهم، في الحقيقة، لا يقل عن الأمويين. الفرق طفيف: قاتل الأمويون زيداً وجهاً لوجه وقاتله العباسيون \"من تحت لتحت\" كما يقال.

الشيء المؤسف في الحالتين أن زيداً بن علي مات، ياللكمد، وهو يظن أن أبناء عمومته العباسيين وقفوا إلى جانبه وساندوه في حربه بينما هم في الحقيقة أول من خطط لمهلكه وإن وقفوا بجانبه في الظاهر. وتلك الطامة: فكم من اليمنيين يموتون اليوم وهم يظنون أن من بجانبهم في الحرب بجانبهم حقاً؟ غافلين عن حقيقة أن من يخطط لهلاكهم هو ذاته الواقف على التل منادياً \"حي على القتال\"! وأن السلام أياً كان أفضل من الحروب المقدسة.

هذا هو المخ: إن السيناريو العباسي الخفي الذي وقع في شراكه الإمام زيد بن علي يقع فيه اليمنيون اليوم، بكل حماسة، وكأن حرب 122هـ وحرب 2004م وما تلاها من إنتاج مخرج واحد. مخرج يجلس كالقائد العباسي بعيداً عن أرض المعركة بينما يحرك، من مكان خفي، أطرافها كقطع الشطرنج! وحتى أكون موضوعياً فإن لحرب صعدة أكثر من مخرج يتفاوت تأثير أحدهم عن الآخر. ولست أبالغ لو قلت إن لها مخرجاً في صنعاء وآخر في مرّان. وأكثر من مخرج في بلدان عدة. وكأن اليمنيين حلوا جميع مشاكل العصر ولم يتبق أمامهم غير الحرب.

الأكيد أن التاريخ يعيد نفسه. وفي التاريخ الإسلامي بخاصة، يجري إعادة أخطاء الماضي بحذافيرها وكأن أحداً لم يستفد. فاليوم يُقتل الآلاف من اليمنيين في حروب صعدة وهم يظنون، كما ظن من قبلهم، أن من يقاتل إلى جانبهم فِي المعركة يقاتل من أجل ما يقاتلون لأجله (وهل يعرف أحد أصلاً علام كان القتال؟). اليوم يُقتل اليمنيون فيُسمّى الأول \"شهيد الواجب الوطني\" بلغة الدولة ويحال إلى الجنة الخاصة بقتلاها، ويسمّى الثاني \"شهيد الحق\" بلغة الحوثي ويذهب أيضاً إلى الجنة الخاصة بقتلاه، وكأن كلاهما يقطعان التذاكر إلى العالم العلوي ويقومان معاً بتوزيع ركاب الجنة على نفس الحافلة!

شعار سياسي ليس إلا

شعار الحوثيين \"الموت لأمريكا الموت لإسرائيل\" ديني صيغةً سياسي هدفاً. وهو في حقيقته لا يختلف عن شعار الحركة العباسية \"الرضا من آل محمد\" أو شعار حركة الخوارج \"لا حكم إلا الله\" أو شعار الثورة الإيرانية وحتى شعار وصول الوهابية إلى الحكم في دولة آل سعود الأولى! فكلها شعارات سياسية بثياب دينية. وقد لفت الزميل نائف حسان في الشارع إلى شعار آخر، يجري التسويق له، استفادةً من الأوضاع غير المستقرة في البحر العربي والأحمر يتعلق بالبوارج البحرية فيهما!

الخروج على رغبة المخرج

نفذت خطة المخرج العباسي، في إفشال ثورة الإمام زيد، بحذافيرها باستثناء أمر عارض: أخذت الحمية، على نحو مفاجئ، أبو جعفر المنصور عند التقاء الجيشين فرفض الانسحاب وقرر أن يقاتل مع زيد، بخلاف الخطة، قتالاً حقيقياً لا تصنعاً حتى أنه أصيب برمح اخترق صدره كاد يودي بحياته. وقد همّ أخوه إبراهيم السفاح (أول خلفاء العباسيين)، بعد ذلك، أن يحرمه من الملك بسبب هذه المخالفة البسيطة لخطة أبيه: المخرج. فإن صحت فرضية الذين يفكرون بعقلية المؤامرة وينظرون إلى الحوثي باعتباره يعمل على تنفيذ خطة المخرج فإن خروقات أكيدة حدثت وستحدث مستقبلاً. وقد تفعل الحمية فعلها بأبي جعفر المنصور.

معاوية يزود أعداءه بالسلاح: مرتين!

في المواجهة القديمة، كما سبق وقلت، كان في صفوف جيش زيد بن علي محاربون قاتلوا ولم يقاتلوا وخذّلوا في الوقت الذي اعتقد الناس، بمن فيهم الإمام زيد، أنهم نصروا. وبالمثل: كان في صفوف جيش \"الدولة\"، في مواجهات صعدة، مقاتلون لم يخوضوا قتالاً حقيقياً قط. بل على العكس عملوا جاهدين، وبطرق ملتوية، على إفشال الجيش وتكسيره من الداخل. فظهروا، فِي العلن، كحماة الوطن الأشاوس بينما هم في الخفاء، حفنة مرتزقة تتاجر بدماء اليمنيين واستقرارهم. (سمحت لنفسي بإثارة هذا الموضوع لأننا في فترة سلام حتى لا يزايد عليّ أحد واتهم بمعاداة الحوثية على شاكلة معاداة السامية!).

يوجد، في الجهة الأخرى، بالنسبة لصفوف مليشيا الحوثي احتمال آخر غير وجود مقاتلين تظاهروا بالقتال ولم يقاتلوا حقيقة كما فِي الجيش. ويعلمنا التاريخ أن المصلحة قد تجمع، على طاولة واحدة، عدوين تحاربا في الأمس القريب ثم التقت مصالحهما أخيراً عند مصب النهر فزوّد أحدهما الآخر بمياهه لمواصلة المسير في اتجاه آخر بما يحقق أهدافاً مشتركة للـ\"عدوين\".

يجري هذا النوع من التفاهمات، عادة، إما بالصيغة التقليدية: باتفاق وعلم الطرفين وتنفيذهما وإما بصيغة باطنية، من تحت الطاولة، بحيث يقدم طرف ما، فِي توقيت محدد لا دائم، خدمات مفاجئة للطرف الآخر بشكل غير مباشر أو حتى عن طريق وسطاء يحملون جوازاً مزدوجاً يستطيعون بموجبه التنقل بحرية بين الطرفين ذهاباً وإياباً. في الجريدة التي أمامي صورة لفارس مناع؟ على أية حال فالأمر احتمالي، وليس مؤكداً، وإن كان وارداً بقوة. ولأنني استهوي النظر إلى أحداث الحاضر من خلال نظارة الماضي فلن أستدل بالشواهد الميدانية وأدبيات نظرية المؤامرة، ولا بما قيل ويقال عن أن انسحاب القوات الحكومية من رازح، قبيل دخول السعودية في المواجهات، كان انسحاباً تكتيكياً متعمداً لضرب عصفورين بحجر: المملكة والحوثي معاً. كلا لست متحمساً لهذا التحليل، بهذه الطريقة، ولا أرغب في نبش قبور منتنة!

يروقني عوضاً عن ذلك العودة إلى الوراء: إلى الماضي. أحب فهم الحاضر من خلال القراءة السياسية للتاريخ. وفي موضوع شائك كهذا فإن الشواهد التاريخية، المدعمة والمشككة، بالجملة والتجزئة. ومن ذلك، على سبيل التأكيد لا التشكيك، أن الأشخاص الذين قاتلوا إلى جانب الإمام عليّ، فِي معركة صفّين، ضد معاوية هم ذات الخوارج الذين خرجوا، فيما بعد، على الإمام فأمدّهم معاوية من دون إبطاء بالسلاح والعتاد، بطريقة غير مباشرة على أوثق الأقوال، لقتال الإمام علي فِي النهروان وإنهاك جيشه! ربما.

وفي السياسة أمر كهذا وارد. وقد كان معاوية من الذكاء والحيلة بحيث لا يفوت فرصاً سانحة كهذا. والحال هذه اليوم. ولست أدري لم تخطر في بالي الساعة مقالة لمدير قناة العربية عبدالرحمن الراشد بعنوان \"دهاء حوثي أم مكر صنعاني\". لا عليكم فليس إلا توارد خواطر.

الحرب أكثر مغنماً من السلم!

وجود \"طابور خامس\" في صفوف الجيش يبدو احتمالاً راجحاً لدى الكثير من النخبة السياسية في البلد. أول الأمر كان الحديث يجري عن رغبة نظام صنعاء في إعادة ترتيب الأوراق داخل مؤسسات الجيش وسحب القوة، تدريجياً، من الفرقة الأولى مدرع لتكون مركزة في الحرس الخاص. في نفس الوقت جرى الحديث عن سيناريو ثان لحرب صعدة مفاده: من البديهي على جنرال في طريقه إلى التقاعد، قاصدين قائد الفرقة الأولى، أن يفتعل الحرب ويحرص على بقائها مشتعلة من أجل الحفاظ على موقعه كصمام أمان لنظام صنعاء. بل جرى الحديث، همساً، في أروقة الحكم عن سيناريو أبعد من سابقيه وأخطر: \"أرادوا توريط الجنرال في صعدة فورطهم هو\"!

المؤكد لديّ أن ظروف الحرب تتيح للحاكم ما لا يمكن أن يتاح في ظروف السلم. وتتيح وتقدم للمتحاربين إغراء أية حرب. فالحرب مغنم بالدرجة الأولى. وغنائم الحرب، بالتأكيد، أكثر وأدرّ من غنائم السلم.

تدليلاً على ما أتاحته الحرب للحاكم من فرص سانحة إليكم المثل: عقب الفشل الذريع الذي مُني به الجيش في الحرب الخامسة جرت تغييرات كبيرة داخل المؤسسة الأمنية ما كانت لتتم، في ظروف السلم، من دون أن تقترن بتذمر واستياء القادة العسكريين الذين جرى تغيرهم أو عزلهم من مناصبهم. من ذلك مثلاً: قرار نقل السياني من رئاسة دائرة الاستخبارات العسكرية إلى قنصل عسكري في السعودية الذي تقبله الرجل، بسبب ظروف الحرب، بنفس طيبة بعد الفشل الذريع للجيش بخلاف لو صدر في توقيت آخر.

يمكن القول، إجمالاً، إن من حسنات الحرب للحاكم أنها أوجدت مبررات مقنعة لإعادة تشكيل المؤسسة العسكرية، بما يخدم مشروع التوريث، من دون إثارة أية حساسيات كانت لتكون حاضرة بالتأكيد حال نفذت في السلم. وليس بخاف على أحد أن صلاحيات \"علي محسن\" في الحرب الثانية أقوى منها بكثير في الخامسة لكن الكلفة باهظة.

لا أحب التنجيم ولا أحسن توزيع التهم لا للحوثي ولا للجيش وأنظر إلى الأمر، برمته، على أنه مجرد قراءة سياسية واحتمالات واردة بقوة تؤكدها شائعات ميدانية من ساحة الحرب. لكن يقتضي الحديث عن أسرار حروب صعدة ومحاولة فهم خفاياها أخذ تصريحات متفرقة صدرت عن النخبة الحاكمة على محمل الجد وإن قيل بعضها بدافع المزايدة السياسية.

لندع حديث يحي محمد عبدالله صالح، وغيره، عن الحسم العسكري المنكوث جانباً. ولنقل إن بيان مجلس التضامن الذي وجّه اتهاماً خطيراً، من دون أدلة، عن تواطؤ أجنحة داخل الجيش مع الحوثي صدر بالتزامن مع عودة الأمير سلطان. غير إنه من غير الممكن أخذ حديث فارس مناع، مؤخراً، لإيلاف على أنه رد فعل متشنج ليس إلا على الإقامة في زنزانة الأمن القومي. لقد تحدث رجل النظام الأول في ملف السلاح \"عن تسليح الحوثي وكأنه وحدة من الجيش ولديه الأدلة\" حد قوله! ولعل هذا الاتهام الأخطر.

على أية حال فالجميع، ومن كلا الطرفين، خاسرون. اليمنيون جميعاً. نريد لهذه الحرب أن تنتهي إلى غير رجعة لكني أدرك الفرق بين الأمنيات وبين المعطيات على أرض الواقع. وللأسف لا يعول الكثيرون على الوفدين الذين غادرا إلى الدوحة، الأحد الفائت، في إحراز تقدم ملموس لأنه ممثليهما من الصف الثاني للقيادة!

دعوة للتسامح الديني والفكري

دائماً يمكن النظر إلى الحاضر من خلال نظارة الماضي. وفي المجتمعات غير المتقدمة، والإسلامية والعربية خاصة، يتدخل الماضي في المستقبل أكثر مما يجب ويؤثر فيه سلباً أكثر منه إيجاباً. شخصياً أنا على قناعة تامة أن إعدام صدام حسين في أول أيام عيد الأضحى، مثلاً، لم يكن مصادفة قط وإنما اختير التوقيت بعناية وقصدية. فقد أعدم عامل الأمويين على الكوفة خالد القسري، قبل قرون، الجعد بن درهم في أول أيام عيد الأضحى ومتى؟ قبل ذبح الأضاحي بالضبط كصدام. حتى أنه ختم خطبة العيد بقوله: \"انصرفوا يرحمكم الله فضحّوا بأضاحيكم فإني سأضحّي بالجعد بن درهم\"، على خلفية قوله بخلق القرآن.

حروب صعدة الست، هي الأخرى، يُمكن النظر إليها بذات الطريقة من خلال نظارة الماضي والصراع القديم على السلطة. مدينة صعدة نفسها والمشيمة الواصلة بين حاضرها وماضيها. حتى أحياء المدن. مثلا: الحي الشرقي من بغداد كان، ولا يزال، من نصيب السنة من أيام ابن حنبل والخزاعي وحتى اليوم، بينما الجانب الغربي من نصيب الشيعة: قديماً كما حديثاً.

وفي التاريخ الإسلامي تحمل كل فرقة تاريخ أمجادها في حقيبة، تحوي أيضاً ملفات تحقير خصومها. لدى كل فرقة ومذهب، تقريباً، ما يحلو لي أن أسميه \"حقيبة الذكريات السيئة\". المذاهب بحد ذاتها تبدو أحياناً كحقيبة ذكريات سيئة: ابن حزم عند الشيعة الإمامية \"من أكذب الناس\" بسبب تأليفه رسالة تفضيل الصحابة. وأبو فرج الأصفهاني عند الحنابلة، وبسبب تأليفه مقاتل الطالبيين، \"من أكذب الناس\" أيضاً. وهكذا: لا نحسن الاختلاف ولا نجيد التسامح ولا نريد نسيان الأحقاد قط. التسامح في الغرب ليس مجرد كلمة في قاموس وإنما سلوك تراكمي في المجتمع يسهم فيه الأفراد والجماعات سوياً.

لا تزال آثار القصف على بنايات الحزب الاشتراكي، في مدخل مدينة عدن، باقية على حالتها نكاية بحكم اليسار ولتذكر العدنيين أن حرباً حدثت ذات يوم من صيف 1994م. مباني الحكم الإمامي أيضاً لا تعامل كجزء من التاريخ اليمني. ولن يقام، على المدى القريب على الأقل، في ميدان التحرير بصنعاء نصبٌ تذكاري اعتذاري لبعض الثوار اليمنيين الذي تم سحلهم فيه بكل دناءة وعنصرية. لا نحسن تضميد الجراح بل نجيد نكأها.

في الغرب الملعون على المنابر اعتذرت الكنيسة الكاثوليكية الفاتيكان، بكل جرأة، للبروتستانت الذين كانوا يكفرونهم قبل قرون عن مذبحة وقعت في القرن الـ13 بفرنسا. وبعد قرون من إحراق جاك دارك في مدينة رون اعتبرتها الكنيسة قديسة مساويةً بينها وبين مؤسس الكنيسة الأول: بطرس.

أحرق في روما المفكر جيوردانو برونو عام 1600م. اليوم يوجد في نفس الساحة نصب تذكاري لبرونو. التسامح ممارسة وليس كلمة. وتصحيح الأخطاء سلوك وليس أمثلة تلوكها الألسن كمثل \"الاعتراف بالخطأ فضيلة\". حتى جاليليو الذي حاكمته الكنيسة مرتين وحكمت عليه بالإقامة الجبرية قام الفاتيكان، من قبيل المبالغة في الاعتذار، في 2008م بنحت مجسم ضخم لجاليليو أين؟ في الجدران الأمامية بقلب الفاتيكان وكأنه قديس وقد سبق قبل عقود أن اعتذرت الكنيسة له.

هذه نماذج عملية للتسامح مصدره رجال دين! تاريخ الغرب مليء بالأخطاء والحروب لكنه، في نفس الوقت، ملي بالتسامح وتصحيح الأخطاء. تاريخنا هو الآخر لا يخلو من أخطاء ارتكبت بدافع التعصب الديني والسياسي كتلك المرتبكة في الغرب لكنه يخلو، للأسف، من النماذج العملية للتسامح. ومدينة بغداد في لك هي الأولى بدون شك في قائمة المدن العربية.

لقد أخذنا من الغرب التلفون والكمبيوتر والانترنت.. والقائمة تطول: ما الذي يمنع أن نأخذ منه أيضاً بعضاً من قيم التسامح العملية التي أعرف أنها موجودة في قيمنا وديننا لكنها، لأسباب يطول شرحها، تحولت إلى مجرد كلمة مفرغة من الممارسة الحياتية.

هل يمتلك الحوثي شجاعة الاعتذار للمهجرين الذين أشرف رجاله على تشريدهم من مساكنهم التي بُني بعضها في صعدة منذ أكثر من 20 سنة (من بلدتي وحدها أكثر من عشرة)؟ ما يقال بحق الدولة أكثر مما يقال للحوثي بالتأكيد.

ثم أما آن الوقت بعد للاعتذار للمطرفية ولو بنصب تذكاري بسيط؟ ألم يحن الوقت لأصحاب الفتوى التكفيرية في حرب 94م الاعتذار؟ بل أما آن الاعتذار لضحايا المهرجان الانتخابي للرئيس في أستاد مدينة إب الرياضي؟ يا هؤلاء التسامح سلوك وليس كلمة. يا هؤلاء أف لكم ولأحقادكم الصغيرة!.


في السبت 28 أغسطس-آب 2010 10:19:31 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://m1.marebpress.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://m1.marebpress.com/articles.php?id=7823