وفاءً ينثر بلسماً..
دواس العقيلي
دواس العقيلي

كان يعيش أياماً مليئة بالإحباط وخيبة الأمل بعد أن تبدد حلمه بالتواجد في الحدث الهام الذي تستضيفه عدن، فقد كان موعوداً من قبل إدارة مؤسسته الإعلامية بأن يكون مبعوثها لتغطية الحدث بحكم تخصصه.

لم يكن يشك للحظة أنه سيكون بعيداً عن أجواء أهم حدث تستضيفه بلاده الذي حان وهو منتسب لوسيلة إعلامية يستطيع من خلالها التواجد بصورة رسمية.. وبين يديه فرصة ظهور لا تعوض للإبحار في تخصصه المهني الذي عشقه.. لكن الرياح جرت بما لا تشته أشرعته بفعل أهواء الإدارة التي إنحرفت نحو مسارات معاكسة!

عاش الشاب الموعود أياماً ولحظات مغلفة بالإحباط والصدمة.. فلم يكن حلم التواجد في عدن لتغطية البطولة هو وحده الذي تسرب بين يديه وهو ينظر إليه المفاجأة غير السعيدة فحسب، بل شعر بمرارات تلك المواعيد المغدورة وإنقلابات اللحظات الأخيرة بسوق ادارته أعذار واهية!

المرارات إمتدت لأن أصحاب القرار لم يلتفتوا إليه وهم يعرفون تماماً أنه المبتعث الأول للبطولة.. حيث أخفوا أنانيتهم المضمرة وتركوه إلى لحظة الحقيقة المرة عند قرب شارة انطلاق الحدث.. وكأنهم يقولون له لتعش في أحلامك الوردية وستصحو على كابوس عدم الالتفات لجهودك ومصادرة تطلعاتك.. وقد كانت لحظة الحقيقة من أقسي ما يكون لأن السراب كان إبنها الشرعي وما هو بالشرعي!

في تلك اللحظات التي يكابد مرارتها بين أنفاسه لا يدري أين الإتجاه.. وكيف يجازي هؤلاء الذين جعلوا الوهم يعيث فساداً.. في تلك اللحظات التي تجترها خواطره بين لحظة وأخرى حرقة والماً.. إذ ببابه يُطرق في لحظة غير معتادة طرقة رقيقة.. ليفتح الباب في الوقت الذي يرفع فيه رأسه المنحني من خيبة الأمل التي يعيشها وإذا به أمام فتاة بوجه صبوح.. ركضت دقات القلب بشكل مسموع وسطعت القشعريرة بشكل ملموس ثم لَملَم أطراف قشعريرته وبدأ يتأمل فيها في مشهد سينمائي يحتاج إلي موسيقي تصويرية مُعبرة.. وهو في لحظات التأمل تلك التي لا تخلو من تشتت تُوقد جذوته حرقة داخلية.. قالت له.. أنا وفاء ألا تتذكرني؟!.. أنا وفاء التي لقيتك في عدن قبل سنوات.. ثم أطلقت تنهيدة عميقة قبل أن تقول بصوت متهدج.. أنا لم أنساك!

إنخفض معدل القشعريرة في الوقت الذي إرتفع فيه معدل التأمل.. فآلامه التي يعيشها لحظتها مصدرها عدم بلوغه عدن!.. وهي تقول له ألا تتذكر لقاءنا في عدن!.. يااااه.. قالها بدهشة كبيرة تصبغها مفاجأة توقيت تلك الزيارة التي نثرت على زوايا وجدانه سعادة تطرزها البهجة.. لم يستطع إضافة المزيد لأن لسانه قد عقدته الدهشة من توقيت الزيارة المستحيل.. وإستحالة تلك الزيارة يعود إلي لحظتها الاسطورية تلك.. ما أجملها لحظة.. ما أروعها لُقيا.. لقد سلته وانتشلته بحضورها مما هو فيه.. كأنها جاءت واختارت توقيت الزيارة بعناية لا تخلو من الحدس وتوارد الخواطر!!.. كأنها جاءت مدركة لحظة الإنكسار التي يعيشها المسكين لتقول له إذا كان أصحاب القرار والمحيطين بهم قد خانوك وغدروك حتى أصبحت تؤمن أن احداً لم يشغل باله بك، فعليك أن تعرف أنك لا تسير وحيداً فهناك من يستشعرك ولم تسقط من ذاكرته من الأوفياء الذين قسوت عليهم وأهملتهم بعد أن منحوك كل أحاسيسهم وجزء كبير من نبضات قلوبهم..

* * *

يا لهذا القدر المحمول على أكف الرأفة الإلهية الذي ساقها إليه من وراء غياهب النسيان لتزيح عنه غيمة الاشجان في صورة لا تتجسد إلا في القصص والروايات التي لا نؤمن بواقعيتها..

بعد أن أفاق من تلك الأفكار التي سبحت به في بحور الدهشة ومحاولته جاهداً إعادة ترتيب تلك الأفكار الشاردة أجلسها على كرسي وثير وجلس أمامها على الأرض وهو يتحاشي أن ينظر إلي عينيها.. قبل أن تضربهما موجة من الصمت..

كسرت حاجز الصمت بقولها.. إنك لم تغب عن البال ابداً ولقد بذلت قصاري جهدي من أجل أن أصل إلي عنوانك حتى قادتني الصدف لاستدل مكانك.. لأن إسمك حُفر بقلبي ولم أستطع محوه رغم سنوات التنائي.. كان كلامها بمثابة السوط الذي يجلد ضميره ويزيد حسرته على من خانه وتركه في قاع إنكساراته وحيدا دون سؤال او مواساة..

واصلت حديثها وهي في موقع الرفعة والتسامي على جروحها.. أنا الآن في أحسن حال فقد مّن الله عليّ بإكمال دراستي العليا في أوروبا وأقضي حياة ملؤها السعادة والإصرار على المضي قدماً مهما إعترضتني الاشواك..

وهي تحدثه بحاضرها الزاهي وبقدر ما كان سعيدا ومسروراً لما آل اليه حالها لمعرفته بها كإنسانة جديرة بالخير، بقدر ما كان في موقف لا يُحسد عليه أمام هجرها بلا سبب ولا عتب.. راح يكيل لها من الأعذار والأسف ما كان منه.. وهي تقول له وهي متبسمة: على ماذا تعتذر؟!.. قال: وعينيه في الارض: على هجراني غير المبرر بلا سابق إنذار بعد لقاءنا في تلك المدينة الباسمة.. هجرتك يا رمز الوفاء وعلاقتنا في أسمى تجلياتها.. هجرتك وأخذتُ منعطفاً حاداً حتى قطعتُ أواصر تلك العلاقة الصادقة.. قالت له وهي تطلق العنان لنصف إبتسامة: وماذا ايضاً؟!.. كان المسكين يظن ان ذلك اكبر ما اقترف في حق ذلك الوفاء لأنه الفاعل.. والفاعل دوما ينسى ما قد يلحقه من أذى بمن جرحه.. وبعد أن ساق ما يتذكره من سهام أطلقها على ذلك الوفاء.. قالت له: هل أخبرك بما هو أعظم مما ذكرت؟!.. ثم إستطردت دون أن تنتظر جوابه قائلة.. أنسيت يوم بادرت بوصلك بعد هجرك واستقبلتني بتلك السخرية التي اذابت قلبي كمداً واسلت دماءه بخنجر شماتتك.. اتذكر يومها اخبرتني بكذا وكذا وكذا.. انت لا تدري حجم ما سببته لي من صدمة لا تزال ذكراها كابوساً يؤرق مضاجع ذاكرتي!

* * *

ذلك المسكين لم يتذكر.. وهي لم تدخر جهداً في سبيل تذكيره.. فقد كانت تعيد عليه فصول حلم يحاول الامساك بتلابيبه وتؤكد عليه إثباتاتها التي لا يستطيع الفرار من إداناتها... في تلك اللحظة.. شعر ضميره بصفعة شديدة الوقع لا يدري كيف يواريها؟ ولا اين يدفنها؟..

أردفت بقولها: بعدها تساميتُ على جراحي وحاولت طي صفحتك المريرة.. لكنني بعدها بزمن حاولت القفز على خطاياك.. وعزمت على وصلك ثانية لكني لم أجدك على عنوانك السابق.. ومن خلال كلماتها يزداد انحناءً وتقزماً أمام هول المفاجأت التي تطلقها عليه حتى بطحته أرضاً أمام قدميها.. وهي تقول له تسامَى يا عزيزي.. يكفيك إنبطاحاً.. يعزُ عليّ أن اراك هكذا على غدرك بي!

 فرد عليها وشجونه تعتصر وجدانه.. والعبارات تخون تفكيره: عرفتك إنسانة صادقة.. كريمة.. سامية المشاعر والأحاسيس.. تحبين إقتحام المصاعب.. وكنت فخوراً بك لأنك أول وآخر أنثى اشعر بها في حياتي بكل ما تحمله تلك المشاعر من معاني الخير وأحاسيس عنوانها الصفاء والإخلاص.. بعد انقطاعنا كانت ذكراك عطرة في وجداني وكنت ارتجي لك التوفيق والسعادة في حياتك كونك تستحقينها سيدتي..

الانبطاح تحت قدميك انما هو إجلال للوفاء الذي تحملينه بين جوانحك.. ويفيض دوماً ليسمو على جراحاتك الندية لتسكبينه بكل سعادة على من انقلب على عهوده وأعطاك ظهره.. لا.. بل أمعن في ذبح مشاعرك وأشمت فيك يوماً لا أذكره.. فأي وفاء هذا يا سيدتي وأين معينه الذي تنهلين منه..

يا لذكائك الخارق سيدتي.. لقد اخترتِ التوقيت المناسب لزيارتي.. كأنك تعلمين مدى مرارة الغدر وخيانة الوعد الذي أعيشه بسبب أصحاب القرار الذين قابلوا وفائي لهم وكدي اللا محدود بمصادرة حلمي أن أكون في عدن بين أحضان الحدث الذي أعشقه.. كأنك جئتِ لتقولين لي أتعرف الآن حجم مرارة الغدر بالوفاء الذي عشته سابقاً بسببك وتعيشه الآن بسبب من هم اقدر منك!.. تجرع كأس المرارة لعلك تفيق وتلتفت إلى من جرعتهم تلك الكأس!

سيدتي.. الآن آمنتُ بأن الحياة هي القصص التي نقرأها بكل شطحاتها.. والروايات التي نعيشها بكل متقلباتها.. فمن ساقك اليَّ في هذه اللحظة لتكوني سبب سلواي فيما أعيشه وسبب ألمي في تذكيرك لي بوفائك الذي ذبحته بيدي جعلني ادرك معنى زيارتك.. لقد تذوقتُ مرارة الجحود.. مثلك تماماً.. نعم سيدتي.. لقد تجرعتُ نفس الكأس الذي تجرعتيه بنفس العنوان (عدن).. يا لسخرية القدر!!

1/1/2011م.


في الإثنين 03 يناير-كانون الثاني 2011 05:09:39 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://m1.marebpress.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://m1.marebpress.com/articles.php?id=8676