روايات مروعة عن التعذيب في سجون الحوثيين

السبت 08 ديسمبر-كانون الأول 2018 الساعة 11 صباحاً / مأرب برس- الشرق الأوسط
عدد القراءات 3106
 

كان فاروق بعكر قيد الخدمة في مستشفى الرشيد حال وصول رجل ينزف بشدة إلى غرفة الطوارئ في المستشفى مصاباً بأعيرة نارية، وتبدو عليه علامات تعذيب بدني واضحة. ويبدو أنه تعرض للجلد بالسياط على ظهره مع تعليق جسده من رسغيه لأيام عدة.

 

وعلم بعكر أن ذلك المريض قد ألقي به على جانب إحدى الطرق السريعة بعد احتجازه لفترة غير معلومة في أحد السجون التي يديرها المتمردون الحوثيون الذين تسيطر قواتهم على شمال اليمن.

 

وأمضى بعكر ساعات عدة محاولاً نزع الرصاصات من جسد الرجل وعلاج أمعائه التي تمزقت. وتوقع أن يستعيد الرجل المريض عافيته في غضون 80 يوماً على أقل تقدير، ووافق في نهاية الأمر على التقاط صورة شخصية معه.

 

وبعد أسابيع عدة، اعتقل مسؤولو الأمن الحوثيون الرجل مرة أخرى، وفتشوا هاتفه المحمول ليعثروا على تلك الصورة. ومن ثم جاؤوا إلى المستشفى بحثاً عن فاروق بعكر.

 

اقتحم رجال الميليشيات الحوثية مبنى المستشفى، وعصبوا عيني بعكر، ونقلوه إلى موضع مجهول باستخدام شاحنة نقل صغيرة. ونظراً لأنه قدم الرعاية الطبية لأحد أعداء الميليشيات الحوثية، كما قالوا له، فإنهم يعدّونه من جملة الأعداء كذلك. ومن ثم، قضى فاروق بعكر عاماً ونصف العام في السجون الواقعة ضمن الأراضي التي يسيطر عليها الحوثيون في اليمن. وقال: إنهم أحرقوه بالنار، وضربوه بشدة، وقيّدوه إلى السقف من رسغيه لمدة 50 يوماً متتالية حتى ظنوا أنه فارق الحياة. يعد فاروق والرجل المريض من بين آلاف المواطنين الذين تعرضوا للسجن على أيدي الميليشيات الحوثية المسلحة خلال السنوات الأربع الماضية. وتعرض الكثيرون منهم، كما ظهر في التحقيق الصحافي الذي أجرته وكالة «أسوشييتد برس» الإخبارية، إلى التعذيب البدني الشديد: من تحطيم وجوههم بالهراوات، أو تعليق بواسطة السلاسل المعدنية من المعصم، أو من أعضائهم التناسلية لمدة أسبوع في إحدى المرات، فضلاً عن حرقهم باستخدام المواد الكيميائية الحارقة.

 

تحدثت وكالة «أسوشييتد برس» الإخبارية مع 23 شخصاً ممن قالوا إنهم نجوا من التعذيب أو كانوا شهود عيان عليه في مواقع الاحتجاز الحوثية، كما تحدثت الوكالة مع 8 من أقارب المعتقلين، و5 من المحامين والنشطاء الحقوقيين، و3 من ضباط الأمن المشاركين في عمليات مبادلة السجناء الذين قالوا: إنهم شاهدوا علامات تعذيب بدني واضحة على أجساد السجناء المطلق سراحهم.

 

تؤكد هذه الروايات على أهمية اتفاق تبادل السجناء الذي تم التوصل إليه أول من أمس (الخميس) مع بدء محادثات السلام تحت رعاية الأمم المتحدة في السويد بين المتمردين الحوثيين والحكومة الشرعية اليمنية.

 

ووافق الطرفان، كإجراء من إجراءات بناء الثقة المتبادلة، على إطلاق سراح آلاف السجناء، على الرغم من أنه لا يزال يلزم الاتفاق على جملة من التفاصيل المعنية. لكن، في حين أن الشرعية قد أعلنت عن إطلاق سراح المعتقلين الحوثيين المحتجزين لديها، فمن شأن المتمردين أن يطلقوا سراح المدنيين على غرار فاروق بعكر، الذين تعرضوا للسجن ضمن حملات وحشية تهدف إلى قمع وإخماد المعارضة واحتجاز الأسرى الذين يمكن تحريرهم لقاء الحصول على الفدى المالية، أو مبادلتهم مقابل عناصرهم المحتجزين لدى الطرف الآخر.

 

وعمل «اتحاد أمهات المختطفين»، وهو جمعية نسوية لأقارب المعتقلين لدى الميليشيات الحوثية، على توثيق أكثر من 18 ألف معتقل لديهم خلال السنوات الأربع الماضية، بما في ذلك ألف حالة من حالات التعذيب الشديد في شبكة السجون السرية التابعة للحوثيين، وذلك وفقاً إلى صباح محمد، ممثلة الاتحاد المذكور في مدينة مأرب.

 

وقال «اتحاد الأمهات»: إن هناك 126 معتقلاً على الأقل قد لقوا حتفهم جراء التعذيب الشديد منذ استيلاء الميليشيات الحوثية على العاصمة اليمنية صنعاء في أواخر عام 2014.

 

وكانت الميليشيات الحوثية تستخدم المساجد، والقلاع القديمة، والكليات، والنوادي، وغيرها من المنشآت المدنية الأخرى، كمراكز استقبال مبدئية لآلاف المعتقلين قبل نقلهم إلى شبكة السجون الرسمية لدى الحركة؛ وذلك وفقاً لشهادات الضحايا وإفادات وكالات حقوق الإنسان. وعمل «اتحاد أمهات المختطفين» على إحصاء 30 موقعاً من السجون السرية التابعة للحركة في العاصمة صنعاء وحدها.

 

ولقد نفى قادة التمرد الحوثي من قبل ضلوع قواتهم في ممارسات التعذيب، على الرغم من أنهم التزموا الصمت المطبق حيال طلبات وكالة «أسوشييتد برس» المتكررة للتعليق على الأمر في الأسابيع الأخيرة.

 

وقالت ما يسمى وزارة حقوق الإنسان التابعة للمتمردين في بيان صادر عنها أواخر عام 2016: إنه «لا توجد سياسة أو تطبيق ممنهج للتعذيب بحق السجناء لدى الحركة». وأضافت الوزارة الحوثية في بيانها تقول: إنها والمدعين العامين يعملون دائماً على «ضمان حقوق السجناء وتوافر كافة الضمانات القانونية لهم من أجل المحاكمات المنصفة وتحقيقاً للعدالة». وكانت الانتهاكات التي يرتكبها الحوثيون أقل ظهوراً لدى العالم الخارجي، حيث عمل المتمردون دوماً على إخماد المعارضة وإسكات الصحافيين والمراسلين.

 

كان أحد السجناء السابقين لدى المتمردين الحوثيين، من الذين تحدثوا إلى وكالة «أسوشييتد برس» الإخبارية، يعمل مدرساً من مدينة ذمار الشمالية، وقد فر هارباً إلى مدينة مأرب الخاضعة لسيطرة القوات المعارضة للحركة الحوثية المتمردة في البلاد. ولقد طلب ذكر اسمه الأول فقط «حسين»؛ لأنه يخشى على سلامة أسرته الذين لا يزالون يعيشون في أراضي المتمردين.

 

وكان حسين محتجزاً لدى المتمردين لمدة 4 أشهر و22 يوماً في زنزانة تحت الأرض. وكان معصوب العينين طوال فترة احتجازه، غير أنه حاول حساب عدد الأيام باتباع آذان الصلاة يومياً. وخلال فترة احتجازه هناك، كما قال، تعرض للضرب المبرح بالقضبان الحديدية على أيدي محتجزيه، الذين قالوا له إنه سوف يموت في سجنه هذا، وأخبروه «اكتب وصيتك يا هذا» فسوف تموت قريباً.

 

- دموع من دم

 

في عام 2016 اعترفت جهات حوثية بارتكاب وقائع تعذيب. وشكّل يحيى الحوثي، شقيق زعيم الحركة، لجنة للتحقيق في تلك التقارير الإخبارية التي تؤكد ارتكاب انتهاكات وتعذيب واحتجاز مفتوح المدة، كما ساعد على تحرير 13500 سجين خلال الأشهر الثلاثة الأولى من ذلك العام.

 

وأرسلت اللجنة المذكورة تقريراً مصوراً إلى عبد الملك الحوثي، زعيم الحركة، يعرض مشاهد لعنابر السجون المكتظة بالمعتقلين، والسجناء المصابين، إلى جانب شهادات من شخصيات حوثية لها ثقلها في الحركة. ولم تصدر أي استجابة من قبل عبد الملك الحوثي على هذا التقرير. بدلاً من ذلك، قام عدد من مسؤولي الأمن في الحركة بوقف عمل اللجنة، وخضع اثنان من أعضائها للاحتجاز المؤقت.

 

ولم يخرج ذلك التقرير المصور إلى المجال العام، غير أن وكالة «أسوشييتد برس» قد تمكنت من الحصول على نسخة منه، وهو يحتوي على اعترافات مثيرة للذهول من شخصيات حوثية بارزة بشأن الانتهاكات المشار إليها. وقال أحد أعضاء اللجنة معلقاً في التقرير: «إن ما رأيناه ليدفعنا للبكاء بدموع الدم».

 

- ساعدوني

 

كانت الشهور القليلة الأولى في أي موقع اعتقال تابع للحوثيين هي الأسوأ في المعتاد، كما يقول السجناء السابقون، وهي التي تشهد أساليب التعذيب والانتهاكات الارتجالية من جانب المتمردين الحوثيين.

 

يحاول أنس السراري استعادة وعيه شيئاً فشيئاً في ذلك الدهليز المظلم داخل سجن الأمن السياسي في العاصمة صنعاء. وكان المعارض البالغ من العمر 26 عاماً تعرض لوحشية من عناصر الحركة الحوثية، ممسكاً برأسه بكلتا يديه المتورمتين ورسغيه المجروحين، مع ومضات شرسة من شهور التعذيب المروع تتسابق إلى ذهنه.

 

كان يتناول الذرة المشوية عندما اختطفته الميليشيات الحوثية من أحد الشوارع الرئيسية في صنعاء صباح أحد الأيام من سبتمبر (أيلول) لعام 2015.

 

ويتذكر أنه ظل معلقاً لمدة 23 يوماً كاملة من رسغيه المقيدين إلى السقف في غرفة الاستجواب ذات الرائحة الخانقة؛ حتى تسلل الخدر إلى أصابعه وذراعيه وأغلب مواضع جسده. وبدأت الأصفاد في شق رسغيه بشدة، وحاول الاستناد إلى أصابع قدميه عله ينال بعض الراحة.

 

وقال متذكراً تلك الأوقات العصيبة: «لا بد أن الموت أقل إيلاماً من ذلك التعذيب المستمر دون توقف. كنت سألقي حتفي لا محالة لو استمر الأمر ساعة أخرى».

 

كان السجانون يحررونه من أصفاده لمدة ساعتين يومياً. وكان يقتات على خبز جاف، وبعض من الخضر والأرز القذر المضمخ بالحشرات. وعندما منحوه بعض الزبادي، تمكن من قراءة تاريخ الصلاحية على العلبة، ومن ثم تمكن من حساب ما فات من الزمن عليه في محبسه.

 

وقال أنس السراري: «لا تعلم أمي إن كنت فعلاً على قيد الحياة أم واروني التراب». وتذكّر رؤيته للسجان يستخدم جهاز صعق كهربائياً في تعذيبه على رأسه بكل قوته قبل أن ينهار مغشياً عليه.

 

وهو لا يعرف كم من الوقت قد مرّ عليه قبل أن يحرره السجانون ويلقوا به في الممر الضيق. وحاول مراراً الوقوف على قدميه مع عجزه التام عن ذلك، وقال: «لا بد أنه كابوس شديد؟».

 

وفي وضح النهار، حاول التحرك مرة أخرى، لكنه فشل مجدداً، وصرخ قائلاً: «ساعدوني». فما كان من الحوثيين إلا أن سحبوه إلى زنزانة في السجن، وهناك فقط أدرك إصابته بالشلل. ولم يكن هناك من يتحدث إليه، ولا من يذهب به إلى دورة المياه. وكان يقضي حاجته في مكانه كطفل رضيع يعجز عن الاعتناء بنفسه.

 

وكان الحراس يأخذونه في بعض الأحيان للاغتسال ثم يعودون به إلى الزنزانة القذرة مرة أخرى، حيث كان يضرب رأسه في الحائط بيأس شديد. وبعد مرور 4 أشهر كاملة، سمحوا له بالاغتسال ثم أطلقوا سراحه.

 

قدم أنس السراري سجلاته الطبية إلى وكالة «أسوشييتد برس» الإخبارية. وهو يتحرك الآن على كرسي بعجلات، ويعتقد أن الغرض الرئيسي من تعذيبه ثم إطلاق سراح كان البعث برسالة إلى الآخرين ممن يفكرون في انتقاد أو معارضة الحوثيين في البلاد.

 

وقال أنس: «إن رؤية الأشخاص من ذوي الإعاقة عند خروجهم من السجن بعد التعذيب الشديد تبعث على الفزع المفرط وترويع قلوب الآخرين الذين يقولون: انظروا! هذا ما ينتظركم إن فتحتم أفواهكم».

 

- غرفة الضغط

 

كانت الصورة الذاتية لفاروق بعكر مع السجين الهارب هي كل الأدلة التي احتاج إليها 7 رجال من الميليشيات الحوثية لاتهامه بعدم الولاء والخيانة عندما جاؤوا لاعتقاله في مستشفى الرشيد. وسأله أحدهم صارخاً في وجهه: «كم دفعوا لك من أموال لعلاج الخونة؟».

 

وقال فاروق بعكر إنهم صفعوه وركلوه وضربوه بالهراوات على وجهه وأسنانه وجسده، وسخروا منه قائلين: «سوف تموت لأنك خائن». ثم اقتادوه إلى مكان مجهول وأوقفوه على صندوق خشبي وربطوا رسغيه إلى السقف ثم دفعوا بالصندوق من تحت قدميه بعيداً.

 

وقال، إنهم جردوه من ملابسه وجلدوه بالسياط، ثم خلعوا أظافره ومزّقوا شعر رأسه حتى أغشي عليه. كان التعذيب مؤلماً للغاية، كما قال، ولا سيما عندما جاؤوا في الأيام التالية ليزيدوا الضغط على الكدمات والجروح المتقيحة في جسده. وازداد الحوثيون ارتجالاً وابتكاراً في أساليب التعذيب، كما يقول بعكر. فلقد جاؤوا ذات مرة بزجاجات بلاستيكية وأشعلوا فيها النار ثم أسقطوا البلاستيك المذاب منها على جسده المكشوف من قمة رأسه وحتى أخمص قدميه.

 

ثم نقلوه، في نهاية الأمر، إلى قلعة الحديدة التي يرجع تاريخها إلى 500 عام من العهد العثماني وتقع على ساحل البحر الأحمر. يقول بعكر أن حراس القلعة دفعوه إلى قبو مظلم وقذر يعرفونه باسم «غرفة الضغط»، وعلقوه هناك من رسغيه مرة أخرى في زاوية مظلمة من الغرفة، حيث كان يرى جثث القطط الميتة وبعض الأصابع البشرية الممزقة على الأرض.

 

وعندما ناله الإجهاد والظمأ، ألقى السجانون بالمياه على وجهه من دون أن يشرب. وفي بعض الأحيان، كانوا يسمحون لأحد السجناء الآخرين بالدخول إلى الغرفة وإعطائه بعض الماء من زجاجة هناك.

 

وفي اليوم الذي ظن الحراس أن فاروق بعكر قد فارق الحياة، ثم أدركوا أنه لا يزال حياً، فكوا وثاقه من السقف وسمحوا للسجناء بإطعامه وتنظيف جسده.

 

بدأ بعكر في استعادة وعيه والتعافي من جروحه، وكان المعتقلون الآخرون الذين يتعرضون للتعذيب يطلبون منه المساعدة. ولقد حاول علاج بعض الجروح. وأجرى بعض الجراحات البسيطة للغاية لبعضهم، من دون تخدير وباستخدام الأسلاك الكهربائية العارية، حيث كانت هي الأداة الوحيدة المتوفرة في ذلك السجن القميء.

 

وفي بعض الأوقات كان الحراس يسمحون له بممارسة عمله الطبي، وفي أوقات أخرى، كانوا ينقلبون عليه ويعاقبونه عند مساعدته لإخوانه المعتقلين.

 

ويتذكر بعكر مساعدته رجلاً كان عاجزاً عن التبول؛ لأن الحوثيين علقوه من بين فخذيه. وكان هناك رجل آخر بلحية بيضاء وشعر أبيض مصاب بحروق شديدة بسبب الحمض الذي ألقاه الحراس على ظهره؛ مما أذاب بشرته تماماً حتى صار الرجل عاجزا عن الإخراج كبقية الناس. وقال بعكر: «عندما طلبت مساعدة الحراس لأن الرجل العجوز كان يحتضر، كان ردهم الوحيد هو: (دعه يموت)».

 

وأطلق الحوثيون سراح فاروق بعكر في 3 ديسمبر (كانون الأول) من عام 2017 بعد أن سددت عائلته مبلغاً وقدره 5.5 مليون ريال يمني، أو ما يوازي 8 آلاف دولار فدية إلى الميليشيات الحوثية في صنعاء. وبعد فترة وجيزة من فراره إلى مدينة مأرب، معقل المعارضة المناهضة للحركة الحوثية، كان يعيش في خيمة رفقة اللاجئين الآخرين من بني وطنه، حيث واصل عمله المعتاد في علاج المرضى والجرحى والمصابين.

 
اكثر خبر قراءة أخبار اليمن